حنين إلى الأشياء البسيطة

حنين إلى الأشياء البسيطة

عندما تم اختياري معيداً بالجامعة بعد حصولي على درجة الليسانس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى سنة 1967, كان القسم الذي قدّر لي أن ألازمه بقية العمر, باحثاً ومدرساً وأستاذاً هو قسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن, وأدركت بعد هدوء موجة الفرح الأولى, أنني في ورطة لأنني لا أملك الوسائل الضرورية للتفوق في هذه المجالات المتعددة التي يحملها عنوان القسم المتشعب, وإذا كان مجال البلاغة يمكن ارتياد مراجعه ومصادره بطريقة أو بأخرى من خلال ما كتب باللغة العربية وحدها - وقد تبين لي فيما بعد عدم دقة هذا التصور - فإن المجالين الآخرين النقد الأدبي والحديث عنه خاصة, والأدب المقارن لا يمكن تثبيت الأقدام في مجالاتهما وإضافة شيء ذي بال إلا من خلال اتصال وثيق بإحدى لغات الثقافة العالمية الحديثة وهو ما لم تكن دراساتي في الأزهر ودار العلوم قد وفرته لي بطريقة مُرضية, وكان واقع روّاد هذه الفروع في الدراسات العربية يؤكد ذلك بدءاً من حركة رفاعة الطهطاوي ووصولاً إلى مندور وغنيمي هلال وتلامذتهما في الجيل السابق علينا, وكان واقع الذين لا يتصلون بلغة أجنبية ممن يعملون في هذا المجال, تجسّده عبارة سمعتها من د. غنيمي هلال وهو يتحدث عن التقارير العلمية التي كتبت عن منافسه على درجة أستاذية النقد الأدبي والأدب المقارن, حين كتب مهدي علام عن هذا المنافس: (إن عدم معرفته بلغة أجنبية يجعله يدلي بدلوه في هذا المجال فيخرج الدلو في معظم الأحايين فارغاً لا شيء به, ويخرج في أحيان قليلة وبه وشلٌ لا يفيد).

