لماذا اختلف مع جمال عبدالناصر؟

لماذا اختلف مع جمال عبدالناصر؟
        

الدكتور ثروت عكاشة، شخصية غنية متعددة الجوانب. وهذا أمر يتفق عليه الجميع، حتى الذين اتخذوا موقف العداء منه، ومع الأسف الشديد، فإن لهذا الرجل العظيم أعداء، وإن كان هذا أمرًا طبيعيًا لم يسلم منه أحد حتى الأنبياء.

          التعدد في شخصية الدكتور ثروت عكاشة واضح تمام الوضوح، فهو رجل من رجال الوطنية الشجعان، وهو بطل من أبطال الضباط الأحرار الذين قاموا بالعمل الأساسي ليلة 23 يوليو، ولو أن هذا العمل لم ينجح، لكان ثروت عكاشة في مقدمة المتهمين الذين كان عقابهم - أغلب الظن - الإعدام رميًا بالرصاص، وقد نجحت الثورة ضد الملك فاروق، وضد الاحتلال، وضد الاضطراب السياسي في البلاد، وبدأ الضباط الذين آلت إليهم السلطة يجنون ثمرة النجاح، وكان من المفروض، كما روى ثروت عكاشة في مذكراته، أن يكون هذا الضابط الوطني الشجاع الذي وقف في المقدمة في تلك الليلة العجيبة من ليالي التاريخ عضوًا من أعضاء «مجلس قيادة الثورة»، وهو أعلى سلطة في البلاد بعد نجاح الثورة، ولكن ثروت عكاشة تنازل باختياره لزميل آخر له أكبر منه سنًا، هو السيد حسين الشافعي، ولم يكن ثروت عكاشة نادمًا على ذلك أبدًا، لأنه كان يفرّق دائمًا بين الوطنية والسياسة، ويرى نفسه من رجال الوطنية وليس من رجال السياسة، أما هواه الحقيقي الكبير، فهو في الثقافة وللثقافة، فقد كان منذ شبابه الأول عاشقًا للموسيقى والفنون التشكيلية والتاريخ والأدب الحديث والقديم، وكثيرًا ما نندهش كيف استطاع عكاشة أن يجمع في قلب واحد هذا الحب المتعدد لهذه الفنون والعلوم جميعًا. والأعجب من ذلك، أن يستطيع الكتابة فيها وحولها، وأن يكون ما يقدمه من إنتاج، على درجة عالية من الامتياز والإتقان.

المثقف والثقافة

          ثروت عكاشة هو «المثقف» بالمعنى الكامل الشامل لهذه الكلمة. ولا أظن أن هناك من هو أفضل منه لكي يحمل هذه الصفة، صفة «المثقف» حيث يقوم تكوينه الثقافي على معرفة واسعة، وتذوّق عميق للموسيقى والفنون التشكيلية والآداب القديمة عربيًا وأوربيًا، وللتاريخ، وللآداب الحديثة في الشرق والغرب، وهو على صلة وثيقة بهذه الفنون والعلوم بصورة واضحة، قوية لا تخطئها العين، ولذلك فهو أفضل مَن يستحق صفة «المثقف» بمعناها الواسع العميق.

          ولا أريد أن أستطرد في وصف ثروت عكاشة، لأن تعدد جوانبه وعمقها يمكن أن يفتح علينا أبوابًا متعددة للبحث، تضيع منا فيها معالم الطريق، ويكفيني أن أتوقف هنا أمام نقطة مضيئة في حياة المثقف الكبير، وهي النقطة التي تتمثل في اختلافه مع جمال عبدالناصر، وعبدالناصر باعتراف ثروت عكاشة، هو زعيم ثورة يوليو، وهو المؤسس للضباط الأحرار، وهو بعد ذلك الزعيم الوطني الذي هيّأته مواهبه للزعامة، وحظي بالثقة والحب من العرب جميعًا، في مصر وخارج مصر، وإن كان عبدالناصر قد اصطدم ببعض المعارضة السياسية من جانب عدد من التنظيمات، التي لم تتعاطف معه مثل الإخوان المسلمين والشيوعيين والبعثيين.

