الطيب محمد الطيب دوحة العطاء

الطيب محمد الطيب دوحة العطاء
        

ها نحن نودع الأستاذ الطيب محمد الطيب الذي كان هودجًا جامعاً لتراث الحضر والريف، وواسطة عقد بين الذين احترفوا دراسة التراث الشعبي صنعةً، وأولئك الذين كانوا يروونه سليقةً.

          توفي الأستاذ الطيب في السادس من فبراير 2007م، أي في موسم حصاد الفول بقرية «أم غدي وزمان الهرج» في السودان كما يرى صديقه الدكتور عبد الله علي إبراهيم، حيث «إن العُصب المسلحة ظلت تأخذ بخناق الوطن، وإن الشركاء متماسكون الحِززّ في جوبا، أو مدلون بدلوهم بزخات الرصاص في أركان النقاش الجامعية، ورائحة السحت تزكم الأنوف وتكسر خاطر الناس». وفي هذا الزمن البخس توفي الأستاذ الطيب محمد الطيب، وكان الدكتور عبد الله علي إبراهيم يخشى أن يتحول رثاؤه إلى هامش في صراع السلطة بين الإنقاذ وخصومها، ولكن بفضل تقريضه وتقريض الأوفياء من أمثاله تحول مأتم الأستاذ الطيب محمد الطيب وليالي عزائه في السودان وعبر الأثير إلى ساحة إطراء أدبي يتبارى فيها الذين عرفوه عن كثب، وأوفوا الكيل والميزان في سرد محاسنه، وأولئك الذين أعجبوا بإسهامه التراثي السابل، وأرادوا أن يسجلوا له كلمة عرفان تثمِّن عطاءه الماكث في الأرض بما ينفع الناس.

رحلة الكسب والعطاء

          وُلِدَ الطيب في أسرة كان ديدنها الترحال في طلب العلم، حيث هاجر أصولها قديمًا إلى قرية نوري بريفي مروي، تلك القرية التي كانت تعج بخلاوى القرآن وأرتال طلاب العلم، واستقروا بها فترةً  من الزمن، امتدت إلى ميلاد الجد الثاني للطيب، الفكي أحمد أبو القاسم من أم شايقية، وبعدها عادت الأسرة إلى وطنها الأم بالمقرن ريفي الدامر، حيث تزوج محمد الطيب حفيد الفكي أحمد أبو القاسم من حبوبة بنت علي محمد شبر من العكد الكبوشاب، وأنجب منها الطيب عام 1934م، وبعد ميلاد الطيب تواترت عقائق أخوته الصغار ذكورًا وإناثًا إلى أن بلغت ثلاث عشرة عقيقةً.

          بدأ الصبي الطيب حياته العلمية بخلوة المقرن حيث حَفِظ القرآن، وبعدها درس الكُتَّاب والوسطى في مدينة أتبرا (عطبرة)، إلا أن هذا القسط المتواضع من التعليم المدني لم يشجعه على ولوج حياة الأفندية في كنف الدولة وراتبها المحدود، بل جعله يؤثر العمل الحر تشاشًا (تاجرًا) في سوق الدامر، وأحياناً مندوباً لأهل المقرن في مجلس ريفي شندي. وفي بيئة الدامر التي كانت حافلةً بتراث أهل السودان وتواصل البدو والحضر تفتقت قريحته على سماع المأثورات التراثية التي كانت تُروى سليقةً، ويتفنن الرواة في رسم صورها الجمالية حول نفرٍ من أعلام الفروسية أمثال عنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي، وطه الضرير، والطيب ود ضحوية، ويبالغون في سرد كرامات مشايخ الصوفية والأولياء الصالحين مدحاً وإنشاداً في حولية الشيخ المجذوب والمحافل المماثلة لها. في وسط هذا الزخم التراثي الزاخر بمآثر أهل السودان كان يتوهج نجم السيّدة فاطمة بنت فاطمة جدة الطيب من جهة أبيه، ويقول الطيب عنها: إنها كانت امرأة لها شخصيتها المميزة بين نساء قريتها، لأنه يُقال إن أهل أمها فقراء «يروبون الماء»، ومن ثم أضحت لها مكانه اجتماعية كبيرة  وسط أهل المقرن وزوارهم، وكانت مسموعة الكلمة، نافذة الإشارة على الكبار والصغار. كان الناس يتحلَّقون حولها كل أمسية لسماع الأحاجي والقصص والحكايات المشوقة التي كانت ترويها بأسلوب درامي جذَّاب.

