غرناطة أسطورة نتغنى بها.. د. خالد عزب

غرناطة أسطورة نتغنى بها.. د. خالد عزب
        

لكل شيءٍ إذا ما تم نُقصانُ فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كماَ شاهدتُها دولٌ من سَرّه زمنٌ ساءته أزمانُ


          هكذا رثى أبو البقاء الرندي في مرثيته الأندلس وضياعها وضياع غرناطة، لكننا اليوم، وبعد أكثر من خمسمائة عام من سقوط غرناطة، مازلنا نتغنى بها لكونها تعبّر عن رفاهية حضارة العرب ومكان تعايش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود في تسامح لسنوات طويلة، اليوم تعود غرناطة لتتسامح مرة أخرى مع تاريخها العربي، فتعدّه جزءًا من نسيج تاريخها تعتز به، خاصة أن اقتصادها يقوم على السياح الذين يأتون من كل حدب وصوب لزيارة معالمها خاصة قصور الحمراء التي سلبت بروعتها ورشاقتها عقول الفنانين والأدباء، دعوني أصطحبكم إلى غرناطة، التي طالما راودت مخيلتي أحلام زيارتها.

          كانت الدعوة من معهد الدراسات العربية في غرناطة للمشاركة في مؤتمر علمي أقيم لدراسة الحضارة العربية ومنجزاتها، فشاركت ضمن مشاركين من تونس وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهالني عند وصولي أن المعهد في حي البيازين، ذلك الحي الذي بكى أهله ونكل بهم حين سلمت غرناطة لإيزابيلا وفرناندو، المعهد جعلني أستعيد على الفور صورة منازل الفسطاط وبخاصة فناؤه الذي يفتح عليه سقيفة تتشابه مع ماتبقى من منازل الفسطاط، وكأن القبائل اليمنية، التي شاركت في فتح مصر ثم في فتح الأندلس قد نقلت معها موروثًا معماريًا، لتدلل على التواصل الحضاري من شرق إلى غرب المتوسط، المعهد به مكتبة رائعة وعلماء إسبان كرّسوا حياتهم لدراسة تاريخ وحضارة الأندلس، غير أن قلة منهم يتحدثون العربية، وهو ماقد شكك في قدراتهم على التواصل مع تراث العرب في الأندس.

البازين.. أسفل وأعلى

          تنقسم البازين إلى البازين السفلي، التي يقع بها المعهد، والبازين العلوي، السفلى محاذية لنهر حدرة الذي يفصلها عن تلة السبيكة حيث قصور الحمراء، وبها مقاهٍ تقدم الشاي الأخضر ومحلات الحرف التقليدية والعديد من الفنادق التي تكتسب الطابع العربي في بنائها.

          أما البازين العلوي فتصعد إليها عبر أزقة ملتوية تشاهد خلالها بقايا من المنازل العربية بحدائقها الغناء وعمارتها المكتسية بالبياض، لكن في صعودك ستجد نظرك يذهب كل برهة تجاه قصور الحمراء أعلى تلة السبيكة، وفي كل مرة ستكتشف أن كل شارع وكل زاوية تعطي لك وجهة نظر مختلفة لقصور الحمراء، هذا ما جعلني شغوفًا أكثر فأكثر للصعود إلى أقصى قمة التلة، حيث يعيش الغجر الذين اشتهروا برقصاتهم المميزة في العالم، وهناك أعلى التلة ساحة تتقدم كنيسة سان نيقولاس ببرجها الشهير، كانت مسجدًا حول بعد الاستيلاء على غرناطة إلى كنيسة، لكن مع ظهور روح التسامح في إسبانيا المعاصرة، سمح ببناء مسجد صغير لمسلمي غرناطة إلى جوارها سمّي بمسجد سان نيقولاس، حيث اشترت ليبيا الأرض، وتبرّع الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة ببناء المسجد، فجاء بناءً تميز بالبساطة والروح الأندلسية، في المسجد. سألت عن مسلمي غرناطة، فوجدت منهم ذوي أصول إسبانية وإنجليزية وإيطالية وأمريكية، مايزيد على مائتي مسلم يعيشون في هدوء تام، ويشد انتباهك لهم التزامهم الإسلامي في العمل اليومي والعبادة، ومن بين 350 ألفًا يعيشون في غرناطة اليوم، هناك ما يزيد على 15 ألف مسلم معظمهم من أصل مغربي وقلة قليلة من تونس والجزائر ومصر، يعملون في المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية، لكن استوقفني من المغاربة مصطفى بوجرين المغربي الذي تحرص بلدية غرناطة على تقديمه كنموذج للمواطن الغرناطي، مصطفى يقدم في مطعمه أكلة الكسكسي المغربي بشتى أنواعها، فضلاً عن الشاي بالطريقة المغربية، حتى صار علمًا يزوره كبار الشخصيات السياسية والثقافية والفكرية، فمطعم الريحان في غرناطة، كقهوة الفيشاوي في القاهرة، من لم يزره اليوم لم يزر غرناطة.

