القصر.. مدينة في طي النسيان: د. خالد عزب

القصر.. مدينة في طي النسيان: د. خالد عزب

مدينة أهلها يعيشون في سلام، لا جرائم، لا تنافس على المادة. من بيئتها بنوا بيوتهم وأعلى أبواب هذه البيوت كتبوا: «بسم الله الرحمن الرحيم هذه الدار أضاءت بهجة وتجلت فرحًا للناظرين، كتب السعد على أبوابها ادخلوها بسلام آمنين».

«بسم الله الرحمن الرحيم عز يدوم وسعادة لا تنقضي وبلوغ ما تهوى النفوس وترتضي، وسعادة مقرونة بسلامة مادام يكتب أسود في أبيض».

هكذا تقابلك بيوت هذه المدينة، التي وصلنا إليها بعد رحلة في دروب الصحراء الغربية بمصر. بدأت من أهرامات الجيزة التي تعود إلى عصر الدولة القديمة الفرعونية، ومررنا خلالها على مدينة السادس من أكتوبر التي تمثل عمارتها ذروة ما بلغت إليه العمارة المعاصرة من طرز لا معنى ولا حياة فيها. إلى الصحراء الخالية التي كانت هي الحاجز بين هذه الطرز وعمارة القصر. عمارة الطين البسيطة التي تحمل قيمًا ومفاهيم وروحًا افتقدناها في ظل عولمة العمارة. وصلنا إلى القصر مع بداية شروق الشمس وياله من منظر رائع لجبل يحتضن أسفله مدينة تقع على مرتفع ويحدها النخيل من كل جانب. شروق الشمس على أكبر مدينة تراثية مجهولة في مصر، جعلنا ننطلق مع أشعة الشمس رويدًا رويدًا لنستكشف هذه المدينة.

سميت «القصر» بهذا الاسم العربي عند استقرار القبائل العربية بها. وسبب هذه التسمية غير محدد، فالقصر لدى العرب هو المكان المرتفع. و«القصر» شيدت على مرتفع، هو المعبد الضخم الفخم. وربما كان بها معبد منذ العصر الفرعوني. والقصر مقر الحاكم. وقد كانت القصر عاصمة الواحة الداخلة بالصحراء لفترة طويلة من الزمن. وقد وردت القصر في العديد من المصادر التاريخية ولكن بصورة موجزة بشدة.

موقع القصر

على بعد 1000 كيلومتر من القاهرة وصلنا إلى القصر، وهي تقع ضمن الواحة الداخلة. عند التقاء عدة دروب قديمة، كانت بمنزلة الطرق الخاصة بالقوافل التجارية وللغزاة والفاتحين خاصة إلى بلاد المغرب وإفريقيا. شيدت القصر على تل مرتفع مما هيأ لها موقعًا جغرافيًا متميزًا، وهذا المرتفع حدد مساحتها وبالتالي امتدادها، وهيأ لها ميزات عدة حيث حد من زحف الرمال عليها وساعد على اعتدال مناخها، كذلك ساعد الارتفاع الذي يبلغ عشرين مترًا من الجهة الجنوبية على مراقبة القادمين إليها من مسافات بعيدة، ووفر لها ميزة التحصن والاستعداد للدفاع عن البلدة ضد الأعداء. والأراضي المحيطة بالقصر عبارة عن تلال وهضاب وكثبان رملية.

حول القصر تل رسوبي من الطمي المترسب منذ آلاف السنين. وإلى الغرب والجنوب منها أراض زراعية خصبة. وكان السهل الرسوبي يوفر المادة الطينية لصناعة قوالب اللبن التي تعجن بالماء مع التبن وهو أعواد القمح التي تساعد على تماسك وصلابة المادة الطينية، بالإضافة إلى خلط هذه المواد بالرمل الناعم الخالي من مياه الرشح، والخالي من الأملاح الكلاسية وذلك لمنع التشرخات بقالب اللبن.

وطريقة صناعة هذا القالب من اللبن تتم عن طريق جلب الطَّفلة وتنظيفها وتنعيمها بإخراج الحصى منها، ثم تخلط بالرمال بنسب تقريبية، يتم تقليبها جيدًا مع إضافة التبن لكي تصير مادة متماسكة، ثم تترك مدة من الزمن بعد الخلط، وبعد ذلك يؤخذ ذلك المخلوط ويصب في قالب خشبي، ثم يترك ليجف في الشمس ما بين ثلاثة وثمانية أيام حسب طبيعة حرارة الشمس صيفًا وشتاءً إلى أن يجف ويصير متماسكًا صالحًا للبناء به.

وبهذه المادة البسيطة بنى أهل القصر منازل بلغ ارتفاعها ما بين طابقين وثلاثة طوابق. وأثبتت الأبحاث أن البناء باللبن يناسب طبيعة الطقس الحار جدًا بالقصر، حيث لا يسمح اللبن لحرارة الجو بالنفاذ لداخل المبنى إلا بعد فترة طويلة، حيث يكون الليل قد قارب على الانتصاف، والطقس مال إلى البرودة، فيتولى اللبن المتشبع بالحرارة القاسية تدفئة المنزل.

في دروب وأزقة القصر

شدّنا القصر منذ أن دخلنا أول دروبها، فقد واجهنا نمطًا مختلفًا من الشوارع، ودفعنا هذا أن سألنا مجدي الديناري مفتش آثار القصر عن من سكن هذه المدينة، فذكر لنا أنه قد سكنها أربعة أسر تعتبر بمنزلة قبائل هي القرشية والشهابية والدينارية، إضافة إلى عائلة الأشراف. وسكنت كل قبيلة قسمًا من المدينة، فالقرشية والأشراف أقرباء، إذ إن كلتيهما من قبيلة قريش العربية سكنوا في جنوب شرق ووسط البلدة الجنوبي. أما الدينارية فتركزوا في القسم الشمالي الغربي، بينما تركزت دور آل خلف الله في الجانب الشمالي والشمالي الغربي من الكتلة السكنية. وتركزت عائلة الشهابية في وسط الكتلة السكنية.

تأثرت القصر في ذلك التقسيم بمدينة الفسطاط عند نشأتها، إذ وزع عمرو بن العاص الخطط بين القبائل وجعل لكل قبيلة خطة. كما كان لهذا التقسيم أثره في تشكيل شبكة الطرق من حارة إلى درب وزقاق. حيث إن الدرب أو الزقاق الواحد كان يقطنه أبناء عائلة واحدة أو أبناء حرفة واحدة لكنهم أهل وأقارب. وعند كل تجمع عائلي على الدرب أقيمت بوابة عند بدايته ونهايته. وهو ما أدى إلى كثرة البوابات بالمدينة، وتبين مثل هذه النوعية من البوابات مدى قوة الترابط العائلي بالمدينة.

ويتراوح اتساع الشوارع بالقصر ما بين 1.25 متر و1.50متر، وتقاطع الدروب والسكك مع بعضها بعضا جعل زاوية انكسار الجدار ككل تتجه إلى الداخل مع بداية الدرب، حيث سمح ذلك بزيادة اتساع السكك وبالتالي يساعد على سهولة الدخول إلى الدرب، يتضح ذلك في الكثير من طرق القصر، ولعل من أبرز أمثلتها انكسار حارة الجزارين عند الاتجاه شمالاً إلى حارة خلف الله والتي يليها مباشرة على يسار المتجه إلى الشرق من بدايتها درب المحكمة الجنوبي.

ولاحظنا في القصر حرص أهلها على عدم إعاقة الطرق بإقامة عناصر بارزة كإقامة مبان بها أو سلم أو مدخل بارز. وروعي ذلك في منشآت القصر الدينية منها قبل المدنية. ففي جامع الشيخ نصر الدين والذي يعتبر مسجدًا معلقًا تتقدمه ساحة متسعة من الجانب الجنوبي لتستوعب الدرج الصاعد، وذلك حفاظًا على حق الطريق.

وفي المنشآت المدنية لوحظ أنه في حاله اتخاذ مصاطب للجلوس أمام دور بعض كبار القوم أو أمام الحوانيت، روعي ألا يضر ذلك بحق الطريق، ولعل من أبرز أمثلة ذلك الارتداد الذي شيدت بداخله مصطبة أمام درب العمدة، وكذلك الارتداد الذي يقع في بداية سكة الشهابية مع الجزارين، وذلك لوجود ثلاثة مصاطب خصصت للجالسين أمام الحانوت الكبير. والجانب الشرقي من هذه المصاطب مسدود بهدف حفظ حق الطريق.

ويتخلل الكتلة السكنية بالقصر عدد من الساحات، تكون عادة أمام المنشآت العامة، مثل الساحة التي تتقدم بوابة الأمير محمود جوربجي. والساحة التي تتقدم دار الحاج عبد الحي الذي كان كبير تجار القصر. والساحة التي تتقدم مقعد القرشيين.

ومن الملاحظ أن الشوارع في القصر يغلب عليها أن يكون توجهها من الجنوب إلى الشمال عكس اتجاه حركة الشمس فلا تغطي الشمس هذه الشوارع، كما أنها تستقبل الهواء البارد.

وهناك بعض السكك بالقصر اتخذت اتجاهًا شرقيًا غربيًا ومن أبرز أمثلتها حارة الجزارين بوسط المدينة، وحارة خلف الله في الشمال، وعدة دروب في الجانب الغربي. وهذه الدروب والحارات والتي يتفق اتجاهها مع حركة الشمس كانت نسبة التظليل بالسقائف فيها تغلب على نسبة المتروك من دون تظليل، غير أنه تجدر الإشارة إلى أن توجيه شبكة الطرق بهذه الاتجاهات كان له دوره الواضح في إمداد شبكة الطرق بالهواء المتجدد دائمًا نظرًا لاتفاق هذا التوجيه وحركة الرياح بالقصر، والتي تتميز بأنها شمالية غربية. وكان للبوابات التي تغلق على بدايات هذه الحارات والدروب دورها في الحماية من الرياح إذا كانت قوية أو محملة بالرمال حيث كانت تغلق.

ويرى سعد شهاب في دراسته عن القصر، أن شبكة الطرق بالقصر تتميز بقيم جمالية أصيلة، فهي تتدرج من الحارة للدرب ومن الدرب للزقاق مما يجعل مستعمل الطريق لا يشعر بالملل، حيث هيأ له ذلك ما يشعره بقصِر المسافة التي يسيرها داخل المدينة مهما بلغت هذه المسافة وذلك نظرًا للرؤية المتجددة التي تتجدد بكثرة الانحناءات وقصر منظور الرؤية بهذه الطرق. وتتناسب هذه الطرق والمقاييس الآدمية حيث يشعر الإنسان بكيانه وسيطرته على الطريق الذي يسير فيه، حيث تتميز هذه الطرق بضيقها ولا يزيد اتساعها عن 3 أمتار بل إن بعض الدروب لا يزيد اتساعها عن 1.50 متر، وهيأ ذلك للإنسان أيضًا شعوره بمدى اتساع داره التي يعيش بداخلها مهما بلغت مساحتها، حيث إنه بعد مروره بشبكة الطرق بما تتميز به من ضيق يجد نفسه داخل دار تتميز باتساعها فيعطيه ذلك شعورًا بالرضا.

