الفنانة المسرحية ثريا جبران والروائي عبدالكريم جويطي

الفنانة المسرحية ثريا جبران والروائي عبدالكريم جويطي

علمني المسرح الإنصات للآخر والانفتاح على الأفكار

  • تجربتي الإنسانية والفنية غنية، لذا تراودني فكرة السيرة وسأستعين لها بخبرة حسن نجمي.
  • بسبب مأساة المسرح البلدي بالدار البيضاء قررت الهجرة إلى فرنسا ومنها انطلقت إلى أرجاء العالم.
  • توليت وزارة الثقافة بتكليف من جلالة الملك ولمدة عامين سهرت خلالهما على عدة مشروعات ثقافية وطنية مهمة.

حين اتفقت مع الفنانة المغربية الكبيرة ثريا جبران على إجراء هذا الحوار لفائدة مجلة العربي، حددنا الموعد بمدينة الدار البيضاء، ثم لأسباب صحية، عادت واقترحت علي أن نجريه بمدينة مراكش. سا فرت إلى هناك ذات صباح باكر، وكان ضباب سخي ملحاح قاهر ينيخ على المسافة الفاصلة بين مدينة بني ملال ومراكش، ويكاد يحجب الرؤية تماما. وفكرت في أن الطبيعة وعلى طريقتها الخاصة تريد أن تحتفي بهذا الحوار، فانتصبت ستارا كبيرا يحجب الرؤية ولن يرفع إلا في حضور الفنانة الكبيرة. وكذلك كان، سطعت شمس خجولة دافئة وأنا ألتقي بها قرب المكان الذي يحتضن فعاليات المهرجان الدولي للسينما. كانت ثريا متعبة جدا. انتقلنا إلى منزلها الهادئ بإقامة مازالت الأشغال قائمة بها، بيت شاعري رتب بلمسات فنية رفيعة، وهبته من روحها صفاء وسكينة تشعرك بأنك في بيتك. وأمام أدوية تناولت بعضها أثناء الحوار وكأس شاي تحدثت ثريا جبران عن كل شيء، وكعادتها تحاملت على وهنها وتألقت كأنها على خشبة مسرح، تذكرت، وحللت، وضحكت، وبكت، وخرجت كل كلماتها من القلب، حارة، صادقة، عميقة.

تحدثت وتحدث من خلالها تاريخ للمسرح المغربي، منذ أن كان يحبو إلى أن اشتد عوده، وملحمة من العطاء والعرق والجهد والمعاناة ودروس في السماحة والتواضع والحب. ثريا جبران فنانة كبيرة من دون شك ولكنها إنسانة عظيمة جدا، وفي هذا سر الاحترام الكبير الذي تحظى به داخل المغرب وخارجه.

  • لماذا اخترت مراكش فضاء إقامة بعد عشقك الأول والقديم للدار البيضاء؟

- لا أظن أن هناك مغربيا لا يعشق مراكش، أنا كذلك لدي عشق لهذه المدينة الرائعة منذ أن كنا نقدم في سبعينيات القرن الماضي بعض العروض لجمهور مراكش الرفيع والذواق، فضلا عن وجود مجموعة من الأصدقاء الأوفياء بهذه المدينة، التي توجد بها أيضا فضاءات جميلة وخلابة ومحفزة على الإبداع، وخصوصًا ساحة جامع الفنا، التي صنفت تراثًا شفويًا إنسانيا من طرف اليونسكو، في تجسيدها لعمق الثقافة المغربية في غناها وتعددها. هناك أيضا قيم متجذرة في هذه المدينة العريقة كقيم التسامح والقناعة والإقبال على الحياة.

منذ الدورة الأولى لمهرجان مراكش السينمائي الدولي، ولد بداخلي حلم الاستقرار بمراكش، وتمنيت أن يكون لي بيت بهذه المدينة العتيقة، لكن الظروف لم تسعفني على تحقيق ذلك آنذاك. اخترت مراكش منذ زمن بعيد واختارتني هي أخيرا لسببين: يتمثل أولهما في كون ابنتي سارة بعد أن حصلت عل البكالوريا، اختارت دراسة السينما، وأنت تعرف أن المدرسة العليا الوحيدة للفنون البصرية بالمغرب توجد بمراكش.