حلم يتأجل

ومن هنا كان حلم الابتعاث وإكمال الدراسات العليا في إحدى الجامعات الأجنبية وقد توهج ذلك الحلم في أواخر فترة الدراسة الجامعية عندما عاد إلى دار العلوم سنة 1965 عدد من الحاصلين على الدكتوراه من الجامعات الإنجليزية والإسبانية, (الطاهر مكي) و (السعيد بدوي) و(عبدالحكيم حسان) و(محمود الربيعي) و(حمدي السكوت) و(أحمد مختار) فضخوا دماء جديدة, وقدموا نماذج باهرة حلمنا باقتفاء آثارها من خلال البعثات التي كانت تتاح للمعيدين, لكن سوء الحظ جعلنا نتخرج في عام النكسة (1967) الذي أوقفت بعده كل البعثات ووجهت كل الميزانيات إلى (المجهود الحربي), ونام الحلم مؤقتاً, وشرعنا في إعداد الماجستير تحت إشراف رئيس القسم الدكتور بدوي طبانه حول (الصورة الأدبية في البلاغة والنقد العربي) والتدريس في دار العلوم, ومواصلة العمل في الصحافة, ومتابعة المترجمات والمؤلفات المتصلة بمجالات بحثي, والمشاركة في الحياة الأدبية بقدر ما أستطيع, وعندما حصلت على درجة الماجستير سنة 1972 كان قرار البعثات مازال مجمّداً فيما عدا بعض المنح التي كانت تقدمها الجامعات الروسية ودول الكتلة الشرقية آنذاك, ولم تكن سمعتها العلمية في مجال التخصص الذي ننتمي إليه ترضي ما كنا نحلم به في الجامعات الغربية, وسجلت لدرجة الدكتوراه في دار العلوم تحت إشراف الدكتور محمود الربيعي حول (الصورة عند شعراء التجديد في العصر العباسي), وتقدمت في العمل فيها نحو عامين قطعت خلالهما شوطاً لابأس به, وفجأة فتح باب البعثات سنة 1973, ونشرت الصحف إعلاناً عن (الخطة الأولى للبعثات) وبها بعثة عن (النقد الأدبي الحديث) إلى فرنسا, واستيقظ الحلم من جديد, وتوارد على الذهن أسماء الذين اتصلوا بالثقافة الفرنسية في مجال الإبداع والنقد وحققوا علامات بارزة في تطور الفكر والأدب العربي الحديث, رفاعة الطهطاوي, أحمد شوقي, طه حسين, خليل مطران, توفيق الحكيم, محمد حسين هيكل, محمود تيمور, محمد مندور, إبراهيم سلامة, إبراهيم مدكور, محمود قاسم, غنيمي هلال... إلخ, لكن العقبات كانت تقفز كذلك أمام العين, فالمرشحون الذين ينتظرون هذه البعثة كثيرون يتراكمون منذ أوقفت الحرب البعثات, ونصيبي من اللغة الفرنسية منعدم, وطوال المدة التي يقضيها طالب (دكتوراه الدولة) في فرنسا تشكّل شبحاً مرعباً يصل إلى خمسة عشر عاماً في بعض الأحايين, والرصيد الوظيفي الذي ادخرته خلال سبع سنوات من العمل في الجامعة عليه أن ينسحب لأنني سأبدأ من جديد, ومكاني في ترتيب الأقدميات عليه أن يتراجع وسأعود لأجد تلاميذي رؤساء لي, والأسرة التي بدأت في تكوينها عليّ أن أحملها معي فتثقل حركتي حيناً وتتحمل معي حصاد الأحلام والأوهام حيناً آخر, واستهنت بكل هذه العقبات وتقدمت إلى البعثة مع غيري, وحين ظهرت النتيجة كنت مرشحاً احتياطياً, وكان المرشح الأصلي زميلاً يسبقني في التخرج بثلاث سنوات, وكان على وشك إنهاء رسالته للدكتوراه, ولم تكن البوادر توحي بعزمه على خوض مشاق الدراسة بالخارج, ومع ذلك فقد قبل الترشيح, وظل يسافر مع المرشحين الآخرين في جولات داخلية سياحية كانت تعدها الدولة لهم إلى مدن القناة في أعقاب انتصار سنة 1973, والمدن الأثرية في الجنوب, وفي الوقت نفسه كان يشمر عن ساعديه لإكمال رسالته في الداخل ومناقشتها, كان يبطنها للعمل في الداخل كأنه سيستقر فيه أبداً, ويظهر العمل للبعثة كأنه سيسافر إليها غداً, وسافر كل أعضاء الخطة الأولى للبعثات إلا هو, وظل يعطّلني عاماً كاملاً لا يسافر ولا يريدني أن أسافر, حتى كتبت رسالة مفتوحة إلى مدير البعثات في صحيفة يومية, فاستدعوه لكي يخيّروه بين السفر الفوري أو التنازل, وفي أعقابها استدعوني على عجل لكي يطلبوا مني أن أرتب أمور سفري إلى فرنسا في أسبوع واحد وإلا ألغيت البعثة, ولم يكن أمامي مفر من القبول دون أي فرصة للتأهب, بعد أن أضاع عليّ زميلي فرصة التأهب التي حظي بها الآخرون, ومن العجيب أنه ناقش رسالته للدكتوراه بعد أسابيع قليلة من سفري!!

ووجدتني في الطريق إلى باريس وحيداً محمّلاً بعشرات الوصايا, وبالملابس الثقيلة والخفيفة, وحتى ببعض الأطعمة, وقبل هذا كله وبعده بطموح عظيم ممزوج برهبة عظيمة, ولم يستقبلني في المطار أحد, وخضت مع بعض الذين التقيت بهم من الحائرين أمثالي ربكة الدخول إلى مدينة كبرى كباريس دون دليل, وكدنا نقضي الليل بعد جولة مضنية على الفنادق في عراء بدايات الخريف الباردة, لولا أن آوانا طالب هندي في المدينة الجامعية الدولية في حجرته الصغيرة على أن نغادرها مع خيوط الفجر الأولى, وانسحبنا دون هدى, لنلتقي بباعة التفاح والورود وهم يرتبون بضائعهم على عرباتهم مع ندى الصباح المبكر, وقضمنا التفاح وشممنا الورود, ونسينا متاعب الليلة الأولى.