          إن زائر غرناطة اليوم سيجد نفسه بين ثلاثة من الطرز المعمارية، أحدها في البيازين وتلة السبيكة، وثانيها في امتداد شارع الملكين الذي يبدأ في الميدان الجديد Plaza Nueva، ومنه إلى ميدان يتوسطه تمثال لإيزابيلا وهي تقابل كولمبس، يرمز إلى اندفاع إسبانيا نحو الغرب. مازالت بقايا المدينة القيمة قائمة على يسار ويمين شارع الملكين، غير أن الطرز المعمارية المعاصرة هي الغالبة في البنايات الرئيسية في الشارع، وفي الداخل ستجد بنايات بعضها ذو طابع عربي، منها فندق الفحم الذي يقع في شارع فرعي، وهو بالقرب من مركز بريد غرناطة، وهو بناء قديم، له مدخل معقود به كتابة كوفية تقرأ {قل هو الله أحد}، ومن الباب تدخل إلى دركاة تفضي إلى فناء مربع تتوسطه نافورة ماء حوله بوائك تحمل غرف إقامة التجّار، كان هذا الفندق يستخدم قديمًا لإقامة تجار الغلال، واستعمل بعد سقوط غرناطة مخزنًا للفحم، فعرف بدار الفحم، وقد تحول في القرن السادس عشر الميلادي إلى مسرح عرضت فيه الأعمال المسرحية الكلاسيكية، وهو اليوم معلم من معالم غرناطة السياحية، تتخذ مؤسسة تراث الأندلس من طوابقه العلوية مقرًا لها، وهي مؤسسة ترعاها حكومة إقليم الأندلس، تهدف لمد جسور التعاون مع الوطن العربي، فأقامت العديد من المعارض التي تبين العلاقات العربية الأندلسية كمعرض تألق الأمويين في بلاد الشام والأندلس، ومعرض مثلث الأندلس الذي أقيم احتفاءً باختيار الرباط عاصمة للثقافة العربية، ثم إقامة معرض عصر ابن خلدون قيام وسقوط إمبراطوريات، فضلاً عن تبني المؤسسة العديد من الدراسات التي تبرز دور العرب في إقامة حضارة الأندلس، منها دراسة رائعة عن الماء وتقنياته في الأندلس.