أما السبب الثاني، فيكمن في أنني بعد الوعكة الصحية التي تعرضت لها سنة 2009، وبعد خروجي من المستشفى وعودتي إلى العمل، بذلت مجهودا كبيرا، واتضح لي أنه من الصعب الاستمرار، خصوصا وأنني كنت أجد صعوبة في النطق، فساعدتني مراكش كثيرا على استعادة عافيتي.

  • قضيت فيها فترة النقاهة إذن؟

- نعم، كانت المدينة رحيمة بي، وجدت فيها الهدوء والسكينة وراحة البال. هناك عشق متبادل بيني وبين هذه المدينة، ورغم ذلك تبقى الدار البيضاء هي عشقي الأول والذي لا يبرح القلب.

  • ألا تفكرين في استراحة المحارب هذه التي تعيشينها، في كتابة مذكرات تسترجعين فيها مسارك الفني الحافل؟

- عشت تجارب إنسانية وفنية عميقة جدا، ونسجت علاقات داخل المغرب وخارجه مع عدة مثقفين ومبدعين، كما أن تجربتي الإنسانية والفنية اغتنت بالعديد من الأحداث، وعايشت تحولات تاريخية عرفها المسرح والسينما والأعمال التلفزيونية بالمغرب. تراودني فكرة كتابة مذكراتي، وسأستعين في كتابتها بخبرة الصديق والسند والدرع حسن نجمي.

  • يتساءل محبوك، هل يمكن أن تعودي للمشاركة في عمل فني مسرحي أو سينمائي؟

- الأمر صعب حاليا، ولكن الأفق مازال مفتوحا. أؤطر بعض الشباب وأحاول أن أفيدهم بتجربتي. هناك جيل صاعد يلتهب حماسا ولديه كل الإمكانات والشروط لإعطاء المسرح المغربي نفسا جديدا، خصوصا أن اللحمة بين الممثل والمخرج والكاتب صارت وثيقة، كما أن الأمور التقنية تطورت بشكل جيد. في الماضي كان هناك شرخ بين الكتاب اليساريين في الأغلب الأعم والسلطة، وكان الممثلون خارج هذا الصراع. كانت هناك فرق مسرحية قليلة: فرقة المعمورة وهي تابعة للدولة وفرقة الطيب الصديقي ومسرح البدوي، كما كان هناك جيل شاب يمارس المسرح الملتزم في الجامعات ودور الشباب، وأغلبهم تعرض للاعتقال والنفي، بل إن بعضهم تم تغييبه نهائيا. لقد انتظر المغرب فترة طويلة لكي ينهض جيل مستوعب للشروط الفنية للمسرح ولتقنياته، جيل منفتح على الكتاب وعلى النصوص العميقة والآداب العالمية. وأعتقد، أن مسرح اليوم ولد في ظل هذا الرهان.

  • المتتبع لمسارك الفني يمكن أن يقسمه إلى ثلاث مراحل:
    - ما قبل فرقة «مسرح اليوم».
    - «مسرح اليوم»
    - ما بعد «مسرح اليوم»
    ماذا يمكن أن تحكي لنا عن المرحلة الأولى (ما قبل مسرح اليوم)؟

- كانت بداياتي الأولى جميلة جدا بعد أن خضعت لتدريبات مسرحية كانت تنظمها دور الشباب والرياضة خلال بداية السبعينيات، وعلى إثرها ينظم مهرجان لمسرح الهواة تقدم فيه جوائز للمتفوقين الذين يخضعون لتدريب بمركز المعمورة في فصل الصيف. وكنت محظوظة جدًا لأنني التقيت برجل عظيم، هو فريد بن مبارك، الذي كان له تأثير كبير في حياتي. منذ أن شاهدني آمن بقدراتي، وأقنعني باجتياز امتحان الدخول إلى المعهد الوطني للفن المسرحي التابع آنذاك لوزارة الشئون الثقافية والتعليم الأصيل. وقد اجتزت الامتحان بتفوق كبير، وبهذا انتقلت للدراسة بالرباط.

