العلامة حسن الكرمي.. جسر بين التراث والعصر

العلامة حسن الكرمي.. جسر بين التراث والعصر
        

          لا أحد يشبه في منجزه الثقافي العلامة الراحل حسن الكرمي (1905 - 2007)، فقد كان مؤسسة في رجل، ألّف معاجم وكتبًا تضطلع بها مؤسسات كبيرة وتعمل على إنجازها فرق من الباحثين والمتابعين والمتخصصين. لكنه في غياب المؤسسات وتخليها عن أدوارها الحقيقية في العالم العربي، آلى على نفسه أن ينجز عددًا من القواميس الفريدة التي تفتح اللغة العربية على العصر، وتجعل هذه اللغة العظيمة مطواعة للأفكار والمنجزات الجديدة التي تعبر عنها الكلمات الإنجليزية.

          لقد كان يرى أن تحول العرب إلى نَقَلة عن الحضارة الغربية يجعل ترجمتهم للمصطلحات والتعابير الجديدة، التي لا مقابل لها في العربية، غائمًا بعيدًا عن المعنى الذي تدل عليه تلك التعابير. ومن ثمّ فإن على من يؤلفون القواميس ويسعون إلى ترجمة المصطلحات أن يحفروا عميقًا في ذاكرة اللغة العربية لكي يوجدوا مقابلات دقيقة لا تختلط بغيرها من المعاني العمومية الشائعة في اللغة.

          هذه الرؤية العصرية لدور المعجم أو القاموس هي ما يميز «المنار» و«المغني الكبير» و«المغني الأكبر»، وعددًا آخر من المعاجم التي أنجزها الكرمي، فالرجل أراد أن يفتح اللغة العربية على الحضارة الحديثة وأن يجعل اللغة العربية قابلة للتطور واللحاق باللغات الحديثة القادرة على استيعاب منجزات العصر واختراعاته وأفكاره المستحدثة.

داعية تسامح وحوار

          ومع أنه كان عالمًا بالتراث، متبحرًا فيه، حافظًا لمئات بل آلاف من عيون القصائد في هذا التراث، إلا أن معرفته بالتراث لم تقطعه عن العصر، ولم تدفعه لكي يكون متزمتًا مغلقًا على ذلك التراث. كان برنامجه «قول على قول» عينًا على التراث ولم يكن دعوة إلى إدارة الظهر لما يحدث حولنا في عالم اليوم من تطور وتجدد وخلق وإبداع، وما شاهده في الحياة الغربية الحديثة أثناء إقامته اللندنية دفعه لكي يكون أداة وصل بين حضارتين وثقافتين وعالمين آمن بإمكان لقائهما، مخالفًا بذلك الشاعر الإنجليزي الشهير روديارد كيبلنغ الذي قال إن «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا». رؤية حسن الكرمي للعلاقة بين الحضارات تمحورت تحول إمكان الحوار والتفاعل والتهجين والإخصاب المتبادل.

          كان حسن الكرمي إذن صلة وصل بين ثقافتين رأى أن كلا منهما تمتلك سماتها الأصيلة وأزمنتها الحضارية الضاربة في عمق التاريخ، على الرغم من انقلاب التراتبيات واندفاع الحضارة الغربية إلى المقدمة في العصور الحديثة وتراجع الحضارة العربية في الزمان نفسه. ولعل التأليف المعجمي الذي نذر الرجل نفسه له أن يكون أداته التي فحص من خلالها أشكال الاتصال والانفصال بين الثقافات، فالثقافات تتشكل في اللغة وباللغة، ولا كاشف عن أعماقها يفوق القاموس الذي يضع اللغات، بعضها مقابل بعض موضحًا نقاط اللقاء والافتراق. وقد كان حسن الكرمي، الذي عمل في صمت خلال قرن من الزمان، ولم يسع إلى منصب ولم يطلب الغنى في هذه الدنيا الفانية، واحدًا من رسل الثقافة الإنسانية، الثقافة التي تجمع البشر ولا تفرقهم، تقيم جسورًا من التواصل في ما بينهم بدلاً من دفعهم إلى الصراع والتقاتل على الحدود والتخوم. تلك كانت رسالته التي قدمها للثقافتين الإنجليزية والعربية. 

البيئة المحفزة

          ولد حسن الكرمي في نهاية يونيو أو بداية يوليو من عام 1905 لأب من رجالات فلسطين الذين برزوا في ميدان الفقه والأدب واللغة، فقد كان الشيخ سعيد الكرمي (1852 - 1935) تلميذًا لكل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. واللافت أن سعيد الكرمي أنجب عددًا من الأبناء الذين غذوا السير على خطى أبيهم فكونوا حلقة الكرميين الكبار: الناقد والمترجم والصحافي أحمد شاكر الكرمي (1895 - 1927)، وحسن الكرمي، والشاعر الفلسطيني الكبير عبدالكريم الكرمي المعروف بـ «أبو سلمى» (1907 - 1980).