وينبه سعد شهاب إلى كثرة البوابات الفاصلة بين امتداد الحارة الواحدة، فأدى ذلك إلى أن امتداد الحارة الواحدة قد يقطنه أبناء عدة عائلات فتكون البوابة الحد الفاصل والحافظ لخصوصية الأهالي والأسر فيما بينهم. وتنوعت تشكيلات مداخل الدور بحيث نجد أن كل مدخل يتميز عن الذي يليه على الرغم من تشابه الدور في واجهاتها وارتفاعاتها بشكل واضح، غير أن اختلاف مداخل الدور جعل القادم إلى أي منها يتعرف على الدار القادم إليها بسهولة، وأضفت هذه المداخل على الطرق أيضًا خاصية جمالية.

المقاعد

أدى تعدد العائلات بالقصر والترابط الأسري مع كرم الضيافة إلى ظهور المقاعد. ويبدو أن القصر عند نشأتها كان بها أربعة مقاعد تخص العائلات الأربع الرئيسية، غير أن ما وصل منها في الوقت الحاضر أربعة مقاعد أحدها لعائلة القرشية، أما المقاعد الثلاثة الأخرى فتخص بطونًا تفرعت من إحدى العائلات الرئيسية وأصبح لها مقعدها الخاص، ومنها مقعد الجزارين بحارة الجزارين ومقعد الأشراف ومقعد أبو حمام.

وهذه النوعية من المنشآت تتميز ببساطتها، حيث إن المقعد يتكون من قاعة أو قاعتين مستطيلتين تلتصق في كل قاعة بثلاثة من أضلاعها من الداخل ثلاث مصاطب للجلوس عليها في الواجبات أو الاجتماعات أو الحفلات وكان لهذه المقاعد أثرها في سرعة فض المنازعات العائلية، وكذلك في إتمام الزيجات.

المنازل

تعتبر منازل القصر نموذجًا جيدًا لتطبيق فقه العمارة الإسلامية، والمقصود بالفقه تلك القواعد التي وضعها الفقهاء في ضوء أحكام الشرع والعرف لتنظيم حركة العمران في المجتمع، ويتضح ذلك من عناصر المنازل المعمارية، والتي وإن كانت ذات صبغة هندسية، إلا أنها تحمل في طياتها نظرية معمارية متكاملة وقيمًا إنسانية نفتقدها في عمارة المنازل المعاصرة.

ولندخل أحد هذه المنازل لنجد أن المداخل في منازل القصر بسيطة. ويغلب على معظمها وجود مدخلين بالمنزل، وأحد هذين المدخلين يكون عادة كبيرًا ويفضي إلى القسم المخصص للاستقبال، ويفتح هذا المدخل على طريق نافذ، ويعلوه عتب خشبي عليه نص إنشائي يتضمن البسملة وعبارات المودة والترحاب واسم صاحب الدار وتاريخ إنشائها. وفي المنازل الصغيرة يغلب على مدخلي المنزل صغر حجمهما، والمدخل الثاني خاص بأهل الدار وخاصة من النساء، ويتميز بصغر حجمه ويفتح في الغالب على طريق جانبي أو درب متفرع من حارة، وهذا يوضح أن الغرض من ازدواج المدخل الحرص على الخصوصية.

لا تتواجه مداخل المنازل في القصر، وهذه الظاهرة تعرف في فقه العمارة بتنكيب الأبواب. ويوفر ذلك درجة إضافية من الخصوصية، كما يتيح ذلك للمعمار داخل الدرب أو الحارة تنويع أماكن المداخل، وعدم وجود تكرار هندسي جامد لتوزيع المداخل بالحارة.

وعند فتح الباب ستجد في مواجهتك في بعض المنازل حائطًا يحول دون تطفل المارين في الشوارع على داخل المنزل. ولكي يحول المعمار بين المتطفلين وكشف ما بداخل المنزل؛ جعل نوافذ الطابق الأرضي صغيرة الحجم وتقع أسفل سقف المنزل مباشرة، وهذه الظاهرة وجد لها مثيل في منازل رشيد الأثرية.

كذلك تميزت الواجهات في الطوابق العليا بقلة عدد النوافذ، خاصة في الدور المتقابلة، وإن وجدت فقد كان يراعى ألا تكون متقابلة في الغالب الأعم، إضافة إلى أن معظمها تمت تغشيته بتشكيلات هندسية من اللبن، بها فراغات تؤدي إلى دخول الهواء والضوء بنسب تلطف المناخ بالداخل. وبعض هذه النوافذ غشي بتشكيلات بسيطة من الخشب الخرط كانت تؤدي الغرض نفسه.

ومن الظواهر اللافتة للنظر في القصر انتشار السوابيط بين دورها. والساباط عبارة عن سقف خشبي يظلل الطريق بين دارين متقابلتين وتستغل إحدى الدارين الساباط كحجرة تضاف لمساحة إحداهما،علمًا بأن أرضية الساباط التي هي سقف يظلل الشارع محملة على الدار المقابلة. وهذا يبين مدى الترابط الاجتماعي بين أبناء القصر حين يسمح الجار لجاره بأن يظلل الطريق بتحميل جزء من سقف التظليل على جداره، وكذلك استغلال سقف التظليل كحجرة تزيد من مساحة منزل جاره. وكأني هنا أستدعي من الذاكرة تلك الرسائل العديدة التي صنفها فقهاء المسلمين حول استغلال حائط الجار وفق قواعد فقه العمارة الإسلامية، ومنها رسالة عيسى بن موسى التطيلي عن الجدار.

المضيفة

تعتبر المضيفة من أهم وحدات المنزل القصري. ووظيفتها استقبال الضيوف والغرباء. ويخصص لها مدخل مستقل، كما كان يخصص لها درج صاعد إذا كانت في الطوابق العليا، واعتنى بها المعمار فجعل بحوائطها دخلات حائطية متقابلة في الجدران الأربعة تعطي تنغيمًا للمكان وروحًا جمالية. وقد يوجد في المنزل الواحد مضيفتان أو ثلاث كما في منزل العريف جمال الدين. وإذا وجدت مضيفة بالطابق الثاني فغالبًا ما تترك من دون سقف كما في منزل القاضي عمر، وهي في هذه الحالة تكون صيفية.

انتشرت حجرات المعيشة بكل طوابق المنزل القصري، ويرتبط ذلك بالاستخدام الموسمي لها، المرتبط بفصول السنة، ففي فصل الشتاء يغلب استعمال حجرات الطوابق السفلية، وخاصة الطابق الأول. وعكس ذلك ما يحدث في فصل الصيف، حيث كان يفضل استعمال الطابق الأرضي نهارًا والسطح ليلاً، والذي أحيط بسترة خصيصًا لهذا الغرض.

الحواصل

تنوعت الحواصل بمنازل القصر، فمنها حواصل كانت تستخدم لتخزين الأغراض المنزلية المختلفة، ومنها نوع كان مخصصًا لتخزين العشاري، وهي المحاصيل الزراعية الخاصة بالنصاب الشرعي للزكاة. والتي كانت توزع على فقراء المسلمين، وتتركز هذه الحواصل في الطابق الأرضي لملاءمته من حيث درجة الحرارة والرطوبة لتخزين هذه المحاصيل. وكانت توجد حواصل بالطوابق العليا مخصصة لتخزين حاجيات المنزل.

أحيطت الأسطح في منازل القصر بسترات علوية، حيث كانت تستخدم للنوم في فصل الصيف، واستخدمت بعض أسطح المنازل في تشوين الوقود أو تسطيح التمر، علمًا بأن الارتفاع الشائع في منازل القصر هو ثلاثة طوابق.

مساجد القصر

يبلغ عدد المساجد الجامعة في القصر خمسة مساجد تتركز في الجانب الجنوبي من المدينة. وتتمثل في جامع الحمية القرشية، وجامع نصر الدين الذي يقع بالقرب من سكن الأشراف، وجامع وضاح الذي يجاور حارة الجزارين، والجامع الخامس وهو مندثر يقع في الجانب الشمالي الشرقي من المدينة.

من اللافت للنظر أن مآذن أسوان التي تعود إلى فترة مبكرة من العصر الإسلامي. ومن حيث الشكل تشبه مآذن سمرقند وبخارى وخيوة بآسيا الوسطى، وهناك وجه آخر للشبه وهو انفصال مآذن القصر وآسيا الوسطى عن المسجد.

الحِرَف

تعددت الحرف التقليدية بالقصر، والتي ارتبطت بالحياة داخل المدينة وبأنشطتها الاقتصادية، ومن هذه الحرف صناعة السعفيات، التي مازالت تمارسها عدة أسر حتى الوقت الحاضر، وتعد مصدر دخل لها، وهي تعتمد في مادتها الخام على الجريد وسعفه وكلاهما من منتجات النخيل المنتشر في الواحات الداخلة. ويصنعون من هذه المنتجات القفاف والمشنات وهي أوان خوصية تستخدم في حفظ الخبز وحمل الغلال والتمور. وكذلك يصنعون منها أغطية الرأس وبعض الأواني المنزلية البسيطة التي يحتاجها المنزل.

وتعمل بعض الأسر في القصر في صناعة الحصر من السمار والذي ينبت بصورة طبيعية بالقرب من المدينة. وتصنع منه أنواع جيدة من الفرش التي كانت ومازالت تستخدم في المساجد وأيضًا في بعض المنازل.

ومن الحرف التقليدية بالقصر الحدادة التي لاتزال تمارس بها إلى اليوم، حيث تصنع مستلزمات الأدوات الزراعية كالفئوس والمناجل وغيرهما. وكانت قديمًا منتجاتها تدخل في عمارة منازل القصر.

واختلفت حرفة النجارة اليوم بالقصر عن الأمس، إذ إن متطلبات المنزل القصري تغيرت، وكان هذا التغير بدأ مطلع السبعينيات حيث سافر بعض شباب المدينة إلى الكويت للعمل، وعادوا فبنوا عدة منازل بالطوب المحروق، وسقفوها بالأسمنت والحديد، واستخدموا فيها مكيفات الهواء. وشارع الكويت هذا هو الفاصل بين المدينة القديمة والمنازل الحديثة. ولكن يبقى أن الكثيرين من أهل القصر إلى اليوم مازالوا متمسكين بطرز عمارة مدينتهم، فمجدي الديناري مفتش آثار القصر طور بعض الشيء هذه الطرز في منزله ولكنه اعتبر اللبن هو المكيف الطبيعي لمنزله وليس مكيفات الهواء.

وعند مغادرتنا للقصر وقفت أتأمل المدينة، لقد رأيت مدينة أخرى تشبهها، على دروب الصحراء الكبرى، ولكنها في الغرب، إنها مدينة وادان الموريتانية التي هي صورة مماثلة للقصر، ولكن لبعد المسافة، ولقلة الباحثين لم ينتبه أحد لهذا التشابه.

والقصر مهددة اليوم بأخطار عدة، فبعد تسجيل المدينة بأكملها في عداد الآثار المصرية هجرها أهلها، وبدأت بعض دورها تتهدم. وهي في حاجة إلى صيانة دورية، وإلى مزيد من التعريف بها، وإلى حماية تراث المدينة من زحف الأبنية المعاصرة.

وعند عودتنا إلى القاهرة، لمحت أهرامات الجيزة الشهيرة، التي شيدت لتخلد وتحفظ أجساد فراعين مصر، وإلى جوارها مقابر العمال الذين بنوا تلك الأهرامات بسيطة دون زخرف أو بناء شامخ. وتذكرت القصر حينئذ فمنازل أثريائها لا فارق كبيراً بينها وبين منازل فقراء القصر، هكذا قدمت لي هذه المدينة درسًا لن أنساه.
-----------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

خالد عزب