جذور قديمة

          وعبر شارع الملكين، نصل إلى القيسارية التي أنشئت في العصر العربي، وتعرضت لحريق سنة 1842م، لكن أعيد ترميم وبناء ما تبقى منها مرة أخرى بالنسق نفسه، وتكاد وأنت تمر بها تستعيد في ذاكرتك شوارع فاس وتونس القديمة، بل حتى الهدايا التذكارية التي تباع بها جلها مستوحى من الطراز العربي، وإذا سألت أحد الباعة الإسبان بالقيسارية عن ذكراه عن العرب، فسيحدثك فورًا عن ماضٍ مجيد، حدّثني أحدهم دون أن يكتشف أني عربي ومسلم، بل قد تكون لي جذور غرناطية، حيث هاجر أهل جدتي لأمي من غرناطة إلى مطوبس في مصر وعاشوا لسنوات وفي داخلهم هاجس الأندلس، لكن أهل غرناطة من الإسبان أصبحوا يتفاخرون بتاريخهم العربي ويعدّونه جزءًا يتغنون به، كما نتغنى نحن اليوم بالأندلس كأرض شهدت رفاهية الحضارة العربية، وتقدم علومها ثم أفولها، وقادتني رحلة السيد إلى الكنيسة الملكية، التي بنيت بالقرب من القيسارية بأمر ملكي صدر في 13 سبتمبر 1504م، كان كل من فرناندو الثاني ملك أرجون وإيزابيلا الأولى ملكة قشتالة أمر ببناء هذه الكنيسة لكي يدفنا بها بعد وفاتهما، كرمز على استردادهما آخر إمارة عربية في إسبانيا، توفيت إيزابيلا في العام نفسه، ولحقها فرناندو سنة 1516م، ودفنا في فندق برادو سان فرانسيسكو بالقرب من قصور الحمراء، حيث لم يكن بناء الكنيسة قد اكتمل بعد، بنيت الأجزاء التي شيدت في عهد فرديناند على الطراز  القوطي، وفي عهد تشارلز الخامس (1517 - 1556م)، تم استكمال البناء، وتم نقل رفات الملك فرناندو والملكة إيزابيلا إلى الكنيسة العام 1521م، وأصبحت منذ ذلك الحين وإلى فترة من الزمن المكان المفضل لدفن الأسرة المالكة الإسبانية، رفات كل من الملك والملكة يعلوها تابوت رخامي مشترك تحفه تماثيل الملائكة ترفع غطاء تابوت كبير مشترك جسّد أعلاها الملك والملكة نائمين. ومنذ عهد فيليب الثاني صار دير الأسكوريال الشهير هو المكان المفضل لدفن أفراد الأسرة المالكة في إسبانيا. وألحق بالكنيسة مكان صالة عرض لمقتنيات الأسرة المالكة من سيوف وتيجان، صناديق مجوهرات، كما ضمت رسومات تجسّد جانبًا من التاريخ الإسباني.

          في مواجهة الكنيسة لايزال الأثر العربي باقيًا كملمح على رسوخ التراث العربي في غرناطة متمثلاً في دار العلوم، التي بناها يوسف الأول في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وهي ذات واجهة تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي، ولم يبق من المدار سوى البناء الداخلي الذي يتميز به المحراب بصورة خاصة، كان البناء تحفة روائع من الخط العربي نقلت إلى المتاحف، ويحتفظ متحف غرناطة بلوحة منها كتب عليها:

          «أمر ببناء هذه الدار للعلم جعلها الله استقامة ونورًا، وأدامها في علوم الدين على الأيام، أمير المسلمين أظله الله بعونه، العلي الشهيد الرفيع الهمام السلطان المؤيد أبو الحجاج يوسف بن العلي الكريم المجاهد الفاضل أمير المسلمين أبو الوليد إسماعيل.. وتم ذلك في شهر محرم عام خمسين وسبعمائة».

          وإلى جوار كنيسة الملكين، حيث الرفات الملكية بدأ تشارلز الخامس مشروعه الضخم لإنشاء كاتدرائية غرناطة سنة 1523م ، ووضع حجر الأساس في عام 1528م، وهي بناء ضخم تم على مراحل ضم طرزًا معمارية عدة منها القوطي والباروك والكلاسيك، كان المسئول عن بناء الكاتدرائية هو إيزيك إيجس واتجه البناء في بادئ الأمر نحو الطراز القوطي، ثم حل محله ديجو دي سيلو، ولم يكتمل البناء للعبادة سوى العام 1561م. صمم واجهة البناء الونسو كانو، ولم يتم الانتهاء من البناء سوى في عام 1704م أي بعد أكثر من 180 عامًا من وضع حجر الأساس.

          وإذا كان تشارلز الخامس بنى كاتدرائية غرناطة العظيمة، فإنه شرع في بناء قصر على طراز عصرر النهضة الأوربي في منطقة قصور الحمراء، جاء نشازًا عن بقية القصور، التي تتميز برقتها وسموها الروحي،  جاء بناء القصر الذي تتوسطه ساحة دائرية على يد إيطالي هو مركيز موندجار، وهو من طابقين، كان تمويل بناء القصر من الموريسكيين، وهم بقايا مسلمي غرناطة الذين أجبروا على التنصّر، أو من جبايات أو مصادرات محاكم التفتيش، ولكن يقف هذا القصر بائسًا أمام روعة قصور الحمراء، التي إليها نرحل الآن.