          تلقى حسن الكرمي تعليمه الابتدائي في طولكرم، ثم انتقل إلى دمشق ليكمل تعليمه الثانوي فيها، حيث التحق بعدها بالكلية الإنجليزية في القدس عام 1925. وقد عمل الكرمي مدرسًا للغة الإنجليزية والرياضيات في مدينة الرملة وبدأ عام 1934 يدرس في الكلية العربية في القدس التي تخرج فيها معظم كتّاب فلسطين ومثقفيها في تلك السنوات.

          تخصص الكرمي في أصول التربية والتعليم وعلم الإحصاء التربوي خلال العامين 1937 - 1938 متخرجًا في جامعة لندن. وعند عودته إلى القدس انتقل إلى إدارة معارف فلسطين برتبة مساعد مفتش. وبعد سقوط فلسطين بأيدي العصابات الصهيونية هاجر الكرمي إلى بريطانيا ملتحقًا بالقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية مراقبًا للغة فيها، وفي تلك الأثناء أعد سلسلة تعليم الإنجليزية بالراديو، كما أعد برنامجه المعروف «قول على قول». في عام 1969 قلدته الملكة إليزابيث (ملكة بريطانيا) وسامًا لخدماته في العمل الإذاعي، وفي عام 1983 منح لقب عضو شرف في مجمع اللغة العربية الأردني. وقد توفي في الخامس من مايو 2007. 

العمل المعجمي

          ألف حسن الكرمي معجم «المنار» (إنجليزي - عربي) (1970)، ومعجم «الهادي إلى لغة العرب» (عربي - عربي)، ثم ألف سلسلة معاجم «المغني» ثنائية اللغة (إنجليزي - عربي)، وهي: المغني، والمغني الكبير، والمغني الأكبر، والمغني زائد، والوسيط، والوجيز، إضافة إلى معجم من السلسلة نفسها (عربي - إنجليزي). وقد كانت هذه المعاجم، التي يسند بعضها بعضًا، ويلبي كل واحد منها حاجة فئة معينة من المستعملين، نتاج عمل شخص فرد نذر حياته لفتح آفاق اللغة العربية على الإنجليزية، وتوسيع الثروة اللغوية للعرب من خلال وضع المعاجم بخاصة والترجمة بعامة.

          انطلاقًا من هذا التصور الخاص بالعمل المعجميّ فإن حسن الكرمي يرى أن «صناعة المعجم» هي أكثر صعوبة ودقة من علم الرياضيات، لأن دقائق تلك الصناعة ورهافتها، ووجود ظلال كثيرة للمعنى الذي نعطيه لأي كلمة عندما نترجمها إلى لغة أخرى، تتطلب عقلاً صافيًا مدربًا على البحث، كما تتطلب معرفة بروح اللغتين التي يترجم عنها المرء أو يترجم إليها. ويشرح الكرمي طريقته في العمل المعجمي قائلاً: إن «أول شيء يقوم في ذهن واضع المعجم هو قصده من وضع معجمه، وهل هو معجم ابتدائي أو متوسط أو جامعي، وهل هو لعلم من العلوم كالطب أو الكيمياء أو هل هو جامع يشتمل على عدد أكبر من الكلمات، وهل هو لتفسير معاني الكلمات بالأمثلة والشواهد أم لتعليم لغة أجنبية عن طريق الاستعمال».

          يطرح الكرمي هذه المقاصد على المعاجم التي اشتغل عليها فيرى أن معجم «المنار»، وهو إنجليزي - عربي (1970) قصد منه أن يكون معجمًا ابتدائيًا، «فلم يكن عدد كلماته كبيرًا، وكانت المعاني محصورة في المعاني الأكثر شيوعًا، ولم يكن الاهتمام كبيرًا بالمصطلحات العلمية، ولا بالاستعمالات المجازية إلا ما كان منها ضروريًا. وقد كان ذلك المعجم الأول فاتحة لسلسلة من المعاجم التي اشتغل عليها الكرمي في ما بعد وهي: المغني والمغني الكبير والمغني الأكبر، والأخير معجم موسوعي يمتاز باشتماله على وفرة من المصطلحات العلمية والأدبية والفنية. أما «المغني الكبير»، فهو كما يصفه الكرمي، «صلة الوصل» بين المعجمين، «المغني» و«المغني الأكبر» فهو يهتم بشرح المصطلحات الأدبية أكثر من اهتمامه بشرح مصطلحات العلوم، بينما يعمل الكرمي في «المغني الأكبر» على التشديد على مصطلحات العلوم وإيجاد مقابل لها في العربية وشرحها شرحًا وافيًا يوضح معناها لقراء المعجم.

تدرج وبساطة في الأسلوب

          يتسم أسلوب الكرمي في معاجمه بالتدرج في شرح المعاني، فهو في «المغني الكبير» يشرح الكلمة الإنجليزية في أول الباب، ثم تأتي المعاني الاصطلاحية والمجازية في جمل إنجليزية ملحقة مترجمة ترجمة دقيقة. ويهدف واضع المعجم إلى إعطاء المعاني الصحيحة للكلمات الإنجليزية، التي تعد ستين ألفًا في «المغني الكبير»، كما يهدف إلى تعليم الإنجليزية عن طريق استعمالها في جمل مختارة، ومن ضمن ذلك استعمالات الأفعال مع أحرف الجر والظروف.

          ويرى الكرمي أنه، بطريقته في شرح الكلمات الإنجليزية، يعلم اللغة العربية بطريق غير مباشر موفرًا معرفة غير مباشرة باللغتين العربية والإنجليزية اللتين يرى أنهما تختلف كل منهما عن الأخرى بغلبة الفعل في العربية، وغلبة الاسم بالإنجليزية.

          إن ما يلفت الانتباه في عمل الكرمي المعجمي هو البساطة التي تسم طريقة إعطاء المعنى وسهولة التناول والقدرة على تقريب المعاني، وعدم التداخل بين معاني الكلمات ومشتقاتها، في معاجمه الكثيرة التي ألفها، فهو في «المغني الأكبر»، مثلا، يرتب الكلمات ترتيبًا ألفبائيا دون أن يلجأ إلى إدراج مشتقات الكلمة ضمن المدخل نفسه، معطيًا كل مشتق مدخلا خاصا به. وينبع هذا الترتيب لمادة المعجم من تصور عملي للعلاقة التي تقوم بين مستعمل المعجم والمعجم، فمن يستعمل المعجم يسعى إلى الحصول على معنى الكلمات التي يبحث عنها، وتعقيد البحث عن معاني الكلمات بإدراجها ضمن معاني أصولها الاشتقاقية يُتعِب مستعمل المعجم ويزهده في قراءته.

          ومن الواضح أن خبرة الكرمي في تعليم اللغة الإنجليزية، من خلال برامج تعليم الإنجليزية بالراديو في محطة الإذاعة البريطانية، قد نبهته إلى ضرورة فصل عملية تعليم اللغة عن طريق تقديم معاني الكلمات في المعجم. إن المعجم يعلم اللغة بصورة غير مباشرة، كما يرى صاحب المغني، لكن وظيفته تتمثل في القدرة على إيصال الباحثين إلى معانيه بأيسر السبل. وهو يخالف بذلك عددًا كبيرًا من المعاجم الإنجليزية - الإنجليزية، مثل معجم أكسفورد الميسر The Concise Oxford Dictionary، التي تعنى تحدده للكلمة المشتق منها. وهو الأمر نفسه الذي تفعله بعض المعاجم الإنجليزية - العربية ما يصعب عملية البحث في تلك المعاجم ويطيل فترة البحث عن المعاني بالنسبة إلى المستعملين. 

نظرية الكرمي اللغوية

          تقوم نظرية الكرمي اللغوية على ممارسته المعجمية، ومعظم الملاحظات الخاصة باللغة، وطبيعة اللغتين الإنجليزية والعربية، تنبع من عمله المعجمي الذي امتد على مدار نصف قرن. وهو في كتابه «اللغة: نشأتها وتطورها في الفكر والاستعمال» (2002)، الذي يمثل خلاصة تفكيره باللغة ونظرته إلى كيفية نموها وتطورها، يرى أن الأصل في اللغة هو الاستعمال، وهي ملاحظة جديرة بأن تصدر عن معجمي يهمه من اللغة تداولها بين الناس. كما أنه يفتتح كتابه بالقول: إن «اللغة في الأصل أصوات استعملها الإنسان في عهد الفطرة ليعبر بها عن حاجاته وإحساساته. وهذه الحاجات والإحساسات تكاد تكون واحدة أو متشابهة عند الإنسان البدائي أو في كل مكان، فهو يبرد ويجوع ويعطش ويتعب ويفرح ويغضب ويتألم كغيره من البشر». (ص:2) وهو يقول في موضع آخر إن اللغة هي «أصوات تلفظ ورموز تكتب وتقرأ بغرض الإعراب عن رغبة المتكلم أو الكاتب وإفهام تلك الرغبة إلى المخاطب». (ص:7) ويستنتج الكرمي تقارب أصول اللغات من تشابه ما يسميه أصوات المحاكاة onomatopoeia في ما بينها، مثل البلبلة والجلجلة والخرخرة والصرصرة والقعقعة والنهنهة والقوقأة والقرقرة.. إلخ. وهو يورد مقابلات إنجليزية لأصوات الحكاية العربية ليدلل على نظريته اللغوية. وعلى الرغم من صعوبة التحقق علميًا من صحة هذه النظرية في نشوء اللغة فإن الكرمي يشدد على أن «اللغة عند الإنسان الأول كانت واحدة ثم تفرعت من رقي العقل البشري واختلاف مجتمعاته كما اختلفت اللهجات في اللغة الواحدة». (ص:6).