          ثروت عكاشة يعرف قيمة عبدالناصر ويثق به، ويحفظ له مقامه بين زعماء الأمة العربية المخلصين، ولعل رأي ثروت عكاشة في عبدالناصر، هو الذي شجع عكاشة على أن يختلف معه عندما وجد ضرورة لهذا الاختلاف، فأنت تستطيع أن تختلف مع مَن تحبه وتثق به دون أن تخشى شيئًا، أما من لا تثق به ولا تطمئن إليه، ومَن تخشاه ولا تشعر بالأمان معه، فإن الاختلاف معه يكون عسيرًا جدًا، لأن سوء الظن يحكم العلاقة في هذه الحالة، وما أسهل ما يقال إن الرأي هنا ليس مجرد رأي، ولكنه مؤامرة.

          حالة العلاقة بين ثروت عكاشة وعبدالناصر، هي حالة ثقة متبادلة تسمح بالحوار الواسع بين الاثنين، وتسمح بالخلاف في الرأي دون أن يترك ذلك في النفوس شيئًا من الجراح، ودون أن يؤدي الأمر إلى قطيعة نهائية.

          وفي النهاية، فإن عبدالناصر وثروت عكاشة هما شخصيتان كبيرتان من شخصيات التاريخ العربي المعاصر، وإنه لمشهد مثير ورائع أن نتابع حوارًا بين هاتين الشخصيتين، فيه اختلاف بينهما، وكل منهما يقدم حجته إلى الآخر دون توتر أو غضب، وكل منهما يصغي إلى من يتحاور معه، إصغاء الكريم إلى الكريم، ويزن بالعدل كل كلمة يقولها، وكل كلمة يستمع إليها من الطرف الآخر الذي يختلف معه.

          لحظة الخلاف الأولى كانت لحظة بسيطة خفيفة، ولم تكن مساحة الخلاف عميقة واسعة، ولكن الحوار فيها بين عبدالناصر وثروت عكاشة كان يمس أمورًا مهمة، ويكشف عن طريقة في الرؤية الوطنية يمكننا لو درسناها جيدًا أن نجد فيها كثيرًا من الهدى واليقين.

حوار بين كبيرين

          في 8 أكتوبر سنة 1958، وكان ثروت عكاشة وقتها سفيرًا في روما للجمهورية العربية المتحدة، وهي دولة الوحدة بين مصر وسورية، التي أقيمت في 22 فبراير من العام نفسه، وكان هذا السفير الفنان المثقف قد قضى ليلته مع زوجته في دار الأوبرا في روما، ويصف الدكتور عكاشة هذا الحفل بقوله (الجزء الثاني من المذكرات - الطبعة الأولى - صفحة 465): «... مع بداية العرض الأوبرالي، أحسسنا وكأننا نحيا في عالم أسطوري لم نعرفه من قبل، عالم ينبض بالجلال والرهبة، ويفيض بالألحان الآسرة والأنغام، التي تنفذ إلى أعماق القلب، وانتهى الحفل في دار الأوبرا دون أن تغيب عن أعيننا صورة من صوره، ولا عن آذاننا لحن من ألحانه، وظللنا أسرى متعة فيّاضة حتى ونحن نتناول العشاء، وظلت الألحان تتردد في وجداننا حتى امتدت يدي لأستمع - كالعادة - إلى نشرة أخبار الساعة الحادية عشرة من إذاعة القاهرة، فإذا بالخبر الأول يحمل إلينا مفاجأة مذهلة، فقد كانت القاهرة تذيع قرار تشكيل حكومة جديدة تضم بين أعضائها اسميّ وزيرًا للثقافة والإرشاد القومي».

          ويواصل ثروت عكاشة تسجيل ما تعرض له من انفعالات بعد سماع هذا الخبر فيقول:

          «انمحت صورة الحفل الأوبرالي من فكري، وخمدت ومضاته فجأة، وشملني قلق غامر، وشرد ذهني إلى ما ينتظرني من عمل في القاهرة، وبالرغم من إيماني بالعمل الثقافي، فإن منصب الوزير ذاته لامفر من أن يدخلني في غمرة المشتغلين بالسياسة، وهم في كل بلاد العالم وليس في مصر وحدها رجال ذوو استعداد طبيعي وطباع خاصة تمليها عليهم حرفة السياسة، وأنا على طبع مغاير، فحين انتميت إلى الضباط الأحرار، كنت أحمل بين جوانحي شعورًا لتحرير الوطن والشعب دون أي تفكير في أن أزج بنفسي في غمرة السياسة، ولهذا وبعد نجاح الثورة، تنازلت طواعية عن مكاني الذي عرضه علي جمال عبدالناصر في مجلس قيادة الثورة لزميل فاضل، مبتعدًا بنفسي عن تيارات السياسة، واضعًا نصب عيني أن أقدم لوطني ما تسمح به إمكاناتي، وكان الظمأ عندي إلى المعرفة، يجعل الكتاب أقرب رفيق لي، وكان ولعي بالموسيقى يشدني إلى مواطن النغم، وهكذا كانت هواياتي الفنية تستحوذ على أوقات فراغي كله، وتثير في نفسي ضيقًا وتبرّمًا بجلسات الدردشة، وتصبغ خطواتي وتنقلاتي بطابع العجلة، التي تترك في نفوس البعض إحساسًا بأن في نفسي تباعدًا أو تعاليًا، ولم تكن تلك هي حقيقة مشاعري، بل هي مجرد الرغبة الملحّة في مطالعة كتاب جديد أو سماع لحن شجي».

          وقرر ثروت عكاشة أن يعود من روما إلى مصر خلال أربع وعشرين ساعة، ومقابلة الرئيس عبدالناصر، راجيًا منه أن يعفيه من منصب وزير الثقافة.

          والتقى الرئيس عبدالناصر بثروت عكاشة، وهنا ظهر أول خلاف بسيط بين الرئيس والوزير الجديد.

          ونسمع القصة كما يرويها ثروت عكاشة (المذكرات - الجزء الأول - صفحة 467):

          «صارحت الرئيس عبدالناصر باضطراري إلى الاعتذار عن عدم قبول منصب الوزير الذي لم يستشرني أحد في أمر إسناده إلي، لا هروبًا من عمل جاد، بل تحاشيًا لوقوع صدام محتمل بين الشلل والتجمعات المتسلطة، وأنا عازف عن المناصب التي تشوبها  صراعات على السلطة والنفوذ، ومايتبعها من مضيعة للوقت والجهد».

          ماذا كان رد عبدالناصر على هذا الاعتذار؟

          «... أجابني عبدالناصر: أصارحك أنني لم أطلبك لشغل وظيفة شرفية، بل إنني أعلم أنك ستحمل عبئًا لا يجرؤ على التصدي لحمله إلا قلة من الذين حملوا في قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها».

          ثم يستمر هذا الحوار الرائع بين زعيم يغري صديقه بالعمل قريبًا منه، وصديق يريد أن يبتعد عن الأضواء، وعن السياسة وما فيها من صراعات، ويجري الحوار على النحو التالي:

          - عبدالناصر:

          «إن مصر الآن مثل الحقل البكر، وعلينا أن «نعزق» تربتها ونقلّبها ونسوّيها ونغرس فيها بذورًا جديدة لتنبث لنا أجيالاً تؤمن بحقها في الحياة والحرية والمساواة، فهذا هو العناء، وهذا هو العمل الجاد، وإنني اليوم أدعوك إلى أن تتقبّل هذا العناء وذاك العمل الجاد، وأن تشمّر عن ساعدك وتشاركني في «عزق» الأرض القاحلة وإخصابها. إن مهمتك هي تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصري، وأعترف أن هذه هي أشق المهام وأصعبها، وإن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام في بناء الإنسان نفسه، ولو أن سفيرًا يستطيع أن يؤدي ثلاثين في المائة مما قمت به أنت كسفير في روما فحسبي هذا، إن لك دورًا تخدم به الوطن في الداخل أهم من دورك في الخارج، وأحب أن أبوح لك بأن على بابي هذا نحوا من عشرين متطلعًا إلى منصبك هذا، أي إلى وزارة الثقافة.

          - ثروت عكاشة:

          إذن فلتمنح أحدهم المنصب، فإني غير راغب فيه، فضلاً عن أني لا آمن تلك السهام الطائشة، التي سوف أتعرض لها من ذوي الأغراض.

          - عبدالناصر:

          ومَن منا الذي يعمل آمنًا من السهام المعادية؟ أولا تذكر أننا خرجنا ليلة 23 يوليو سنة 1952 نحمل أرواحنا على أكفّنا، وكل منا في احتمالاته ألا يعود إلى أسرته سالمًا؟ إن عِظم المسئولية جدير بأن يثير في نفسك ما عهدته فيك من احترام، ثم ما الذي ستفعله في وزارة الثقافة غير تحقيق أحلامك، التي طالما كنت ترويها على مسامعي قبل الثورة؟».

          هذا هو جانب من الحوار الذي دار بين عبدالناصر وثروت عكاشة في سنة 1958، وقد كان في هذا الحوار نوع من الخلاف الهادئ بين الرجلين، فعبدالناصر يدعو زميله وصديقه ثروت عكاشة إلى أن يدخل ميدان العمل، ويشارك في «عزق» أرض مصر البكر من أجل اكتشاف ما فيها من إمكانات مجهولة، وثروت عكاشة من ناحية أخرى، يفكر في عمل يتيح له شيئًا من الفراغ والعزلة من أجل أن يقرأ ويكتب ويستمع إلى الموسيقى، وفي هذا الخلاف الهادئ، كان عبدالناصر أقوى منطقًا، وأعلى حجة، وأكثر تأثيرًا في النفس بتشبيهاته البديعة للأحوال في مصر، وخاصة هذا التشبيه الذي يصف فيه مصر بأنها «أرض بكر تحتاج إلى العزق»، فيها حتى يمكن اكتشاف ما تخفيه من إمكانات، ولأن الاختلاف بين عبدالناصر وثروت عكاشة هنا قائم على المصارحة والصدق والموضوعية وحسن النية، فإن الاختلاف تم إنهاؤه والوصول فيه إلى نتيجة إيجابية، فاقتنع ثروت عكاشة أن يخرج من عزلته أو من برجه العاجي إلى ميدان العمل العام الواسع، أي إلى المشاركة في «عزق» أرض مصر البكر، وبالمناسبة فإن كلمة «عزق» هذه والتي تعني الحفر بعمق لا يمكن أن تخرج إلا من لسان شخص له صلة قوية بأهل مصر من الفلاحين الفقراء، ولاشك أن عبدالناصر كان من هؤلاء. 

بين الفكر والعمل

          مرت أربع سنوات بعد ذلك على هذا الاختلاف الهادئ البسيط بين عبدالناصر وثروت عكاشة، ثم جاءت لحظة الخلاف الكبير الذي انتهى إلى الافتراق لمدة ست سنوات، حيث بعدها عاد الصديقان إلى الاتفاق، بعد أن اقتنع أحد الطرفين بوجهة نظر الآخر، وكان الطرف المقتنع هذه المرة هو عبدالناصر، بعد أن كان ثروت هو المقتنع في حالة الخلاف الأولى السابقة، وأهمية هذا الاختلاف الثاني، أنه يمس قضية أساسية في الحياة الثقافية العربية، وهذه القضية ظهرت على السطح منذ نصف قرن، ولاتزال قائمة حتى الآن، وأظن أنها سوف تبقى طويلاً في مستقبل الأيام، والقضية - ببساطة - هي قضية «الكم» و«الكيف» في الإنتاج الثقافي، وأيهما يجب أن يسيطر، وأن تكون له السيادة والقدرة على توجيه الأمور؟ وقد نشأت هذه القضية منذ أخذت الدولة في مصر تتدخل في أمور الثقافة، فتنشر الكتب، وتقوم بإنتاج الأفلام والمسرحيات، وتأسيس الفرق المسرحية التابعة لها، وقد بدأ الصراع بين «الكم» و«الكيف» واضحًا للجميع، لأنه تجسّد في وزيرين مهمين كانا يعملان معًا في جمهورية عبدالناصر، وكان الأول هو الدكتور عبدالقادر حاتم وزير الإعلام الذي تتبعه الإذاعة والتلفزيون والصحافة، وكان الثاني هو الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة، والذي يتبعه مسرح الدولة، ودور النشر الرسمية، ومؤسسة السينما وغيرها من المؤسسات الثقافية. وقد بدأ الصراع عنيفًا بين الرجلين، أو قل بين النظريتين، فعبدالقادر حاتم مدّ نفوذه إلى الساحة الثقافية، وبدأ ينشر كتبًا، وينتج مسرحيات وأفلامًا، وكانت سياسته هي سياسة إغراق السوق بكمية كبيرة من الإنتاج الفني والثقافي، وهو صاحب الشعار الذي يقول «كتاب كل ست ساعات»، والكثيرون من المؤرخين والنقاد، يرون أن هذا الشعار هو الذي دمّر صناعة الكتاب في مصر، لأن كثافة الإنتاج كانت تفتقد الإتقان في كل شيء، في شكل الكتاب الذي تدهور بصورة واضحة، وفي تأليفه وترجمته، فقد كانت السرعة هي أساس العمل، لكي يمكن أن يكون هناك كتاب كل ست ساعات، وهذا ما حدث في المسرح أيضًا، فقد أنشأت وزارة الإعلام مجموعة من الفرق المسرحية، وقدمت نصوصًا لم يتوافر لها الحد الأدنى من الإنتاج الفني، ومعظم هذه النصوص كان مقصودًا به التسلية، وكان يكثر فيها الارتجال أو التأليف الفوري، أي أن يقوم الممثل وهو فوق المسرح بتأليف حوار أو مشهد لا وجود له في المسرحية التي يمثلها، ويؤديه بعد ذلك دون أن يحاسبه أحد مطلقًا، وبذلك دبّت الفوضى في الحياة المسرحية، وأصبحت المسرحيات التي تقدمها وزارة الإعلام أشبه بعروض النوادي الليلية، التي لا علاقة لها بالفن من قريب أو بعيد. 

بين الكيف والكم

          في المقابل، كان ثروت عكاشة وزير الثقافة يكافح ببسالة من أجل تحقيق نظرية «الكيف في الثقافة»، وهي النظرية التي لا يمكن أن تقوم دونها ثقافة حقيقية مؤثرة في الحياة والناس، فكان الكتاب الذي تصدره وزارة الثقافة متقنًا من كل الجوانب، أي في الشكل والتأليف أو الترجمة، وكانت المسرحيات مستوفاة من حيث التأليف، والاختيار الصحيح للنص الذي له قيمة، والإخراج الذي يأخذ حقه الكامل حتى تصبح المسرحية ناضجة وصالحة للعرض، مع دقة اختيار الممثلين من ذوي الموهبة الملتزمين الذين لايرتكبون حماقة الارتجال أو التأليف الفوري على خشبة المسرح.

          هكذا كان يعمل أصحاب نظرية «الكيف» بقيادة ثروت عكاشة، فيقدمون إنتاجًا رفيعًا، ولكن كمياته قليلة بالنسبة إلى أصحاب نظرية «الكم»، فإن قدم «الكيف» عشرة كتب، فإن أصحاب «الكم» يقدمون في الوقت نفسه مائة كتاب، وإن قدم «الكيف» خمس مسرحيات، فإن «الكم» يقدم عشرين مسرحية وينشئ المسارح بين يوم وليلة دون ضابط أو مقاييس فنية مناسبة.

          وبالطبع، كان لابد أن يحدث صراع، وأن يؤدي الصراع إلى أزمة، وأن يكون من الضروري حسم الموقف لمصلحة أحد الجانبين، والوحيد القادر على حسم هذا الموقف هو جمال عبدالناصر، خاصة أن المهزوم في معركة الصراع بين «الكم» و«الكيف» هو ثروت عكاشة الذي كان يدافع عن الكيف ويتمسك بالدفاع عنه والالتزام به. 

لماذا انحاز عبدالناصر إلى «الكم»؟

          وهنا ظهر الخلاف الأكبر بين عبدالناصر وثروت عكاشة، وكان من العجيب أن يأخذ عبدالناصر جانب نظرية «الكم» وينتقد نظرية «الكيف»، ولأن عبدالناصر شخصية كبيرة في تاريخنا المعاصر، فإن اتهامه بالتسرع والسطحية والميل إلى الإنتاج الثقافي السهل الخفيف غير المتقن، يكون اتهامًا غير دقيق، وليس من السهل التسليم به أو قبوله، ولكن الأقرب إلى العقل أن نقول إن عبدالناصر قد رأى في اتجاه «الكم» ما يخدم قاعدة واسعة من أبناء الشعب الذين لم يكونوا يعرفون شيئًا اسمه «الثقافة» من قبل، أما نظرية «الكيف»، فهي نظرية للخاصة الذين لم يتعرضوا للحرمان الثقافي كما تعرض له أبناء الشعب الفقراء.

          هذا هو التفسير الذي يجعلنا نقبل انحياز عبدالناصر سنة 1962 لنظرية «الكم» في العمل الثقافي على حساب نظرية «الكيف»، وهذا الانحياز هو الذي أدى إلى استقالة ثروت عكاشة من وزارة الثقافة، ثم ضم هذه الوزارة إلى وزارة الإعلام، التي تتبنى نظرية «الكم»، وتعمل على أساسها، وكان هذا «الضم» أشبه من الناحية العملية بإلغاء وزارة الثقافة.

          وهذه بعض مشاهد هذا الخلاف بين عبدالناصر وثروت عكاشة، ألخصها اعتمادًا على الجزء الثاني من مذكرات ثروت عكاشة.

          المشهد الأول هو لقاء بين الرئيس عبدالناصر وثروت عكاشة يقول عنه ثروت عكاشة (المذكرات - الجزء الثاني - ص 193).

          «بادرت فذهبت إلى الرئيس عبدالناصر وقضينا قرابة ساعات أربع بينت له ما بين الرأيين من تضارب في الوزارتين «الثقافة والإعلام»، وما قد يتبع هذا من نتائج تسيء إلى الثقافة، وتخلق البلبلة في ساحتها. وقلت له إن التنسيق والتعاون بين الوزارتين أجدى وأنفع،لأنه يخدم رسالة الطرفين بدلاً من هذا التنافس الذي يهدم الرسالة الثقافية هنا وهناك، وكم دهشت أني وجدت الرئيس عبدالناصر يؤيد موقف وزارة الإعلام، وقد أضاف إلى ذلك أنه يؤمن بهذا التنافس بين وزارات الدولة في الأعمال الفنية والأدبية، وأنه لا يرى أن يكون العمل الثقافي - على حد قوله - حِكْرًا على وزارة الثقافة وحدها».

          المشهد الثاني هو مشهد اللقاء بين عبدالناصر وثروت عكاشة، والذي بعده أصرّ عكاشة على الاستقالة، واستقال بالفعل، وفي هذا المشهد يقول ثروت عكاشة في الرد على سؤال عبدالناصر  عن سبب إصراره على الاستقالة (ص 199 - الجزء الثاني من المذكرات - الطبعة الأولى):

          «هناك أسباب عدة أهمها ما بيني وبينك من خلاف جذري لا حل له حول المنهج الذي أسلكه في وزارتي، وترى أنت غيره (عبدالناصر يؤيد نظرية «الكم» وثروت عكاشة يصرّ على نظرية «الكيف»)، ثم إنك تعلم في ما تعلم أن أحدًا لا يمكن أن يحملني على شيء لا أراه، ولا أظن أنك نسيت أني جئتك منذ أعوام أربعة في هذه الغرفة بالذات. وفوق هذا المقعد نفسه، أعتذر عن عدم قبول منصب الوزارة الذي عيّنتني فيه، وأنت حين عيّنتني لم تأخذ في ذلك رأيي، وأنا اليوم، في المكان نفسه، أقول لك بصراحة، إنه لا مفر من أن يرحل أحدنا، إما أنا أو أنت. فعقّب ضاحكًا: وأيّنا الذي يرحل؟ أنت أم أنا؟ فقلت له على الفور: أنا الذي أرحل بطبيعة الحال». وانتهى هذا اللقاء بترتيب خاص لاستقالة ثروت عكاشة، الذي انتقل من الوزارة ليصبح في منصب شرفي هو «رئاسة مجلس إدارة البنك الأهلي». ولابد من رواية عبارتين لعبدالناصر في هذا اللقاء الذي ثار فيه الخلاف الكبير بينه وبين ثروت عكاشة.

          العبارة الأولى هي عبارة عبدالناصر التي اعتبرها ثروت عكاشة قاسية، حيث قال له عبدالناصر: «إن نظامنا الرئاسي لايعرف استقالة لوزير». ولذلك حرص عبدالناصر على أن يكون خروج ثروت عكاشة من الوزارة ضمن تشكيل وزاري جديد لا يكون عكاشة ضمن أعضائه.

          أما العبارة الثانية، فهي عبارة كريمة، وأظنها صادقة كل الصدق، وقد توجه عبدالناصر إلى ثروت عكاشة بهذه العبارة حيث قال له: «إني دائم الثقة بك، وبعيد أن تتزعزع هذه الثقة في نفسي بالرغم من كل ما حدث».

          وقد أثبتت الأيام صدق عبدالناصر في هذه الكلمات الموجهة إلى ثروت عكاشة.

          ففي سنة 1966، وبعد أربع سنوات من الخلاف الكبير بين عبدالناصر وعكاشة، عاد ثروت عكاشة إلى وزارةالثقافة، وبقي فيها حتى وفاة عبدالناصر سنة  1970، وعند عودة ثروت عكاشة إلى الوزارة، قال له عبدالناصر ما معناه: «لقد كنت على حق، وقد كانت نظريتك في «الكيف» أجدر بالرعاية والمساندة، فدونك ودون نظريتك وصلت الثقافة في مصر خلال السنوات السابقة إلى الحضيض».

 

رجاء النقاش   





 





جمال عبد الناصر





د. ثروت عكاشة