لم تمض عليّ أيام قليلة في باريس حتى بحثت عن أستاذي القديم الدكتور محمد فتحي عبدالمنعم الذي كان قد قاد خطاي ببصيرته المتوهجة, رغم بصره المكفوف, في المرحلة الثانوية في الأزهر, وكان مقيماً في باريس على منحة من المركز القومي للأبحاث (C.N.R.S) يهتم خلالها بدراسة مقارنة الأديان والتقريب بين أتباعها, وكان ذائع الصيت في أوساط المستشرقين بما يمتلك من غزارة معرفة وسرعة بديهة وسعة أفق وسيطرة رائعة على اللغة الفرنسية, ولقد سعدت كثيراً بلقائه في باريس, وأحسست لديه بفرحة الأب بابنه العائد, وقاد خطاي هذه المرة على المستوي الحسّي والمعنوي في باريس وكان يحدّثني في جولاتنا الكثيرة على الأقدام في شوارع مدينة النور عن آفاق الفنون الرحبة ومجالات الإبداع المختلفة ومناحي تذوق الجمال في شتى تجلياته, ثم قادني في النهاية إلى المستشرق الكبير أندريه ميكيل فقدمني إليه وزكّاني عنده ورجاه أن يقبل الإشراف على بحوثي لنيل درجة دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية, فقبل رغم كثرة مشاغله وأعبائه.

أستاذ كبير

كان أندريه ميكيل وقتها على مشارف الخمسين, أكاديمياً لامعاً, يشغل منصب عميد معهد الدراسات الشرقية والهندية بجامعة السوربون الجديد (باريس3), وقد اكتسب شهرة في الأوساط العلمية بدراسته عن (الجغرافيا الإنسانية عند العرب) وهي الدراسة التي اهتمت بالروح التي كانت تسود في الإمبراطورية الإسلامية في أوج مجدها واتساعها, ونظرتها إلى بقاع الأرض المترامية من وجهة نظر (الدولة العظمى) المشبعة بالإخاء الإنساني, وفي هذا المجال رصد نمطاً من الأدب الشعبي الجغرافي وأدب الرحلات لم يكن يجد اهتماماً كبيراً عند مصنفي الأدب العربي, وكانت تجربة أندريه ميكيل في المشرق العربي عميقة, فقد أقام في سوريا فترة طويلة, وعمل في مصر مستشاراً ثقافياً لفرنسا في عهد عبدالناصر في فترة مباحثات استقلال الجزائر,

وقد استمرت صحبتي العلمية والشخصية أحياناً لأندريه ميكيل نحو ثماني سنوات قضيتها في باريس, وكانت قد بدأت منذ لقائي به وهو عميد لمعهد الدراسات الشرقية في مكتب واسع فخم, به ثلاث من الفتيات الجميلات يتحركن في رشاقة الغزال ويرسمن ابتسامة دائمة, ولا يتوقفن عن العمل والإجابة على التساؤلات, وحسدت ميكيل عليهن, ولم تساعدني لغتي المتعثرة إلا على اختزان الانبهار باللحظة وتمثله وتحويلها إلى أول قصيدة كتبتها في باريس, لكن هذا النعيم الذي حسدت عليه ميكيل, مالبث أن تنازل عنه مختاراً بل ومبتهجاً إلى مكتب آخر شديد التقشف عندما تم اختياره عضواً بالكوليج دي فرانس في كرسي الدراسات المصرية الذي خلا برحيل هنري لاوست, وظننت أنه سينتقل إلى مكان أكثر فخامة وأبّهة, وعندما زرته للتهنئة في مبنى الكوليج دي فرانس القديم المتداعي بجوار مبنى جامعة السوربون القديمة, فوجئت, كان مكتبه عبارة عن كرسي ومائدة في وسط صالة مكتبة واسعة كبيرة بها آلاف المجلدات عن الدراسات العربية والإسلامية, وقبله بخطوات تجلس على مائدة أكثر تواضعاً, سكرتيرة عجوز - لا تثير شعراً ولا نثراً - تنظم مواعيده مع طلابه وزائريه, وكان من مقعده المتواضع الرفيع يحلق في سماء الفكر والإبداع بعد أن تخفف من بعض مظاهر أبهة المكاتب.

