اللغة حياة

اللغة حياة
        

بين الصحيح والفصيح

          عاتبني بعض الأصدقاء على استعمالي، في مقالة «التضييق على مستعملي اللغة» (العربيّ، العدد 581) لعبارة: «ونكاد لا نجد لها من القديم إلاّ شاهداً واحداً» مؤكّداً لي أنّ صواب ذلك هو: ولا نكاد نجد، الخ. بتقديم النفي على «نكاد»؛ لأنّ النفي يقع في العربيّة على فعل المقاربة هذا لا على خبره؛ وطفق يردّد الشواهد القرآنيّة والشعريّة التي في بعض كتب الأخطاء الشائعة؛ وأدركت أنّه من أهل التضييق لا من أهل التيسير، ومع ذلك سرّتني ملحوظته لعدة أسباب:

          - فهي تتيح لي تصحيح ما وقر في قلوب الكثيرين من وهم، لم يكتفوا بالوقوع فيه، بل عمدوا إلى تعميمه.

          - وتسمح بأن نناقش معنى مصطلح «أفعال المقاربة»؛

          - وبأن نبيّن المعنى الذي يؤدّي إليه نفي كاد؛

          - وبأن ننظر في بعض الاستعمالات الخاصّة لكاد قديماً وحديثاً؛

          - وبأن نقرّر قاعدة لا بدّ منها للتيسير على مستعملي اللغة.

          1 - فصحيح أنّنا نلفي في القرآن الكريم وفي الحديث النبويّ الشريف نفياً لكاد، ولا نلفي أبداً نفياً لخبرها؛ وصحيح أيضاً أنّنا لا نظفر في كتب الجاحظ كلّها، مثلاً، إلاّ نظير ما استُعمل في القرآن والسنّة؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ نفي خبر «كاد» خطأ! وكيف يكون خطأ ونحن نجده في غير بيت شعريّ قديم، وفي لغة بعض المتأخّرين كذلك؛ ومن ذلك قول الشاعر الجاهليّ المعروف زهير بن أبي سُلمى، في مطلع قصيدة مشهورة له: «صحا القلبُ عن سَلمى وقد كاد لا يسلو» وهي قصيدة برواية ثعلب وشرحه، وقد أخذها عنه عدد من القرّاء واللغويّين المشهورين، مثل مُجاهد والرُمانيّ والتِبْريزيّ، من غير أن يشكّ أيّ منهم في صحّة الرواية أو الاستعمال؛ كمّا أنّ الجَموح الظَفَريّ قال: «تكاد لا تَثْلِمُ البطحاءَ وطأتُها» فروت المعاجم قوله في مادة «رود»؛ والزَبِيديّ صاحب «تاج العروس» نفسه قد استعمل تلك الصيغة فقال: «ويكاد لا يوجد لأبي إسحاق الزّجاج حكاية، الخ». وكلّ ذلك يؤكّد أنّ نفي خبر كاد عربيّ صحيح، خلافاً لوهم المخطّئين.

          2 - إنّ مصطلح أفعال المقاربة غير دقيق، بمعنى أنّها تدلّ عندهم على قرب وقوع الحدث؛ حتّى إنّ بعضهم يجعل «كاد» مرادفة لقارَبَ، ويجزم بأنّها تدلّ على عدم الدخول في العمل، أو على انتفاء العمل نفسه؛ وفي هذا نظر؛ فحقّاً أنّ عبارة «كاد الرجلُ يخرج» تعني أنّه لم يخرج، لكنّها تعني أيضاً أنّه همّ بالخروج، أي بدأ به، ثم توقّف؛ ولا يقال: «كاد البهلوانُ يهوي» إلاّ وتوازنه قد اختلّ، وبدا بين السقوط وعدمه؛ أي في حال تدارك السقوط. وقد تدلّ «كاد» على حصول العمل أو الحال بعضه أو معظمه، وذلك قولنا: «كاد فلانٌ يقيم عندي أسبوعاً، لولا اضطراره في اليوم السابع إلى الرحيل» وهو يعني أنّه أقام فعلاً، وأنّ مدّة إقامته ستة أيام، وأنّه رحل بعد ذلك. فالدخول في العمل أو الحال نسبيّ تقرره قرائن الجملة؛ فقد يكون مجرد دخول نفسي أو فكريّ، وقد يكون دخولاً سريع الانقطاع، كما قد يكون دخولاً طويلاً؛ حتّى قولنا :«كاد الكوبُ يمتلئ» يعني أنّه امتلأ إلاّ قليلاً منه، ثم حال أمر ما دون تمام امتلائه.

          3 - فإذا دخلت «لا» أو «ما» على «كاد» نفت إحدى تلك الدلالات، سواء تقدّمت أداة النفي على الفعل أو على خبره. وهذا قد يساعد في حلّ المشكلة التي أثارها القدماء في تفسير الآية الكريمة التي حيّرت المفسّرين: فذبحوها وما كادوا يفعلون ، فمعناها: فذبحوها وكادوا لا يفعلون، أي ذبحوها بعد أن تردّدوا في الإقدام على ذلك. وكذلك الأمر في بيت ذي الرُمّة:

إذا غيّرَ النأْيُ المحبِّين لم يَكدْ رَسيسُ الهوى مِن حُبِّ مَيّة يَبْرَحُ


          الذي زعموا أنّ بعضهم خطّأ ذا الرُمّة فيه، وحمله على جعل «أجِدْ» مكان «يكَدْ»؛ وقد عوّل المخطّئ، هو ومن اتّبعه في الرأي، على ما يشبه قاعدة: أنّ نفي النفي إيجاب؛ فـ «كاد» نفي للعمل، و«لم» نفي ليكاد، ولذلك رأوا في العبارة توكيداً لمبارحة الهوى لقلب الشاعر، مع أنّه يريد ضد ذلك. وقد خالفهم آخرون فأكّدوا أنّ النفي وقع على مقاربة الفعل لا على الفعل نفسه، وهذا يعني، وفق رأي عبد القاهر الجرجاني، مثلاً، أنّ الهوى من الرسوخ بحيث لا يُتوهم عليه المبارحة. والحقيقة أنّ البيت يعني ببساطة أنّ حمى الهوى تكاد لا تبرح قلب الشاعر، أي أن الشاعر في حمى شبه دائمة.

          4 - وهذا يفضي بنا إلى تخطئة بعضهم لعبارة «بالكاد» نحو: هو بالكاد يحسن القراءة. وهم يصحّحون مثل هذا القول بـ: هو لا يكاد يحسن القراءة. والحقيقة أنّ الاستعمال صحيح، وإن عزّ علينا أن نجد له شاهداً في الاستعمال القديم؛ ودليلنا قياسيّ؛ فالعرب قد تجعل الحروف والأفعال والأسماء المبنيّة أسماءً مُعْربة، فتقول: الكمُّ والكيفُ، من اسمي الاستفهام: كمْ وكيفَ؛ واللاءُ، من حرف النفي: لا؛ ونَعَمُ، من حرف الجواب: نَعَمْ؛ والقالُ والقيلُ، من فعلي: قالَ وقيلَ؛ وقد تبقيها على بنائها فتقول، مثلاً: جيء به مِن أيسَ وليسَ، وهذا يسمح بنقل «كاد» أيضاً إلى الاسميّة وجرها بالباء، فنقول «بالكاد» أي بصعوبة. زد على ذلك أنّ جذر «كأد» يدلّ على الصعوبة والمشقّة، وقد بقي منه في الاستعمال صفتا كئود وكأداء؛ ولعل فعل «كأَدَ» ومصدره الكَأْد هما الأصل، ثمّ سُهّلت الهمزة فحلّت «كاد» والكاد محلهما.

          5 - وأخيراً هناك استعمال يُتوهّم أنه حديث، وهو: ما كاد يفعل كذا حتى حدث كذا.. نحو: ما كاد يغفو حتى أيقظوه. لكنّ مجمع اللغة العربية في القاهرة لفت إلى ورود مثل ذلك في حديث شريف يقول فيه الخليفة عمر للنبي: «ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغيب» فهو عربي صحيح، ومعناه: فور انتهائي من صلاة العصر كانت الشمس غائبة إلا قليلاً، ولذلك لم يعدّها النبي صلاة، وذلك يوافق ما قدّمناه من معاني «كاد».

          6 - ولنا، بعدُ، أن نجادل في فصاحة تلك الصيغ وقبحها، وفي جزالتها وهلهلتها، لكنّ علينا أن نقرّر قاعدة، هي أنّ انتفاء الفصاحة والجزالة لا يعنيان بالضرورة انتفاء الصحّة، وكم من شاهد سخيف غير فصيح بُنيت عليه قواعد اللغة العربية. والمؤسف أن كثيرًا من المخطئين لا يفرقون بين الأمرين، فيظنون أنّ غير الفصيح هو حتمًا غير صحيح، وفي ذلك غلوّ وتضييق.

 

مصطفى الجوزو