  • كيف كان موقف الأسرة آنذاك من هذه الخطوة الأولى؟

- لقد تواطأت مع إخوتي ومع أبي الروحي جبران، وهو زوج أختي، على أن نخبر أمي بأنني سأسافر للقيام بتدريب للرياضيين لمدة سنتين بالشبيبة والرياضة، خصوصا أنني كنت متفوقة في رياضة الجري. أذكر أخي الأكبر كان بطلا في العدو الريفي. اجتزت المباراة بتفوق والتحقت بالمعهد في السنة التالية.

  • كيف كان البرنامج الدراسي بالمعهد؟

- كنا نشتغل على نصوص كلاسيكية معروفة ومشهورة، مثل بعض النصوص المسرحية اليونانية وشكسبير وموليير... فتشبعت بمسرح حقيقي. واشتغلنا أيضا على نصوص محمود درويش، وعرضناها في إطار دعم القضية الفلسطينية بالجامعات، وقد تم اعتقال بعض طلبة المعهد. وبعد سنتين من الدراسة والتمارين والممارسة المسرحية، حصلت على الدبلوم الذي وقعه المرحوم الأستاذ الكبير محمد الفاسي وزير الشئون الثقافية آنذاك. أصبحت موظفة بوزارة الثقافة، وتمت إحالتي إلى فرقة المعمورة، وبدأت الاشتغال مع عبد الصمد دينيا على نصوص موليير التي عربها وأعدها الأستاذ الطيب العلج. بعد سنتين من العمل في الفرقة، بدأت أطرح أسئلة كبيرة وجوهرية: هل هذا هو المسرح الذي كنت أحلم به؟ وهل ما ننجزه من عروض مسرحية يجسد القيم التي ينبغي أن يدافع عنها الفنان؟ قررت في النهاية وبعد فترة من التساؤل أن أقدم استقالتي وأعود إلى الدار البيضاء.

شرعت في تعلم الإعلاميات، وبعد عدة أشهر من التدريب اشتغلت في شركة أونا ONA في جناحها الإعلامي لمدة ستة أشهر، وانتقلت منها للاشتغال في شركة أخرى. في هذه الفترة أسست العديد من الفرق في الدار البيضاء، ولعل مسرح «الثمانين» كان أهمها، إذ انضويت فيه رفقة خديجة أسد وسعد الله عزيز وسعاد صابر ومحمد مفتاح وعبد اللطيف هلال، أي خيرة الممثلين الشباب بمدينة الدار البيضاء، وبدأنا نقدم عروضا مسرحية. وفي هذه الفترة أي 79/80 اشتغلت مع مصطفى الدرقاوي المنتج السينمائي، في مسلسل تلفزي تحت عنوان «النور يحتضر» من ست حلقات. خلقت لي هذه العودة إلى التمثيل مشكلات بالعمل، كنت أقدم شواهد طبية، لكن الجرائد تنشر صوري وتعلق على العروض المسرحية التي أشارك فيها، فاضطررت لتقديم استقالتي من العمل. كان قرارا صعبا، فأنا زوجة ولي ابنة ومتطلبات مادية، ولكنه قرار ضروري، إذ شعرت بأنني لن أتخلى عن المسرح مهما عانيت من ظروف، فالتخلي عن المسرح بالنسبة لي هو التخلي عن الحياة. قدمنا بعض العروض المسرحية الهادفة، ولكن أعماقي بقيت تردد أن هذا ليس هو المسرح الذي أحلم به. حضر الأستاذ والمسرحي الكبير الطيب الصديقي أحد عروضنا من إخراج حميد الزوغي ومشاركة فرقة تاكدة، وهو عرض فرجوي، بعنوان «حلوف كرموس»، فأعجب بأدائي وطلب مني أن أشتغل معه لأنه كان يهيئ لمهرجان «الصويرة» في دورته الأولى قبلت دون تردد، فالصديقي بالنسبة لي أستاذ وأب ومدرسة، وهو الذي فتح لي أبواب الشرق عن طريق تجربة الفنانين العرب المتحدين. في هذه الفترة حدثت مأساة المسرح البلدي بالدار البيضاء وكنت الممثلة الوحيدة التي عبرت عن رأيها في هدم هذه المعلمة التاريخية والثقافية. تعرضت بسبب ذلك لعدة مضايقات دفعتني للتفكير في الهجرة إلى فرنسا. حصلت على جواز سفر بعد مماطلات طويلة وغادرت المغرب. سكنت بـ «دار المغرب» بباريس، وهناك تعرفت على عبد الواحد عوزري، الذي كان يعرفني من خلال بعض العروض. ومن خلال الطيب الصديقي، تعرفت على شريف خازندار الذي قدم لي مساعدات قيمة ويسر لي حضور تدريبات ببعض المسارح. فباريس كانت قبلة لكبار الممثلين ومن كل أقطار العالم. بعد سنة انتقلت بدعوة من الطيب الصديقي إلى الأردن للمشاركة في عمل للفنانين المتحدين، كانت الفرقة تضم أجود الممثلين العرب من مصر ولبنان وسورية والمغرب، وكنت خلال أيام العطل أسافر إلى بعض البلدان المجاورة، وهكذا زرت مخيم اللاجئين الفلسطينيين بلبنان.

  • أعرف أن زيارة المخيمات الفلسطينية كانت حاسمة في حياتك ومؤثرة جداً؟

- نعم، لقد ولّدت مشاهد الألم والبؤس والخراب بداخلي أسئلة عميقة عن دوري كفنانة إزاء ما يجري من حولي. جالست بعض الفلسطينيين وحكوا لي عن مجزرة صبرا وشاتيلا بكل تفاصيلها، لم أستطع النوم في تلك الليلة، بكيت بشدة وبحرقة، وآليت على نفسي أن أجعل من فني وسيلة للانخراط الملتزم والواعي في قضايا الإنسان أينما كان. لقد خرجت من المخيمات إنسانة وفنانة أخرى. قدمت فرقة الفنانين المتحدين عرضا أمام الملك حسين رحمه الله، بعد ذلك شاركنا في مهرجان بغداد، وحصلت على جائزة أحسن ممثلة عربية بالمهرجان، حصلت على الجائزة بين عمالقة المسرح العربي. كانت هذه الجائزة نقطة تحول في حياتي المهنية، بدأت أستشرف أفقا جديدا وأحس بالمسئولية إزاء بلدي، فكل جائزة أحصل عليها هي تشريف وتكريم لبلدي أولا، عرضنا في كل البلدان العربية إلى أن توقفت التجربة.

  • ما أسباب توقف تجربة الفنانين المتحدين؟

- توقفت هذه التجربة بسبب الأوضاع العربية، كان بعض أعضائها يجدون صعوبة في التنقل من بلد إلى بلد آخر، وكان مناخ الحرية السائد آنذاك في البلدان العربية يؤثر أيضا، ورغم ذلك، فالتجربة كانت رائدة وناجحة بكل المقاييس، وأنا أعتبرها من اللحظات المشرقة في العمل الثقافي والفني المشترك للمبدعين العرب.

  • كيف كانت العودة؟

- حين عدت إلى المغرب، أحسست بانحصار: فما هي الأعمال التي يمكن أن أقوم بها بعد هذا الرصيد الذي راكمته؟ اشتغلت في برنامج تلفزيوني من أجل تأمين لقمة العيش فقط، بعدها سمعت أن هناك شابا يشتغل على نصوص هادفة قدم من باريس ويقوم بعرضها. اتصل بي من أجل مشاهدة العرض، وكان من المقرر أن يبدأ في الساعة السابعة ليلا، حين حضرت وجدت العرض في نهايته، وهكذا سلمت باقة ورد أحضرتها معي إلى مخرج العمل وكان الشاب عبد الواحد عوزري. جلسنا نتجاذب أطراف الحديث حول العرض الأخير، في النهاية أبدى رغبته في أن ألتحق بالفرقة وزودني بتسجيل للعرض، ورغم أن التسجيل لم يكن جيدا فقد شاهدته وتبينت قوة النصوص التي اشتغل عليها في عرضه «حكايات بلا حدود» عن نصوص لمحمد الماغوط. اقترحت على عبد الواحد عوزري أن نعيد صياغة العرض من جديد وندعم الفرقة بعناصر جديدة. بقي النقاش بيننا مفتوحا إلى أن تلقيت دعوة للمشاركة في مهرجان بغداد بعمل مسرحي أو الحضور كضيفة شرف. كانت المدة الزمنية التي تفصلنا عن موعد المهرجان لا تتعدى شهرين. حبذ عبد الواحد عوزري الفكرة، وعززنا الفرقة بكل من محمد بسطاوي وعبداللطيف خمولي، وقدم لنا وزير الثقافة آنذاك الأستاذ محمد بن عيسى كل الدعم. كانت مشاركة ناجحة بكل المقاييس. حصلنا على عدة جوائز، وكتب عن العرض مجموعة من الكتاب والنقاد الكبار مثل جبرا إبراهيم جبرا وسلوى النعيمي وغيرهما.

  • ما هي الذكريات التي بقيت عالقة في ذهنك عن تلك الفترة؟

- أذكر أن قاعة العرض كانت مملوءة عن آخرها، بل إن هناك من شاهد العرض جالسا على الأرض، في نهايته وقف الجميع يصفق بحرارة بل صعد كل من نور الشريف وعلي الحجار ومحسنة توفيق لتقديم التهاني لي ولأعضاء الفرقة، ثم صعد شخصان بلباس عسكري إلى الخشبة وطلبا مني أن أرافقهما. اعتقد الجميع بأنني تعرضت للاعتقال، أدخلاني إلى إحدى القاعات لأجد وزير الثقافة، هنأني على العرض والأداء الرائع وثمن عمل الفرقة برمتها، وقال لي لدي سؤال واحد: هل هذا العرض قدم بالمغرب؟ قلت نعم، بل هو مدعم من طرف وزارة الثقافة، فبقي مشدوها ينظر إلي ولم يتفوه بكلمة واحدة. بعد العودة قررنا تأسيس فرقة بمواصفات احترافية وهكذا نشأ «مسرح اليوم».

  • كم قدمتم من عمل مسرحي طيلة فترة عملك في «مسرح اليوم»؟

- قدمنا ما يقارب عشرين عملا مسرحيا، استلهمنا فيه نصوصا أدبية لكتاب كبار مثل محمد الماغوط، وعبد اللطيف اللعبي، وجان جينيه، وصنع الله إبراهيم، ويوسف فاضل.

  • إذا طلبت منك أن تختاري ثلاثة أعمال مسرحية متميزة من بين كل ما قدمه مسرح اليوم للفن وللثقافة المغربية والعربية؟

- من الصعب على الأم أن تختار من بين أبنائها، أعتز بكل ما قدمته في مسرح اليوم، ورغم ذلك يبقى عرض «أربع ساعات في شاتيلا» لجان جينيه الذي ترجمه الأستاذ محمد برادة، من بين النصوص القوية جدا، والتي جددت بداخلي جرح المخيمات الفلسطينية. كنت دوما أؤدي دوري في هذا العرض بألم وصدق ولوعة. هناك أيضا عرض لقي نجاحا جماهيريا كبيرا، وهي مسرحية «بوغابة»، والذي رغم نجاحه الكبير خلق بيننا نقاشا عميقا وولد علامات استفهام لدينا عن هذا النوع من العروض التي ترضي الجمهور بأكمله ولا تستفزه ولا تحاول أن تغير ذوقه الفني. هناك أيضا عرض «الباتول» و«اللجنة» وعرض «امرأة غاضبة» الذي ترجمه الأستاذ محمد بهجاجي، وقدمناه مرارا في مدينة ليون الفرنسية وكان مؤلفه يحضر عروضنا.

  • ما هو مصير «مسرح اليوم»؟

- أعتقد وبتواضع شديد أنه أدى رسالته وساهم في ميلاد حركة مسرحية جديدة بالمغرب، ولم تكن له مكانة بالمغرب فقط، لكن أيضا على صعيد الوطن العربي ككل، إذ كنا نتلقى الدعوات من كل المهرجانات العربية للمسرح. كنا نشرف المغرب والمغاربة ونحصل على عدة جوائز. وسأروي لك إحدى الطرائف، ففي إحدى دورات مهرجان قرطاج المسرحي كنت عضوا في لجنة التحكيم، عبر العديد من المسرحيين عن سعادتهم وفرحهم لسببين: أولا لأنني عضو في لجنة التحكيم، والسبب الثاني أنني لست مشاركة في مسابقة المهرجان. كانوا يقارنونني بالعداء المغربي سعيد عويطة.

  • ما هو آخر عرض قدمه «مسرح اليوم»؟

- هو عرض «امرأة غاضبة». في السنوات الأخيرة اشتغلت على مسرح الطفل وكانت لحظات جميلة قضيتها رفقة البراءة والطهارة والصفاء. إننا نتعلم من الأطفال أكثر مما نعلمهم.

  • شاركت في عدة أعمال سينمائية، كيف تقيمين حضورك في السينما المغربية؟

- أنتمي إلى جيل الرواد والمؤسسين الذي بنى اللبنات الأولى للسينما المغربية بنفس نضالي، فقد كانت الإمكانات ضعيفة بل منعدمة، وإذا قارنا ما كان يوضع رهن إشارتنا من إمكانات بما هو متوافر اليوم، فيمكن القول إن الجيل الحالي من الممثلين والتقنيين جيل محظوظ.

  • عينك صاحب الجلالة الملك محمد السادس وزيرة للثقافة، وقد رأى البعض في هذا التعيين تكريما لك على مسار حافل في خدمة الفن المغربي، ولأنك أيضا تمتعت بخصال إنسانية جعلتك قريبة من الفنانين ومتفهمة لمشكلاتهم، ونظر إليه أخيرا باعتباره تكريما للفن المغربي بصفة عامة؟ ماهي قراءتك الخاصة لهذا التعيين الذي شكل في حينه حدثا ثقافيا؟

- اختارني صاحب الجلالة وزيرة للثقافة أولا للمصداقية التي أتمتع بها، ولوفائي لوطني ولعملي ولأصدقائي، ولكوني كنت دائما أخصص حيزا من وقتي لخدمة قضايا اجتماعية وإنسانية، اختارني صاحب الجلالة أيضا لأنني فرد من العائلة الفنية الثقافية، يعرف همومها ومشكلاتها. لا أخفيك أنني كنت خائفة ومترددة، لكنه، حفظه الله، وبحكمته، أقنعني بتحمل المسئولية وقال لي: «أنا معك».

وطلب مني أن أختار طاقمًا يتمتع بالكفاءة والاستقامة يساعدني في أداء مهامي، وحثني على العناية بالفنانين والمثقفين، وأن أكون صريحة في تشخيص الوضع حتى نتمكن من معالجة اختلالاته. توكلت على الله وعلى ثقة صاحب الجلالة ودعمه، بدأت العمل في الوزارة بجد وإخلاص، وكنت أتمنى أن يصير النهار 48 ساعة لأتمكن من إنجاز كل ما أنوي إنجازه للثقافة المغربية. سهرت في هذه المدة التي قضيتها في الوزارة (سنتان) على متابعة الورشات الثقافية الكبرى بمدينة الرباط التي كان صاحب الجلالة يرعاها: المكتبة الوطنية, والمتحف الوطني، ومسرح الرباط الكبير، والمعهد العالي للموسيقى والرقص. كان التمويل لهذه المشاريع موجودا وما كان ينقص هو الكفاءات والحكامة الجيدة لمتابعة إنجاز هذه المشاريع. سهرت شخصيا على مشروع إنجاز المكتبة الوطنية، وكنت أتناول الشاي مع العمال في الورش، كما كنت أناقش المهندسين، وأبقى إلى ساعات متأخرة من الليل بمكان المشروع، واستطعت في ستة أشهر أن أكمل هذا المشروع الذي تعثر لمدة خمس سنوات.

  • إلى جانب متابعتك للورشات الثقافية الكبرى، أضفيت مسحة إنسانية على العلاقات التي ربطتك بالموظفين التابعين لك، وخلفت على العموم أصداء طيبة، إذ كنت تتعاملين مع الجميع على قدم من المساواة؟

- مهمة الوزيرة هي خدمة الوطن والمواطنين. وقد علمني المسرح القدرة على الإنصات للآخر، والانفتاح على كل الأفكار، لذلك اعتبرت مهمة وزيرة في حكومة صاحب الجلالة امتحانا لقناعاتي، وحرصت على أن أبقى وفية لهذه القناعات مهما كلفني الأمر ذلك. كان البعض يقول لي حين أجالس العمال في الورش بأن ذلك لا يتناسب ومقامي، كنت أجيبهم: خذوا الموعظة من صاحب الجلالة الذي يذهب إلى أماكن بعيدة جدا ويجالس بسطاء الناس وينصت لمشكلاتهم.

  • هل خانك جسدك ومنعك من تحقيق الأشياء التي كنت تنوين تحقيقها بالوزارة؟

- صحيح، أنا سعيدة جدا بتجربتي وأعتز بما حققته في المدة الوجيزة التي قضيتها بالوزارة، حاولت أن أنكب على المشكلات الاجتماعية للفنانين فأنشأنا تعاضدية للعناية بالفنانين، وخصوصا ما يتعلق بالجانب الصحي. كان صاحب الجلالة حين أعرض عليه مشروعا يقول لي: «الله يعاونك يا ثريا». وهذه الثقة كانت حافزا لي للاشتغال بروح وطنية ونكران ذات، وتمكنا من جعل الدولة المغربية تعترف بالفنان وبالفن كمهنة. وزع صاحب الجلالة بمناسبة عيد العرش بطاقة الفنان على الفنانين، كما نظمنا داخل البرلمان لقاء بين أكثر من 300 فنان ومجموعة من النواب والوزراء والمستشارين.

وعلى مستوى جهات المملكة، أنجزنا العديد من المؤسسات الثقافية، سواء كانت دورا للثقافة أو مكتبات وسائطية أو عادية، ورممنا عدة مآثر تاريخية. الأهم من ذلك أنني رفعت من ميزانية وزارة الثقافة بنسبة كبيرة وأوليت اهتمامي للجوانب الاجتماعية للموظفين وحاولت تحسين أوضاعهم.

  • بعد هذا المسار الحافل الذي بدأ بانخراطك في فرقة المعمورة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وانتهى بك وزيرة للثقافة كيف تتأملين هذا المسار، انطلاقا من خلوتك هذه في مراكش؟

- مهنيًا، أنا راضية عن كل الأعمال التي قدمتها سواء داخل المغرب أو خارجه، وخصوصًا خارج المغرب. كرمت في العديد من الدول العربية وحصلت على عدة أوسمة. أما داخل المغرب، فكان بإمكاني أن أصل إلى أبعد مما وصلت إليه، تمنيت أن تكون لنا قاعة عرض لتأطير الشباب. على مستوى تجربتي الإنسانية والحقوقية، أنا راضية عنها أكثر لأنني كنت دوما قريبة من الناس، أساهم في حل مشكلاتهم. أما تجربة الوزارة فقد مرت كلمح البصر، وأنا عموما راضية عنها أيضا، لقد سافرت إلى عدة دول ووقعت عدة اتفاقيات، وحاولت بناء أسس ثقافة وطنية متجذرة في التربة المغربية، ومنفتحة بثقة على الدول الأخرى.