وتابعت عن قرب نظام المحاضرات في الكوليج دي فرانس, بعد أن قضيت زهاء عام في دراسة اللغة والحضارة كان مشحوناً بالتوتر والطموح والتعثر والنهوض, لكنه ساعد في هز كثير من مظاهر الرضا عن النفس التي كانت قد تراكمت عبر منصّات المحاضرات والندوات وألقى الضوء على فراغات كان لابد أن يندفع لها هواء جديد, وكان ميكيل قد أوصاني في كلامه الموجز بأن أضع خبرتي السابقة بين قوسين فسأحتاج للعودة إليها عندما أكتسب مزيداً من الخبرة في طرح التساؤلات, ومزيداً من الدقة في رؤية درجات اللون الفاصلة بين الأبيض والأسود.

كان نظام (الكوليج دي فرانس) التي أسست سنة 1529 يقوم على نظام الجامعة المفتوحة, وكان ينتخب لها في كل فرع من فروع المعرفة أبرز عالم في فرنسا, وإليها ينتمي أشهر الباحثين في مجالات المعرفة مثل باستير وشامبليون وكلود برنارد وفاليري, وهي جامعة حرة, لا تمنح شهادات - ومن أجل هذا ظلت رسائلنا للدكتوراه مقيدة في جامعة السوربون الجديدة - ومحاضراتها مفتوحة للراغبين دون قيود, وليس بها طلبة مسجلون, ويعرض الأستاذ موضوع محاضراته في الصحف ليحضرها من يشاء, وعبء الأستاذ في الأسبوع ساعتان إحداهما محاضرة عامة, والأخرى حلقة بحث للنقاش, ولا يزيد موسمه السنوي على أربعة أشهر وكانت حلقة البحث عند ميكيل ملتقى كثير من أساتذة الجامعات في باريس إلى جانب الطلاب الفرنسيين والأجانب الذين يعدون رسائلهم للدكتوراه, وكان النقاش فيها ثرياً وممتعاً ومفيداً, وكان التواضع العلمي سمة النقاش ورئيس الحلقة يصغي باهتمام لكل ما يوجه إليه من ملاحظات, ولا يتردد في الاعتراف بالخطأ وتصحيحه, والعودة في الأسبوع التالي ليعلن لأناس جدد لم يكونوا من حضور الحلقة السابقة, أنه كان قد وقع في استنتاج خاطئ, وأن أحد الباحثين - وقد يكون من تلاميذه - نبّهه إلى ذلك, وأنه يعتذر ويشكر الملاحظة, ويعود فيطرح استنتاجاً جديداً.

ولم تكن حدود الاهتمام بالمحاضرات تقف عند الكوليج دي فرانس وحدها برغم التنوع الكبير لفروع المعرفة التي تهتم بها, ويكفي أن بها قسماً للمصريات يمتد إلى شامبليون مكتشف حجر رشيد ويقدم سيلاً من الدراسات عن الحضارة المصرية الفرعونية التي يولع الفرنسيون بها ولعاً شديداً, ويعتبرون أنفسهم شركاء في صنعها من خلال فك رموزها وتقديمها للعالم, لكن المحاضرات كانت متابعتها تمتد إلى السوربون القديمة المجاورة وفيها (اتيامبل) شيخ الأدب المقارن, و(شارل ببللا) شيخ المستشرقين إلى جانب (مونان) ومحاضراته عن علم اللغة ومشاكل الترجمة, وهنالك مدرسة المعلمين العليا حيث محاضرات (جيرار جبنيت) عن قضايا الشعرية ومناقشة آراء (رولاند بارت) في تقنيات التحليل الشعري والقصصي و(جون كوين) حول (بناء لغة الشعر) ومناقشة آراء (جاكوبسون) ومدارس اللغوبين المحدثين, وهنالك المكتبات التي يتم ارتيادها بانتظام, ومنها (المكتبة الوطنية) الكبرى, بنظامها الدقيق الذي تحجز من خلاله مقاعدها المحدودة والمرقمة وفقاً لترتيب الحضور, وكان يدهشنا أن نجد عبدالرحمن بدوي في شيخوخته يحرص على أن يكون من أوائل الحاضرين, وأن يحجز مقعداً ثابتاً في المقاعد الأولى لا يغيره ويبذل من أجل المحافظة عليه, ضريبة الحضور المبكر بانتظام, وإلى جانب ذلك كانت هناك عروض (الكوميدي فرانسيز) التي تقدم بأسعار مخفضة للطلاب, وندوات الشعر التي تعقد في الجاليريهات ومداخل الفنادق وشاشات التلفزيون وقنوات الإذاعة التي تبث حواراً فكرياً وفنياً وسياسياً ثرياً وحياً ومتنوعاً على امتداد اليوم. كانت باريس كلها مدرسة متنوعة يستطيع كل مذاق أن يجد فيها ما يروي ظمأه, وعليك أن تحسن الاختيار, وأن تحدد الهدف, وألا ترتبك أمام كثرة الأضواء وغنى الموائد, وأن تظل النقطة البعيدة الرئيسة أمام عينيك لا تشغل عنها بإغراءات النقاط التفصيلية التي تظهر دونها.

ومع التقدم في إعداد رسالة الدكتوراه حول مدرسة خليل مطران الشعرية وتأثراتها الفرنسية, بدأ النشاط العلمي والفني الموازي, اكتشفت ميلاً إلى (الترجمة) من الفرنسية إلى العربية, وحين قمت بتجربتي الأولى في ترجمة دراسة حول (تأثر لافونتي بابن المقفع) وجدت صدى طيباً لدى ميكيل وكان مؤلفها, ولدى فتحي عبدالمنعم قبل أن يرحل عن باريس وبعدها بشهور قلائل عن عالمنا, وحين وجدت المقال على صفحات مجلة الثقافة, تشجعت في ترجمة مقال آخر لبلاشير حول تأثير القرآن في نشأة المعجم نشرته مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة, وتتابعت المقالات مركزة على الأدب العربي من وجهة النظر الفرنسية, وقد صدرت بعد ذلك في كتاب (رؤية فرنسية للأدب العربي) عن (الثقافة الجماهيرية) وكتاب (الاستشراق الفرنسي والأدب العربي) عن (هيئة الكتاب), وخضت تجربة ترجمة الشعر الفرنسي إلى شعر عربي, ونشرت في الصحف العربية قصائد متفرفة لـ(فكتور هيجو) و (جاك بريفير), ثم ركزت على (بريفير) فترجمت له ما يكاد يشكل مجموعة متوسطة من ديوانه (كلمات) وكان يواكب هذا كتابتي للشعر بين الحين والحين حتى كان حصاد باريس ديواناً نشرت بعض قصائده لكنه لم ينشر كاملاً, ونشرت كذلك ترجمة للملحمة الشعرية الفرنسية (أنشودة رولاند) التي تتحدث عن صراع الإسلام والمسيحية في إسبانيا وفرنسا, وضمنتها بعد ذلك في كتابي (الأدب المقارن النظرية والتطبيق) الذي صدر بعد عودتي من البعثة في منتصف الثمانينيات, وكنت قد عقدت الألفة أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه مع مجموعة من المؤلفات وضعتها على قائمة مشاريعي للترجمة بعد الانتهاء من الرسالة, كان في مقدمتها كتاب (بناء لغة الشعر) الذي استثار مخزوني من النحو والبلاغة العربية في تمازج رائع مع البنيوية الحديثة, فترجمته مع تعليقات كثيرة, وصدرت منه ثلاث طبعات (إحداها عن دار المعارف) ولقي رواجاً كبيراً في العالم العربي, وأعتقد أنه كان مصدر فائدة لكثير من الدارسين, وقد أثارت لغة ترجمته قضية للمناقشة, خاصة أنه صدرت له ترجمة مغربية لاحقة ولاحظ الناس أن المسافة بين وضوح مستوى الترجمة في الكتابين, تكاد أحياناً تعادل المسافة بين لغتين, ثم شفعت هذا الكتاب بترجمة الجزء الثاني منه تحت عنوان (اللغة العليا) (وقد صدر في المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة) ثم ضممت الكتابين في مجلد واحد بعنوان (النظرة الشعرية) (صدر عن مكتبة غريب) ثم أضفت إلى قائمة المترجمات كتاب (ــفنــ التراجم والسير الذاتية) لأندريه موروا (في المشروع القومي للترجمة).