تسليم غرناطة

          اكتسبت قصور الحمراء رمزية خاصة لدى المسلمين والإسبان، ويعود ذلك لكونها شاهدًا سياسيًا على نهاية وجود المسلمين بالأندلس، وسيطرة الإسبان بصورة نهائية على الأندلس، كان ذلك عندما اضطربت أحوال مملكة غرناطة، وانحسرت حدودها داخل أسوار عاصمتها، فضربت الجيوش المسيحية عليها حصارًا محكمًا في جمادى الآخرة 896هـ/ أبريل1941م. وكلما اشتد الحصار زادت نار الفتنة اشتعالاً، ووجد اليأس طريقه إلى قلوب الغرناطيين نتيجة للجوع والغلاء، ثم تآمر السلطان أبو عبدالله محمد بن علي بنفسه على تسليم المدينة وقلعتها الحصينة، في مقابل شروط معينة أهمها: تأمين السكان وأموالهم ومتاعهم، إطلاق جميع الأسرى من أهل غرناطة المسلمين، ترك الحرية للمسلمين لمزاولة شعائرهم الدينية، وعدم التعرض لهم إذا رغبوا في العبور إلى المغرب، إلى غير ذلك من الشروط.

          أرسلت هذه الشروط إلى ملك قشتالة فوافق عليها وطلب تقديم خمسمائة من كبار رجال المسلمين كرهائن، فأجيب إلى طلبه. فتقدمت قوة مسيحية إلى قصر الحمراء، وتسللت إلى داخله  دون مقاومة، فالتقى السلطان أبو عبدالله قائدها في برج قمارش وسلمه مفتاح حصن الحمراء فقط، دون مفتاح المدينة، فعاد القائد إلى معسكر سيده الذي كان يبعد قرابة اثني عشر كيلومترًا عن أسوار غرناطة وصحبه والملكة إيزابيلا إلى الحمراء، فدخلها فرناندو وإيزابيلا مع جيوشهما في 2 ربيع الأول سنة 897هـ / 2 يناير 1492م، ورفع الصليب على برج الحراسة، لكي يشاهده أهل غرناطة، وليكون رمزًا لتسلم مقر الحكم.

          والسؤال المطروح حول موقع قصور الحمراء من فن العمارة الإسلامي والفن المعماري الدولي مقارنة بالأوابد المعمارية الشهيرة، كالأهرام وتاج محل... إلخ. تمثل قصور الحمراء آخر ما تبقى من الأندلس، معماريًا وفنيًا، فهل يمكن أن نعدها أعلى ما وصل إليه الفن المعماري والفنون الزخرفية بالأندلس، هذا ما فيه شك، إذ إنها بنيت في عصر ضعف، وبالتالي لا مجال للحديث عن أبهة أو عظمة أو ضخامة أو إعجاز، مقارنة بما كان في الأندلس في العصور السابقة على الحمراء، خاصة أنها فقدت الكثير من محيطها المعماري والعمراني، وبالتالي لا نستطيع أن نتلمس فيها تخطيطًا تشكيليًا وفراغيًا كاملاً، ولم تكن رمزًا لدولة كبرى ذات سيادة كدولة المماليك في مصر والعثمانيين في تركيا، ولا هي بالتالي رمز لعزة أو منعة، قصور الحمراء كما تقوم اليوم دقيقة ورقيقة صغيرة وضعيفة. تمتاز بالرفاهية في زخرفها، وهنا ينبغي التساؤل: هل دخلت قصور الحمراء الخانة الرمزية بسبب من التعارض الظاهر بين رفاهيتها ودعتها ودقة صنعتها من جهة، واستعار حروب الاستعادة المسيحية من حولها من جهة أخرى؟ هل أضحت رمزًا للاستكانة والاستهانة واللهو والاستهتار اللذيذ والمسترخي في وجه قوى عاصفة لا وسيلة لها لمقاومتها أو حتى للتفكير بتجاوزها سوى بالالتهاء عنها، والانغماس في متعة حسية ونرجسية؟ ومن منظور آخر، هل نظر مستشرقو القرن التاسع عشر إلى هذه القصور على أنها الموئل الأخير للسحر الشرقي الغامض والمثير في أقصى الغرب من الغرب؟!

          هل رأوا فيها التجسيد الحقيقي والمدغدغ للغرائز الذي نسبوه لبناة القصور الإسلامية بحريمها المحرم وطقوسها المشتهاة؟ هل كان لهذه أن تخلد في الأدب والفن العالميين لو أنها كانت قائمة في القاهرة أو مراكش أو بخارى مثلاً؟

          تلك أسئلة شغلت العديد من المفكرين والمؤرخين والأدباء ابتداء من الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ولكن الغالبية العظمى ممن عالجوها كانوا من الشعراء والروائيين والفنانين الرومانتيكيين حول قصور الحمراء وساكنيها، حوّلوها من خلالها إلى ملعب لخيالهم وحساسياتهم. ورغباتهم المعلنة منها والمرجوة، فالتحليق مع الخيال والتاريخ المرتبط بالمكان قدم لنا الكثير.

          اجتذبت الحمراء بروائعها الروائي الأمريكي الشهير واشنطن أرفنج ليمضي فيها ليالي عدة يستلهم منها مادة لقصصه ورواياته، ومنذ ذلك الحين انتجعها الفنانون والأدباء، ومن هؤلاء العباقرة الموسيقي الإسباني الشهير مانويل دي فايا،  والشاعر الأديب فردريك جارسيا لوركا.

التصالح مع الحمراء

          وتصالحت إسبانيا من هذا المنطلق مع قصور الحمراء فإليها أقبل في سنة 1953 جمهور من المتخصصين في تاريخ الفن والعمارة يستلهمون منها طرازًا قوميًا لعمائر منهم وأصدروا قرارهم بعد ثلاثة أيام قضوها في أبهاء القصور وقاعتها يتأملون عناصرها الزخرفية، ويستنبطون من قيمها الجمالية والمعمارية الوفيرة مواد لهذا الطراز.

          عاشت إذن قصور الحمراء بسبب روعة تصميمها المعماري ودقة تناسب وتناغم عناصرها التشكيلية والزخرفية والنباتية والمائية، أي أن هذه القصور استمرت بعد ذهاب ساكنيها، لأنها فعلاً من دون أي اعتماد على عناصر الضخامة والعظمة والبذخ، فهي لا تحتوي أي معادن أو أحجار ثمينة أو شبه ثمينة كمثيلاتها في قصور الملوك، متألقة ومكتملة معماريًا بدقتها وأناقتها وزخارفها المنمنمة، التي تغطي كل سطوحها الداخلية وتناغمها الرائع مع محيطها الطبيعي، بل وتداخلها معه عبر نوافيرها وحدائقها ومطلاتها وعيونها، التي ما انفكت تغذي قريحة الإنسان.

          إن هذه القصور تحيا بسبب من جمالها الذي يمس شغاف الحس، ويثير فيه الرغبة بالتحليق، بالتخيّل، بالإبداع، وبالمبالغة ربما. هذا الجمال المعماري هو ملهم كل المنشدين لوصف قصور الحمراء، أو لمقاربة تاريخها، أو بالأحرى لإعادة صياغته نثرًا وشعرًا وصوره وتصميمًا بما يتلاءم مع تأثير هذه الروعة المعمارية على مشاهديها ومتذوّقيها. وهذا الجمال المعماري هو أيضًا السبب في انخلاع الحمراء عن تاريخها الفعلي واكتسابها لتاريخ متألق، متوهج وخيالي أسطوري.

          هذا الجمال هو قطعًا السبب الذي دعا ملوك إسبانيا الكاثوليك للمحافظة على الحمراء في أول الأمر حتى بعدما دخل فرناندو وإيزابيلا قصور أبو عبدالله المستسلم والمنفي عام 1492م. ولم يرغبا في سكناها لأنها تخالف مفاهيمهم في التقشف أو على الأقل الظهور بمظهره، فإنهما لم يقوما بإزالتها، على الرغم من العداوة، التي شعرا بها تجاه أسيادها السابقين، وحتى عندما أراد كارلوس الخامس في بداية القرن السادس عشر أن يؤكد  انتماءه لأوربا عصر النهضة، وأقام قصره المتعجرف بقوة في قلب الحمراء، فإنه لم يجد في نفسه كل الكبرياء أو القسوة لإزالة جميع قصور بني الأحمر، عدا تلك الأجزاء التي اعترضت قصره، أو التي حفظت ذكرى حية لملوك غرناطة المسلمين كروضتهم، التي احتوت قبور بني الأحمر كلها مثلاً.

          بقيت قصور الحمراء ذكرى مؤلمة للأندلس، وأن وجودها شاهد عيان على انحسار الإسلام عن الأندلس، ولطالما ذكرها المؤرخون مع ما ارتبطت به من أحداث في كتاباتهم، فظلت باقية في سيرة التاريخ، بل تناقل وصفها الأندلسيون الذين هاجروا إلى الشمال الإفريقي من مصر إلى المغرب. ولما كان الشعر ديوان العرب، فقد خلّد الشعر العربي هذه القصور، حيث حفلت جدرانها بقصائد لأعظم شعراء الأندلس، التي قيلت في وصف حدائق ومتنزهات ومباني الحمراء، مما زاد في قيمة هذا الشعر وخلوده، ويستفاد من المصادر الأدبية والتاريخية، وأيضًا من دواوين هؤلاء الشعراء أن بعض قصائدهم أعدت خصيصًا، ونظمت لهذا الغرض الزخرفي لتنقش على الجدران والنافورات مما يجعلنا نصدق القول بأن الحمراء تسجل لنا أفخم وأعظم طبعه لديوان الشعر العربي على مر العصور، فلم يسبق أن صدر ديوان للشعر مذهبًا ومطبوعًا على الجص والحجر، ومزخرفًا بأروع التشكيلات الهندسية والنباتية من فنون الزخرفة الإسلامية.

          ويعود هذا إلى أن معظم من تولى الوزارة من سلاطين بني نصر في غرناطة كانوا من فحول الشعراء، وكانت الموضوعات الرئيسية لأشعارهم تدور عادة حول مدح السلاطين والأمراء، ووصف حفلات البلاط والاحتفالات بالأعياد الدينية الكبرى أو عودة الجيش منتصرًا، أو حفلات الزواج، أو أشعار وصفيه لغرناطة وحدائق وقصور وبرك ونوافير قصور الحمراء ومعالمها المختلفة، وأشهر الشعراء الذين دوّنت أشعارهم على جدران الحمراء لسان الدين بن الخطيب وابن الجياب وابن زمرك، رددت أشعار هؤلاء في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وكانت بمنزلة الذاكرة التي تذكّر المسلمين بضياع الحمراء والأندلس، وهو ما صعد من رمزية الحمراء وقصورها.

          زيارتي لغرناطة أكّدت لي أنه على الرغم من تسامح غرناطة أخيرًا مع تاريخها العربي الإسلامي، فإن هناك غيابًا عربيًا عنها، فلا يوجد مركز بها لتعليم اللغة العربية، على الرغم من إقرار حكومة إقليم الأندلس تدريس الإسلام لأبناء المسلمين في المدارس، كما أنه لولا أنشطة مؤسسة تراث الأندلس ومعهد الدراسات العربية، لاندثرت الصلات العربية بغرناطة، فهل نمد يدنا لغرناطة، كما تمد يدها لنا، هل نتواصل في أجواء من التسامح والحوار؟!.

 

خالد عزب   




 





 





ستكتشف أن كل شارع وكل زاوية تعطي لك وجهة نظر مختلفة لقصور الحمراء





ستكتشف أن كل شارع وكل زاوية تعطي لك وجهة نظر مختلفة لقصور الحمراء





بوابات قصور الحمراء وجدرانها تحمل أشعارًا وأدعية بما يجسد كتابا مفتوحًا للثقافة الاندلسية





أصبح أهل غرناطة من الإسبان يتفاخرون بتاريخهم العربي كما نتغنى نحن بالأندلس كأرض شهدت بقصورها وحدائقها الغناء رفاهية الحضارة العربية وتقدم علومها





تمثل قصور الحمراء آخر ما تبقى من الأندلس معماريا وفنيا





تكتسب قصور الحمراء رمزية خاصة لكونها شاهدا سياسيا على نهاية وجود المسلمين بالأندلس بعد اضطراب أحوال مملكة غرناطة، وانحسار حدودها وحصار الجيوش المسيحية لها





بهو الأسود في قصر الحمراء بغرناطة