          بفضل هذا الحضور التراثي في دامر المجذوب توطَّنت نفس الطيب على حب الفلكلور، الذي دفعه إلى تطليق أشغاله الحرة عام 1965م، والانضمام إلى شعبة أبحاث السودان التي رُفعت في عام 1972م إلى معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، فلا جدال أن تعيينه في وظيفة جامع فلكلور كان نقلةً نوعيةً أحدثها عرفاء الفلكلور في شعبة أبحاث السودان، ومنها انطلق الطيب يجوب البلاد طولاً وعرضًا في تحقيق هوايته المفضلة وفي جمع تراث أهل السودان من صدور الحُفَّاظ والوثائق التاريخية. وبذلك أضحى جامع فلكلور مدربًا، وله إلمام واسع بتاريخ السودان وجغرافيته، وعلى قدر كبير من تفكيك طلاسم العادات والتقاليد واللجهات العامية، وفوق هذا وذاك كان يتمتع بحيويةٍ خلاقة، وحدس فني ذواق لا يخذله البتة، ولباقة جعلت الناس يتجاوبون معه، ويشاركونه في مشروعه التراثي، ويطلعونه على مكتنـزات تراثهم الشعبي التي تكنَّها صدورهم، وتحفظها وثائقهم الخاصة التي يحيطونها بهالة من القدسية. وقد أهلَّ هذا الرصيد الفني والمعرفي الطيب ليكون نسيج وحده، لم يكن مقلدًا مجترًا، بل كان أصيلاً مبدعًا، تجاوز قيود الموروث وتقنيات الحداثة في منهجه البحثي، وفي تعامله الراقي مع مأثورات التراث السوداني. وبفضل عطائه السابل وحضوره الكثيف في ساحات العمل الفلكوري لم تعد صورة الفلكلور بعده كما كانت قبله، لأنه، كما يرى محمد محمد خير، كان مشروعًا ثقافيًا «يتسع لاحتواء مليون ميل مربع من الدويبت، والشاشاي، والتُم التُم، والكمبلا والجابودي، وتراث الشلك، والنقارة، وأهازيج الحكَّامات، وطارات المديح، وأمثال دارفور الشعبية».

صور شعبية

          توسط الطيب هذا الكم الهائل من التراث ومأثوراته، ونثر منه صورًا شعبيةً لـمَّاحةً عرضها منجمةً عبر شاشة تلفزيون السودان البلورية، وكسب بعرضه لهذه الأنساق والأنماط التراثية تقدير الناس له، لأنه فتح بصائرهم، كما يقول إبراهيم عبد القيوم، إلى وطن «مشحون برصيد تاريخي عزيز وغالٍ، وإن إنسانه عظيم ومتفرد، وإن تاريخ هذا الإنسان يفرض أن يبذل من أجله الكثير من الجهد والوقت». وحسب رواية الكيك فإن علاقة الطيب بالإذاعة والتلفزيون يرجع تاريخها إلى برنامج «التراث السوداني» الذي كان يقدمه الأستاذ محجوب كرار - رحمه الله - عبر إذاعة أم درمان، وفي إحدى حلقات برنامجه الشعبي استضاف الأستاذ الطيب محمد الطيب وقدمه إلى جمهور المستمعين السودانيين باعتباره علمًا من أعلام السودان المهمومين بالوطن وثقافته وتراثه، وبعد ذلك ظل الطيب زبونًا معتمدًا عند محجوب كرار، تواصلت لقاءاته، وتجدد عطاؤه، وانداحت دائرة مستمعيه، وما فتيء الطيب محفوفاً بحفاوة مستمعيه إلى أن أطل عليهم عبر شاشة برنامجه التلفزيوني الموسوم بـ: «صور شعبية». ومن خلال هذا البرامج استطاع الطيب أن يعرض صورًا شعبيةً حيةً، تعبر عن حياة الناس وأنساق تواصلهم الاجتماعي في كل بقاع السودان، بما في ذلك أفراحهم وأتراحهم دون كذب ولا رياء، وكانت هذه الصور تحمل قيمًا روحيةً صادقةً، وفنونًا أدبيةً شعبيةً، وموسيقى ورقصًا، وطُرَفًا من أدبيات الحصاد وأهازيج الرعاة، ونماذج من أدوات الحكم والولاية، وفنيات الحِرَف التي يطلق المثقافتية عليها مجازًا الحِرَف الهامشية. وفي الوقت نفسه كانت هذه الصور الشعبية تحمل قيمًا اجتماعيةً تسهم في خلق قوالب انفعالية وسلوكية تعين المجتمع على توثيق عُرى ترابطه وحل كثير من مشكلاته الآنية، وتساعد أيضًا في فهم العلل الكامنة وراء الأحداث التاريخية، والتشنجات الجهوية والفئوية المصاحبة لإفرازات القرارات السياسية في السودان.

الطيب والسلطة

          كان الطيب محمد الطيب أنصاريًا قلبًا وقالبًا، ويتجلى هذا الانتماء السياسي - العقدي في لباسه الأنصاري، وفي صونه لبيعة الأنصار التي قطعها مع إمامهم وزعامتهم السياسية. وبالرغم من الإحن والشدائد التي ألمت بهذه الطائفة فإن الطيب «لم يبعهم بغالٍ أو مرتخصٍ لينال حظوة النظم الكارهة لهم»، بل ظل وفيًا لبيعته، دون أن يخلط وفاءه الأنصاري برسالته التراثية التي كانت تسمو زهوًا فوق هامات الانتماء السياسي، وتتجاوز فخرًا تشنجات التعصب الديني، وترقى بماهيتها الوظيفية عن الشبهات العرقية، لأن جمهورها أهل السودان، ومادتها تراث أهل السودان.