هدف الترجمة

كان الهدف الذي يوجه انتقائي لما أترجمه هو مدى قدرته على التأثير في واقع الأدب العربي والارتقاء به والمساعدة في إلقاء ضوء على ماضيه الذي تحتاج الكثير من صفحاته إلى إعادة قراءة ومحاولة إيجاد تلاحم خلاق بين القيم الجمالية المشتركة سواء كانت تنتمي إلى لغتنا أو إلى اللغات الأخرى, إلى حاضرنا أو تراثنا, وفي هذا السياق جاءت مجموعة مؤلفاتي: (دراسة الأسلوب بين التراث والمعاصرة) (مكتبة غريب) و(النص البلاغي في التراث العربي والأوربي) (مكتبة غريب) وكان اهتمامي بالتطبيق يوازي اهتمامي بالتنظير إن لم يزد عليه, كنت أرى وماأزال أن التحدي الحقيقي في مجال النقد الأدبي, لا يكمن في أن نملأ مؤلفاتنا ومقالاتنا وأحاديثنا بأسماء المنظرين الأجانب ومصطلحات نظرياتهم والفلسفات الكامنة وراءها, ولكن أن نواجه بما نختزنه من هذه المعلومات, نصنا الأدبي الراهن أو القديم دون أن نفرض عليه شبكة التصوّر المسبق أو أن نكبّل مجراه بمربعات الجداول الإحصائية المحكمة ولا أن نغلفه بلهجة ممزوجة من الغموض والتعالي يصير معها النص أكثر انغلاقاً, ويشعر معها القارئ بعد الانتهاء من قراءة المقال النقدي حول النص الأدبي أنه أصبح يواجه صعوبتين بعد أن كان يواجه صعوبة واحدة, وتولد لديه الإحساس الذي كثيراً ما يخامرني بعد قراءة مقال لبعض أصدقائي من أعلام النقاد المعاصرين, بأنه مثل الطبيب الذي وقف أمام جسد يعاني, فألقى على مسامعه ومسامع الحاضرين درساً في النظريات الطبية التي حفظها وأسماء الأدوية التي يعرفها دون أن يصف الحالة التي بين يديه.

وفي مجال اهتمامي بالتطبيق قدمت مجموعة من المؤلفات حول تحليل الشعر والرواية والقصة سواء أكان النص تراثياً لعنترة أو الشنفرى الأزدي أو أبي العلاء أو أبي فراس أو أبي حيان التوحيدي أو الدميري أو غيرهم أو معاصراً لمطران وشوقي والعقاد ومحمود حسن إسماعيل وفاروق شوشة والفيتوري وحجازي, وأبو سنة وأمل دنقل ومحمود درويش وحامد طاهر, وقد تجمعت هذه الدراسات التحليلية في كتب مثل : (الكلمة والمجهر) (دار الشروق) و (النقد التحليلي للقصيدة المعاصرة) (دار الشروق) و(متعة تذوق الشعر) (غريب) و(تقنيات الفن القصصي بين الراوي والحاكي) (لونجمان) والذي اهتم إلى جانب تقنيات الحاكي القديم بتقنيات الراوي والقاص الحديث عند علي مبارك وهيكل ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف الشاروني وغيرهم, ومازلت أعتقد أن مواجهة (النص) بالتحليل النقدي الموضوعي, أجدى من مواجهة المبدع, سواء من خلال موجة التصدي لفكره الأيديولوجي الذي قد يكون رجعياً عند الناقد أو موجة التشجيع التي تلبس أحياناً ثوب مناصرة التقدمية والتنوير والدفاع عنهما بأي ثمن حتى لو كان القذى الموجود في النص يملأ محجر العين, وعندما نوقشت أخيراً رواية متواضعة تتهكم في وضوح بالقيمة الدينية, أقسم أحد النقاد البارزين أن الرواية في جوهرها تكرم الدين وتعلي من شأنه وجمع قدراً من الأدلة لا بأس به!!