          يقود الاستنتاج السابق، الذي يورد الكرمي ما يضحده في كلام عالم اللغة الشهير ماكس مولر عن كون تلك النظرية لا تصلح إلا «لقوقأة الدجاج وبطبطة البط»، (ص:12)، إلى أن «الكلام لفظًا أو كتابة عبارة عن مجموعة من الرموز اخترعها الإنسان في زمانه للدلالة على الأشياء، ولولا هذه الملكة الموجودة في الإنسان دون الحيوان تمكنه من استعمال الرموز لما كانت لغة في الوجود».(ص:18) ويورد الكرمي، في هذا السياق، رأيين متعاكسين بخصوص علاقة اللغة بالأفكار، دون أن يتبنى أحدهما دون الآخر. فهو يقول في البداية إنه لما كانت اللغة هي قوالب للأفكار فكلما ازدادت هذه القوالب زادت معها المفردات، كما أن الأفكار والصور الذهنية وليدة الحاجة، ومن ثمّ فإن القوالب اللغوية هي وليدة الحاجة (ص:91). ويبني على هذا الرأي تصور يفيد أن كل لغة هي وليدة الحاجة، والحاجة يمليها المحيط أو الثقافة الخاصة لكل أمة وشعب. أما الرأي المخالف لهذا الرأي فيتمثل في نظرية سابير وورف التي تقول إن اللغة هي التي تضع الأفكار وتشكلها لأن هذه اللغة هي وليدة الحاجة أو الثقافة الخاصة. وهو الفهم الذي يواصله الفيلسوف لودفيغ فنجنشتاين الذي يتحدث عما يسميه فتنة اللغة Language Bewitchment، فالكلمات إذا قيلت فإنها تسد مسد مدلولاتها. وهو قول قريب من اعتباطية العلامة اللغوية التي قال بها عالم اللغة السويسري الشهير فردينان دي سوسير.

          المشكلة أن الكرمي لا يتخذ موقفًا واضحًا من هاتين النظريتين حول علاقة اللغة بالفكر، لا يتبنى واحدة منهما، ولا ينفي الأخرى، بل يوردهما جنبًا إلى جنب وكأنه حائر بينهما لايعرف أيهما يأخذ وأيهما يترك.

قول على قول

          على مدار ثلاثين عامًا وأكثر ظل حسن الكرمي يبث من القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية برنامجه «قول على قول»، الذي كان يبدؤه بعبارته الشهيرة: «وسألني سائل من القائل وما المناسبة؟» وقد ظل البرنامج يذاع حتى عام 1989، أي حتى عودة حسن الكرمي إلى عمان، وانقطاعه عن العمل في الإذاعة البريطانية، وتفرغه للكتابة وتأليف معاجمه الشهيرة. ولقد استقطب البرنامج ملايين المستمعين، وتلقى معد البرنامج آلاف الأسئلة. وقد ساعدت الكرمي معرفته الواسعة بالتراث وحفظه لآلاف الأبيات من الشعر العربي لكي يستطيع الإجابة عن أسئلة المستمعين. وعلى الرغم من توقف البرنامج فإن برنامجا ثقافيا آخر لم يلق الشهرة التي لقيها، كما أن فصاحة اللسان التي كان يتمتع بها حسن الكرمي والقدرة الفذة على الإلقاء قد دفعت المستمعين العرب في كل مكان لكي يتابعوا برنامجه الذي كان يمثل ثروة لغوية وشعرية تضاهي ما كتبه الموسوعيون العرب في التراث من أمثال أبي الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» وابن عبد ربه في «العقد الفريد»، وغيرهما ممن أنفقوا أعمارهم في شرح أشعار العرب وأقوالهم وحفظها للأجيال.

          وقد تحول هذا البرنامج إلى موسوعة في التراث بلغ ما هو منشور منها أربعة عشر جزءا. وقد ترك المؤلف الأسئلة والأجوبة دون تغيير، مع بعض الإضافات القليلة، وذكر مع كل سؤال اسم السائل، كما يقول، في مقدمة تلك الكتب، «إثباتا لصحة السؤال». ويعلق في المقدمة أيضا قائلا إنه لم «يقصد بأجوبته في ذلك البرنامج أن تكون دراسة أدبية ولغوية مستقصاة»، وإنما أراد أن تكون تلك الأجوبة «للإمتاع والتسلية والتعريف بشيء من ذخائر الأدب العربي وطرائفه».

إنجازه في الترجمة

          أنجز حسن الكرمي ترجمة لكتابين عن الإنجليزية أولهما كتاب روبرت هـ. ثاولس «التفكير المستقيم والتفكير الأعوج»، وقد نشرته سلسلة عالم المعرفة في عدد أغسطس 1979 بمراجعة من صدقي عبد الله حطاب؛ أما الثاني فهو كتاب «العرب والمسلمون في الأندلس بعد سقوط غرناطة» لهنري تشارلس لي، ونشرته دار لبنان للطباعة والنشر عام 1988.

          يندرج كتاب «التفكير المستقيم والتفكير الأعوج» Straight and Crooked Thinking، المنشور بالإنجلزية عام 1974 لمؤلفه روبرت ثاولس Robert H. Thouless، في سياق المؤلفات التي تعالج علم المنطق واستعمالاته، وطرق الحجاج المنطقي المختلفة التي يستعملها المفكرون والعلماء، وكذلك رجال السياسة والقادة الاجتماعيون. إنه بمعنى من المعاني يتخذ من طرق استخدام اللغة موضوعا له، معالجا أشكال الجدل والمغالطات المنطقية وعلاقة الكلمات والحقائق، وعلم المعاني، وعادات التفكير، والتحيز، ومزالق القياس، والتبسيط المسرف في التفكير. وهو لذلك يندرج ضمن اهتمامات حسن الكرمي، ويقترب من مشروعه، الممتد على مدار عمره، والذي تركز على تأليف المعاجم والتفكير باللغة العربية، وكيفية تنميتها وتطويرها.

          الكتاب الثاني الذي نقله الكرمي عن الإنجليزية، بعنوان «العرب والمسلمون في الأندلس بعد سقوط غرناطة»، هو ترجمة لفصل طويل من عمل موسوعي ضخم من أربعة مجلدات كتبه هنري تشارلس لي بعنوان «محاكم التفتيش في إسبانيا» A History of the Inquisition in Spain، وعنوان الفصل، الذي أورده المؤلف في المجلد الثالث من الكتاب، هو «تنصير العرب والمسلمين (الموريسكو) وطردهم». وقد استل الكرمي الفصل من ذلك العمل الضخم لغاية شرحها في مقدمته القصيرة للكتاب، فهو يقول إن من دوافعه لترجمة الكتاب عدم وجود بحث تاريخي عن العرب والمسلمين في إسبانيا بعد سقوط غرناطة. وقد قام المترجم بترجمة الفصل المذكور بتصرف، كما يقول، وأضاف إليه بعض التعليقات التاريخية لزيادة الإيضاح. لكنه سرعان ما يكشف عن غايته الفعلية من وراء الترجمة موضحا أن «ما جرى للعرب والمسلمين في إسبانيا من اضطهاد وقهر وانتزاع أملاك وأموال وطرد وتشريد وغير ذلك، يشبه ما جرى ويجري لعرب فلسطين بالاحتلال الإسرائيلي لبلدهم وإنشاء دولة إسرائيل فيه».

          من هنا، فإن بالإمكان ملاحظة صلة وصل بين ما أنجزه حسن الكرمي في حقول متعددة: في حقل تأليف المعاجم الإنجليزية - العربية، وفي عمله في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية معلمًا الناس اللغة الإنجليزية من خلال الراديو، ومقدمًا لهم أضخم موسوعة للشعر العربي في الزمان الحديث من خلال برنامجه «قول على قول»، وأخيرًا من خلال ترجمته لعدد محدود من الكتب التي تتصل موضوعاتها بانشغالاته المركزية، وبوضعيته كمنفي ومشرد خارج أرضه فلسطين.

 

فخري صالح   





حسن الكرمي.. بريشة الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط