المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين

 المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين
        

          كيف نتناول كتابًا نحبّه، والنقد قراءة بعينيْ عدو؟ ثم كيف نعاين «هذه الصفحات الجديدة لقراءة اضطراب العالم»، كما يقول جورج قرم أمام متخصص من طرازه، استطلع أزمات لبنان والمشرق العربي، منذ 1964 وحتى اليوم؟ لا يسعنا إلا أن ننقد عليه، مشاركين في عمله الذي بات جزءًا من ثقافة أمة، جعلها ما بعد الحداثة تواجه أزمة خاصة بجيوبوليتيكيّتها (أو جغراسيتها).

          يضعنا هذا الكتاب، الثاني والعشرون، لجورج قرم بالفرنسية، أمام مقاربة جديدة ومتعمّقة لمسألة حسّاسة وعريقة، تضع كاتبها في فم تنين وأكثر. إذ تعاملت معه الشبكة «اليهودية» بالتجاهل، والشبكة «المسيحية» بالتهجّم، وبانتظار تعريبه، سنرى رد فعل الشبكة «الإسلامية».

          أما الكتاب فيقع في 215 صفحة، ويدور حول الآتي:

          في المدخل يتساءل ج.قرم كيف استحوذت «الظاهرة الدينية» على اهتمامات العالم؟ ويفصّل على مدى ستة فصول معالم هذه الظاهرة: مسارات قلق الهويات، قيام الأمة وتحوّلات أنظمة تشكيل الهوية، حفريات في ألوان العنف الحديث: الحروب الدينية في أوربا، الحداثة بوصفها أزمة الثقافة والسلطة، الأزمة الدينية والسياسية المزدوجة في المجتمعات التوحيدية المعاصرة، حول الحرب والسلم في القرن الحادي والعشرين. وكما بدأ بتساؤل، يختم بآخر: هل يسير العالم نحو ميثاق علماني عالمي؟

          يستطلع ج.قرم أحوال العالم قبل ثلاثين سنة، ويستكشف الخريطة الجديدة لنزوات العنف المثارة في العالم (كشمير، الفلبين، أندونيسيا، التيبت، لبنان، البوسنة، الشيشان، سريلانكا، أفغانستان، العراق، والجزائر)، والتي يحوم فوقها «ظل الدّين»، بحيث صار «صدام الحضارات»، يعني «صدام الديانات»، وأخذ جيل كيبل يتحدّث عن «ثأر الله»، وبات «دمُ إبراهيم» موظفًا في النزاع العربي - الإسرائيلي، حيث تصوّر «دولة إسرائيل» بوصفها وريثة لملايين الضحايا غربًا. وفي إشارة إلى جاك لاكان (J.Lacan) الذي قال بتفوق الدين على التحليل النفسي، يستخلص ج.قرم أن كل ماهو ديني يقوم على إعطاء معنى للأشياء التي كانت في الماضي «أشياء طبيعية». ويتساءل عن نهاية السياسة بوضع يدها على الديني؟ ويقول إنه سيحاول على امتداد هذاالكتاب أن يبلور اللغات والمفاهيم، التي تدور حولها أفكار الهوية والثقافة والحضارة،وأن يبيّن علاقاتها بمفاهيم أو تصوّرات الدين والتاريخ والفلسفة وتنظيم الحاضرة. كما سيتناول علاقة الحداثة وما بعدها بالدين، بأزمة النظام العالمي، لاستطلاع اتجاهات أو إمكانات التطور المقبل نحو تعددية ثقافية مركّبة. ويلاحظ أن عودة الدين إلى السياسة اقترنت بظهور المحافظين الجدد، وأن التباين بين المجتمعات الوثنية والمجتمعات التوحيدية يظهر له بمنزلة خط انكسار حاسم في تنظيم الحاضرة، وأن الدين الإسلامي اعترف بالتنوع الديني، بصرف النظر عن السجالات حول الطبيعة الإسلامية أو العلمانية للقومية العربية الحديثة - إذ المسألة الفعلية تقع في مكان آخر: الزلزال الذي أحدثه قيام «دولة إسرائيل» في العالم العربي. والحال، يرى ج.قرم أن قبلة الفكر الصحيح سياسيًا لم تعد باريس ولاموسكو أو بكين، بل صارت محصورة في العالم الجديد، المدافع عن مشعل الحضارة، والسّاعي إلى اتّهام كل الذين يحاولون الحفاظ على حرّيتهم النقدية واستقلالية تفكيرهم.

النمط العلماني

          يرى المؤلف أن النمط العلماني هو الذي حكم قيام جامعة الدول العربية سنة 1945، التي لم يتضمن ميثاقها أي إشارة إلى الرابطة الدينية، التي يمكن أن توجد بين المجتمعات العربية. وفي المقابل، يلاحظ كيف جرت تعبئة الحركات الدينية الأصولية في الإسلام واليهودية أو المسيحية لتسريع سقوط الشيوعية، الذي بدأ نحو عام 1970. ويتساءل عمّا قلب ديكور هذه التعبئة في الغرب؟ ويرى أنهم المحافظون الجدد الذين وضعوا على المحك كل المكتسبات الفلسفية والسياسية للحداثة، وأظهروا عداءً شديدًا لكل فكر يسترجع، بأي شكل، التراث الهيغلي - الماركسي، ما يعني أنهم قاموا بانقلاب على الحداثة نفسها، متواطئين بذلك مع التراث الرجعي المضاد للأنوار. فهذا الارتداد على الثورات التنويرية هو الذي فتح الأبواب الموصدة في وجه الديني - السياسي، وحال دون اندماج الثورة الأمريكية في سياق الثورات التنويرية الكبرى، كالثورة الإنجليزية (1649) والفرنسية (1789)، وانعكس في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. وعليه، صار السؤال المثار في عالم العولمة: هل عاد الديني إلى السياسة أم جرت الاستعانة بالدين لخدمة السياسة؟ ما حدث على هذا المستوى هو أدلجة سياسة بحتة، وليس بناء لهوية. اعتبارًا من 1980، شهد الغرب الأمريكي إجماعًا جديدًا، قوامه استرجاع القناعات الدينية والأخذ بالتمثلات الجديدة للعالم التي كانت وراء النجاح السياسي للتيارات الدينية المحافظة في قلب الولايات المتحدة، مع رونالد ريغان، وخصوصًا مع بوش،الأب والابن. وعليه فإن الدعوة الغربية للدين (القيم اليهو - مسيحية)، مختلف أصوليات الكنائس الأمريكية)، تنم عن الاستعانة بالدين في السياسة أكثر مما تنمّ عن «عودة» الديني. الواقع هو أن عودة الديني هي ظاهرة سياسية كبرى، لا تحمل من الدين سوى اسمه. فكما أن ازدهار الأصولية الإسلامية يلعب دور رحم الهوية الممانعة للسياسة الغربية الاستعمارية، فإن صعود الأدبيّات المسيحية و(اليهودية) في الولايات المتحدة يُستعمل لإضفاء الشرعية على حُمّى إمبريالية جديدة: إذ ذهب المحافظون الجدد الأمريكيون إلى الأعم بأن عودة اليهود إلى فلسطين وتجمّعهم فوق هذه الأرض، هي ظاهرة بشائرية، ذات طبيعة أخروية، تدل على اعتناقهم المسيحية، وعلى رجوع المسيح إلى الأرض.

          لكنّ الدين، في نظر ج.قرم، ليس الرحم الأولى للهوية، حتى في المجتمعات الدينية، حيث يحتفظ الفرد بوعي انتسابه العائلي وخصوصية لسانه وبيئته الجغرافية. بل هو مصدر مهم للإلهام المباشر أو غير المباشر لأخلاقية اجتماعية وفردية. فالدين إذْ يطرح معايير الخير والشر، يحدّد ما هو حلال، ويدين ما هو حرام. وهكذا يتلابس الدّين والسلطة، وتنشأ أنماط شتى من العلاقات المكثفة بين النظم الدينية والنظم السياسية. لكن الهوية ليست فطرية، بل هي هوية اجتماعية يكتسبها الفرد، وإن وصف بأنه «إنسان ديني»، في مرحلة معينة من تاريخه، فهو أيضًا «إنسان سياسي» و«اقتصادي» و«علمي»... إلخ. ويستخلص ج. قرم فساد الزواج بين نظريات العولمة الاقتصادية وعودة الديني. ويلاحظ أن العنصرية والجوهرانية والاستعمار شكّلت ثالوثًا طبع الثقافة الأوربية بطابعه في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ففي الماضي، كان الاستعمار يزدان بشرعية قائمة على التفوّق المفترض للحضارة الأوربية، وللمسيحية كدين عالمي، شمولي. وهكذا جرى تسويغ الاستعمار لا بوصفه «حقًا»، بل أيضًا بوصفه «واجبًا»، «مهمة أخوية»، وما حدث هو «استزلام» أو استتباع سياسي للبلدان الحديثة الاستقلال.

تشكيل الهوية

          مقابل تحوّلات أنظمة تشكيل الهوية غربًا، وحلول عصر الدولة - الأمة، جرى في الغرب المسيحي، وفي اليهودية أيضًا. تجاهل كون الإسلام دينًا توحيديًا، خالصًا ومتينًا، دينًا منزلاً، وينتمي إلى إبراهيم، الجد المشترك لليهودية والنصرانية، وفوق ذلك، أكّد الإسلام قدرته على التسامح والاعتراف بالأديان التوحيدية السالفة، ومصالحة التباينات الدينية، والانتقال الثقافي من مفهوم القبيلة إلى مفهوم القوم أي الشعب. فما يميّز شعبًا من قبيلة ليس الرابط الديني، بل التمدّن والتحضّر اللذان تصنعهما الشعوب. واليوم، صارت الهوية الإسلامية، في المنظار الغربي، هذا الآخر، المُقلق، المخيف، الرهيب أو «الإرهابي»، فيما هو آخر مُسترهَب! فالاستعمار البريطاني هو الذي اصطنع الدولة الدينية في العالم الإسلامي، إذ أنشأ دولة «إسرائيل» سنة 1948، بعد إنشاء دولة باكستان بعام واحد، فيما كانت الدعوة الإسلامية قد تجدّدت في ظل السلطان عبدالحميد (1876 - 1909).

          وكانت هذه الدعوة ترمي إلى بلورة عقيدة مقاومة، متعددة الجنسية، لإمبريالية أوربية فرنسية، إنجليزية، روسية، نمساوية... إلخ. وترى في الالتفاف حول السلطان العثماني، المتلقّب بلقب الخليفة، السبيل الوحيد للخلاص. أما الطريف في الموقف الأوربي، بعد زوال الخلافة التركية سنة 1924، فهو أن القوى الأوربية، لاسيما إنجلترا، راحت تبحث عن خليفة جديد، مما أثار نزاعًا جديدًا بين ملك مصر فؤاد الأولّ، وإمام اليمن. ومن ثم سعت الولايات المتحدة إلى تعبئة المسلمين الأصوليين لمكافحة الشيوعية، فكان دعم أمريكا للوهابية ولانتشارها، من دون الادّعاء بأنها تشكّل أي «إرهاب». وفي المقابل، ظهرت  الحركات «الجهادية» بوصفها معادية للحداثة وللغرب، ومنطوية على صورة مغلقة ومتخيّلة لمدينة إسلامية فاضلة. بيد أن تغير المناخ الفكري على صعيد العالم، المتميز بصعود الايديولوجيات المضادة للحداثة التي أطلقها الغرب نفسه في سياق الحرب الباردة، انعكس على استعمال الأديان لغايات الجيوبوليتيكا العالمية، ولم يتعلق بالإسلام وحده، بل تعدّاه، منذ وعد بلفور (1917) إلى اليهودية، التي استنفرت هي أيضًا في سياق الحرب الباردة. صفوة القول، أن الخلط بين الدين والقومية أو الجنسية لم يتعلق بغير السياسات الاستعمارية والامبريالية، ومنها سياسة الاتحاد السوفييتي الذي أنشأ بدوره «جنسية يهودية»، ومنحها دولة مساحتها 42000كلم2، تقع على الحدود الروسية - الصينية، اسمها بيروبيدجان، وكذلك فعل تيتو في يوغسلافيا، حيث أنشأ «جنسية إسلامية» للبوسنيين، (البشناق).

التبشير والاستعمار

          بعد استرجاع تاريخي موثق للحروب الدينية في أوربا، وتبيان العلاقة بين التبشير الديني والاستعمار، يتناول ج.قرم مسألة الحداثة بوصفها تعبيرًا عن أزمة الثقافة والسلطة. ويرى أن الفلاسفة والمؤرخين الجدد، رسموا منامق (ديكورات) العالم، وأقاموا نظامًا جديدًا للحقيقة، حيث تُصهَر في مفهوم مُلتبس للحضارة: عودة الديني والأخلاقي و«العرقي». وبهذا المفهوم الغامض للحضارة، ترتبط مفردات الديمقراطية والحرية والعولمة وشريعة العولمة. فمنذ هجمات 11 / 9 / 2001، أخذ الخطاب السياسي المهيمن يسترجع، أكثر فأكثر، البنية التي اصطنعها إبان الحرب الباردة، بعد «إمبراطورية الشر»، الوصف الذي أطلقه رونالد ريغان على الاتحاد السوفييتي، جاء «محور الشر»، وحل شعار «الإرهاب» محل «الشيوعية». الأمر الذي جعل هوية «الغرب» العملاقة تتحول، بمواجهة الإسلام والمسلمين، إلى هوية يهو - مسيحية حاصرة، وتتخلى بذلك عن إنسانيتها العلمانية والكوسموبوليتية. والحالة هذه، صار نجاح «المنامق الجديدة» للعالم يتوقف بنظر المحافظين الجدد على ديمومة «دولة إسرائيل»، هذه الأيقونة الحقيقية لعودة الديني، بالمعنى الأصولي والحرفي الذي يزاوج بين تطبيق العلم والديمقراطية، وبين ادّعاء إعادة تجسيد الجدّ الأول للتوحيد، أي لليهودية. فقبل المحافظين الجدد لم يكن قائمًا أيّ «تراث» يهو - مسيحي، إذ كان التوحيدان هذان قد عاشا في تعارض لاهوتي شديد. والطريف هو أن الإسلام، ثالث الأديان التوحيدية، جرى استبعاده من هذا الحقل الميثولوجي والجينيولوجي للغرب، على الرغم من دوره الوسيط في نقل ثقافة الشرق القروسطي إلى الغرب. وعليه، جرى في هذا الغرب المنكر للإسلام، ولفضله العلمي والحضاري والثقافي، اعتبار «إسرائيل» بمنزلة «مرحلة» أخيرة لحداثة باحثة عن شرعية دينية لضمان إعادة تأسيس الثقافة الأوربية، غير الممكن توافرها حتى تاريخه.

          عشايا القرن الحادي والعشرين، صار الدين وسلطانه في صميم السجالات، على غرار الحرية الفردية، التي يرغب الغرب في إدّعائها، وتبيّن أن من المستحيل إقامة نظام عالمي جديد، في غياب منظومة قيم سياسية، خليقة بنظم العلاقات بين المجتمعات والأفراد، وأن هذه القضايا بالذات يمكنها أن تعني مجتمعات المشرق العربي، وحتى التركي والإيراني، نظرًا لعلاقاتها التنازعية مع «دولة إسرائيل». وهكذا بات اللجوء إلى الديني، في الأغلب، ترجمة لأزمة شرعية السلطة السياسية، لكن الضوء لم يسلّط بشكل كافٍ على أزمة الديني بحد ذاته، الأزمة التي قادت المرجعية الدينية إلى الاستعانة بالسلطة السياسية في العوالم الإسلامية والمسيحية واليهودية، حيث تشتد حدة التوترات السياسية الدينية، وحيث تعني حرب الحضارات حربًا دينية وثقافية. بهذا المعنى سيكون النزاع الأعظم في القرن الحادي والعشرين بين عالم يهو - مسيحي «ليبرالي، متسامح ومنفتح، حامل مشعل التقدم» وبين عالم الإسلام، «المتأخر، الاستبدادي، العنفي والمنطوي على ذاته». إن الاستعانة بالديني لخدمة السياسة، تبدو نتاجًا لتفكك الأطر التقليدية للسلطة داخل الأمم وبينها. ونجم عنها، بعد الحرب الباردة، تأزيم أشد والتباس سياسي بين الأديان التوحيدية الثلاثة. ومما يلاحظ أن «الصهيونية المسيحية» هي التي قدّمت العدد الأكبر من الرعاياالأمريكيين لاستيطان الأراضي الفلسطينية المحتلة. صفوة القول، أن الاستعانة بالديني في العالم الإسلامي بذرت بذور كل الانشقاقات والفتن، كل أعمال العنف، ولكن ليس أكثر مما حدث إبان الحروب الدينية المديدة في أوربا المسيحية، وإن الحال لا يسوِّغ أبدًا هذا الخلط بين الإسلام والعنف الإرهابي.

استخدام الدين

          وبعد، إلى أين يسير العالم: نحو إرهابية عالمية أم نحو ميثاق علماني عالمي؟

          إنّ توجه العالم الحاضر نحو حال سلمية، يتوقف أولاً على تغيير سياساته، بدءًا من التوقف عن استعمال الدين كأداة سياسية، وانتهاء بالكفّ عن الاصطناع المتمادي للقوميات الحضارية المزعومة. ويتساءل ج.قرم: ألم يحن الوقت للنظر بجرأة في الظروف الجيو بوليتيكية، التي تخلق مجالاً مواتيًا لكل أشكال العنف الإرهابي؟ ويرى أن الإسلام هو دين حقيقي، جرى استنفاره بقوة في النزاعات الدولية إبان الحرب الباردة، ويجرى استنفاره اليوم لإضفاء شرعية على المعارضة الاجتماعية للنظام القائم في البلدان الإسلامية ذاتها. ويضيف أن الثرثرة حول «الإرهاب» في الخطاب الغربي وتوابعه، ما هي إلا وسيلة للحئول دون وعي المسائل الحقيقية: الاحتلال العسكري، استيطان فلسطين، التهميشات الاجتماعية العميقة، التوزيع غير المنصف للمداخيل في اقتصادات الرّيع النفطي، الأنظمة الاستبدادية، التي تمارس تلبيس السياسي بالديني، وأخيرًا الكفّ عن هذا الكُرْه المفرِط للإسلام.

 

جورج قرم