تجربتي في السلطنة

إلى جانب تجربة العمل الجامعي في دار العلوم قبل البعثة وبعدها, والعمل الجزئي في كلية الآداب - جامعة القاهرة, والجامعة الأمريكية بالقاهرة, عشت تجربة جامعية ثقافية مثمرة في سلطنة عمان التي فكرت في إنشاء جامعة حديثة منذ أوائل الثمانينيات, كنت وقتها ماأزال أكمل رسالتي للدكتوراه في فرنسا, ووصلتني بطاقة تحية من الدكتور الطاهر مكي, من عُمان التي كان قد سافر إليها عضواً في اللجنة الاستشارية للجامعة الجديدة هو والدكتور حمدي السكوت, وكانت البطاقة على أوراق (فندق الفلج) وقد تعجبت عند قراءة الاسم, واعتقدت أنه يشير إلى الصفة الجميلة المحببة في أسنان المرأة, ولكنني علمت أن الأفلاج في عمان هي القنوات المائية الصغيرة التي شقت بإحكام منذ أقدم العصور لكي تضمن عدالة التوزيع لماء الأمطار القليلة, وبعض العمانيين يعتقدون أن الذي شقّها نفر من الجن جاءوا مع سليمان, فشقوا هذه الأفلاج في يوم واحد ورحلوا, وبعد نحو ست سنوات من وصول البطاقة, كنت في عمان, رشحني الدكتور حمدي السكوت مع أول مجموعة من الأساتذة تعمل في الجامعة قبيل افتتاحها سنة 1986, وتشكل لدي شعور بالارتياح منذ الأيام الأولى, أحسست أن الناس (طيبون) وفيهم ألفة ومودة, وأنهم كذلك (متحضرون) تلمس منهم لين الجانب وبعد النظرة وقلة الكلام, وتراجع الشبح الذي يولد شعوراً لمن يسافرون للعمل في هذه المنطقة الممتدة على سواحل الخليج, بوجود بعض مظاهر (الترفع) وخشونة الجانب, واستقبلنا طلاب الجامعة عندما فتحت أبوابها, فأحسسنا أنهم يحبون العلم ويقدرون أهله, وامتد الحوار شيئاً فشيئاً إلى المجتمع الثقافي الناهض في هذه الفترة, وامتدت القراءة والألفة إلى حاضر هذه البقعة وماضيها, وامتد القلم ليعالج بعض قضايا تاريخ الفكر والأدب هناك, وأحسست أن الذين سارعوا بالمجاملة لكي ينالوا الرضا جوبهوا بانكماش غريزي, وأن الناس يرغبون في أن توضع الأشياء في أحجامها الطبيعية, ويقبلون الرأي الموافق أو المخالف, بشرط أن يصاغ في لغة تراعي الأعراف ولا تسعى إلى تجريح أحد وأن يحسن المرء التأتي إلى هدفه, وبعد نحو عام من افتتاح الجامعة دعيت للمشاركة في إعداد (موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب) وتم اختياري عضواً في (اللجنة الوطنية للموسوعة), وقد صدرت بعد ذلك في سبعة مجلدات, ثم دعيت لتأليف أول كتاب في مشروع (أعلام عمان) وكان عن التابعي الجليل (جابر بن زيد) وقد صدر الكتاب في عمان, ثم صدر بعد ذلك في سلسلة أعلام العرب بالهيئة العامة للكتاب, ودعيت مرة أخرى بعد نحو عامين إلى تأليف كتاب في المشروع ذاته عن ابن دريد, وقد صدر بعنوان: (ابن دريد الأزدي ودوره في تجديد الدرس والنص), وخلال هذه الفترة من الاشتغال بتأسيس مناهج الدراسة الأدبية والنقدية, أصدرت كتابي: (مدخل إلى دراسة الأدب في عمان) الذي اعتبر أول كتاب منهجي يؤسس لتاريخ الأدب في هذه المنطقة, وقد تنامت البحوث الواردة فيه, فظهرت طبعته اللاحقة بعنوان (تطور الأدب في عمان) (دار غريب).

دور ثقافي

ولم يكن الدور الثقافي الذي سعدت بالقيام به في عمان أقل أهمية من الدور الأكاديمي سواء في جانب محاورة المتخصصين في الصحافة الأدبية أو الإصدارات الشعرية والنثرية أو محاورة جمهور المثقفين عبر قنوات الإذاعة المرئية والمسموعة, ويشعر الإنسان بالسعادة والامتنان, وهو ينظر إلى رصيد برنامج إذاعي يومي قدر لي أن أقدمه على امتداد أكثر من ثماني سنوات حتى الآن, وقدمت من خلالها نحو ثلاثة آلاف حلقة تحت عناوين: (إن من الشعر لحكمة) و (إن من البيان لسحرا) و(من كنوز الثقافة العربية) إلى جانب البرنامج التلفزيوني (شعاع الحضارة) وبرنامج (في رحاب المكتبة) ومن خلال هذه البرامج وطوّعت كثير من القيم الجمالية والفكرية والأدبية في تراثنا العظيم لذوق وفكر المشاهد والمستمع على مختلف المستويات.

لقد تتوج عملي في عمان بتولي عمادة كلية الآداب وعلى مدى ثلاث سنوات متصلة من الجهد, انتقلت الكلية بمناهجها وخريجيها من دائرة الإعداد التقليدي القديم إلى دائرة الإعداد الحديث, وانفتحت أبوابها على المجتمع وعلى الحياة الثقافية المحلية والإقليمية والدولية, وأظهر الشباب العمانيون مقدرة فائقة في النهوض بالأعباء وتحدي المشاكل والعمل بروح الفريق, ثم توليت مستشارية رئاسة الجامعة ثقة بإمكان محاولة تعميم التجربة من دائرة محددة إلى محيط أكثر اتساعاً.

حصاد الرحلة

لقد استرشدت خلال هذه الرحلة الطويلة بمجموعة من الأسس كنت أحرص عليها دائماً, كان اهتمامي بالكليات أكبر من اهتمامي بالجزئيات, وكنت أحرص على ألا أغرق في التفاصيل, وإن كان ذلك يدفعني أحياناً إلى إهمال ما لا ينبغي إهماله من هذه التفاصيل, والوقوع في بعض الأخطاء والخسائر, وإن كانت أهون من فقدان الهدف الكلي البعيد. وكنت ومازلت أعتقد أن التنافس والغيرة يحتلان أهمية كبرى في تحريك مسيرة حياتنا إلى الأفضل, ولكن مكمن الخطر يكمن عندما نحاول دفع المنافس أو تشويهه أو إسقاطه, وكنت ومازلت أعتقد أن الجهد الذي يبذله المرء في هدم منافسه, لو بذل نصفه في بناء نفسه لكان أجدى له وأقوم لمسيرته, وكنت ومازلت أحب الهدوء أملاً ألا يصل ذلك إلى حب العزلة وأحب القدر الضروري من العلاقات الاجتماعية على مستوياتها المختلفة حريصاً على ألا تلتهم من وقتي ما يحول بين نفسي وبين سد حاجاتها المتجددة من الظمأ إلى المعرفة.

* * *

لقد نما البيت, وكبر الأولاد, وأصبحوا على مشارف الاستقلال, وطويت كثير من الصفحات, ولم يعد ما بقي منها موازياً أو قريباً مما مضى, ورغم كثرة المحاولات في التعلم, فقد بقي الحنين إلى أشياء بسيطة كثيرة كنت أحلم بأن أتعلمها ولم أستطع, فقد كنت أحلم أن أجيد السباحة ومنعتني تعليمات (سيدنا) شيخ الكتاب من أن أتعلمها في ترعة القرية, وكنت أحلم أن أتعلم صيد السمك, ومازالت حلاوة السمكات الصغيرة التي اصطدتها بجانب جسر القرية أيام فيضان النيل عالقة في قلبي, ولكن حال دون تعلم الصيد خوفي من الماء, وكنت أحلم بأن أتعلم العزف على العود لأفرغ شحنة الاستجابة إلى النغم التي تسكن جسدي تجاوباً مع مثيرات الإيقاع, ألم تكن هذه الأشياء السبيطة أجدى مما ظننت أنني تعلمته?!.... ربما.

 

أحمد درويش







الدكتور أحمد درويش





بعض اصدارات د. أحمد درويش





بعض اصدارات د. أحمد درويش





بعض اصدارات د. أحمد درويش





د. أحمد درويش في احدى الندوات





في حفل توزيع جوائز مؤسسة جائزة البابطين





إصدارات أخرى للدكتور درويش





إصدارات أخرى للدكتور درويش





إصدارات أخرى للدكتور درويش





ثلاث من كتب د. أحمد درويش





ثلاث من كتب د. أحمد درويش





ثلاث من كتب د. أحمد درويش