          لم يكن غزل السلطة السياسية جزءًا من أدبيات الطيب وتطلعاته المشروعة، ولم تكن سلطة العمل الديواني هاجسه المنشود، بل كان ينبذها، لأنها من وجهة نظره مدعاةً للكسل وقتل الإبداع البشري.

          ونلحظ أيضًا أن الخصومة السياسية بين الأنصار والشيوعيين لم تقف عائقًا أمام عطاء الطيب وتطلعاته التراثية، فصديق عمره عبد الله علي إبراهيم كان من كوادر الرفاق النشطة، بيد أن اختلاف الرأي السياسي لم يفسد ودًا استقام ميسمه بين الرجلين. وفي هذا يفصح الأستاذ كمال الجزولي بأن عبد الله علي إبراهيم قد قدمه هو وزميله شوقي عزالدين إلى الطيب محمد الطيب عام 1973م، ووقتها كان عبدالله مفرغاً لمسئوليات العمل الثقافي للحزب الشيوعي، وشوقي عز الدين مفصولاً للتو من العمل بمعهد الموسيقي والمسرح. وفي هذا الظرف السياسي الحالك توثقت عُرى الصداقة بين الطيب والرفاق، ويقول الجزولي لسان حالهم: «كنا نقصد أحيانًا داره ببري مع الأصدقاء، ونقضي الأمسيات في حوارات ساخنة حول هموم الثقافة، فكان يستقبلنا هاشًا باشًا، ويكرم وفادتنا غير هيَّاب ولا وَجِل من كوننا كنا مجموعة من الشباب (المدموغين) في الوسط الثقافي بالتمرد، أو حتى من كون صديقه عبدالله بالذات كان مختفياً ومطلوبًا من الأجهزة الأمنية.»

          هذا هو الطيب المتسامح مع نفسه تسامحًا جعله يوطِّن لشرعية التواصل مع الآخر، وقد بلغ هذا التسامح ذروته عندما ألف كتاب «الإنداية» وأردفه بمصنف آخر عن «المسيد». فالإنداية هي دار المجون، كما تصفها الأستاذة رباح الصادق المهدي، والمسيد هو دار التُقى والصلاح، وبين الدارين بون شاسع. والإنداية كما قدم لها الطيب «من الأمور التي لا يصح الحديث عنها في عرف المجتمع السوداني إلا في مقام الذم، وهي من أجل ذلك لا تجاور سكناهم، بل تُقصى إلى أطراف القرى والمدن، وقد تضرب في الخلا، يطلق عليها في معظم الأحيان اسم «الجو». ولا يرتادها إلا طبقة خاصة لا تجد القبول عند غيرها من الناس». فالطيب أراد بهذا السفر الفريد في موضوعه أن يزيل هذه الغشاوة من أذهان الناس، ويعرض أدبيات الإنداية عرضًا موضوعيًا باعتبارها مظهراً من مظاهر الحياة السودانية، لها سلبياتها وإيجابياتها، وينبغي أن يُعالج أمرها بطريقةٍ علميةٍ بعيدًا عن التشنج والعواطف الدينية الجياشة. ويقول البروفيسور عون الشريف قاسم في تقديمه لكتاب الإنداية: «ولكنك بمجرد أن تتصفح الكتاب وتسبر غوره تجد لدهشتك أن المخبر غير المظهر. وسرعان ما يكتشف القارئ أن الإنداية التي يتحدث عنها الكتاب ما هي إلا مظهر خاص من مظاهر الحياة السودانية، وهي ككل المؤسسات الاجتماعية لها نظامها الخاص وتقاليدها وقيمها التي يلتزم بها من يرتادونها ويذمون من يخرجها عليها، وبالبحث الميداني المتعمق الذي استغرق ست سنوات طاف فيها المؤلف على معظم أنحاء السودان فخرج بحصيلة من المعرفة ينقلها لك هذا الكتاب الرائع». حقًا إن كتاب الإنداية كتاب رائع وجدير بالإطلاع، لأن الطيب أفلح في اختيار موضوعه، وفي تناوله لأدبيات الإنداية تناولاً علميًا دون أن يكون متأثرًا بأدبيات المهدية التي ترى في الدخان حرمة، فما بالك والإنداية تعاقر فيها الخمر أم الكبائر جهارًا نهارًا.

          وفي الختام نسأل الله أن يرحم الأستاذ الطيب محمد الطيب رحمةً واسعةً بقدر ما أمتع، وآنس، وأعطى، وبذل، وأنفق من جهد ومال ووقت في سبيل الارتقاء بمسيرة التراث السوداني، وتطوير خدمات الأدب الشعبي، فلعمري لا أجد الكلمات المناسبة التي تفي استحقاقات رثائه، وجرد فاتورة عطائه الماكث في الأرض، ولكن أضعف الإيمان أن اختم هذه الكلمة بأبيات من أشعار ابن الوردي في الرثاء:

سراجٌ في العلومِ أضاءَ دهرًا على الدنيا لغيبته ظــلامُ
تعطَّلت المكارمُ والمعــالي وماتَ العلمُ وارتفعَ الطغـامُ


 

أحمد إبراهيم أبوشوك   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات