جمال العربية
جمال العربية
البردّوني و.. وردةٌ من دم المتنبي أسعدني ما نشرته «العربي» في عدد أبريل الماضي تحت عنوان «البردّوني وجمال العربية» للأستاذ أكرم محمد جبران من اليمن، يبدي رغبته في أن يكون شاعر اليمن الكبير عبدالله البردّوني بين مَنْ يتناولهم باب «جمال العربية»: «باعتباره الشاعر الذي اختزل اليمن كلّها في شعره روحًا ومعنى، فضلاً عن أنه لم يلق بعْدُ الاهتمام المستحق من قبل النقاد والشعراء العرب». وإذ أشكر للقارئ الكريم اهتمامه بهذا الباب، ومتابعته له باعتباره نافذةً للتعريف بالشعر والشعراء، فإني أبادر بالاستجابة إلى دعوته تقديرًا لشاعرية البردّوني، واعترافًا بمكانه ومكانته. ولقد أتيح لي - ولكثيرين غيري - أن يلتقوا بالبردّوني، وأن يستمعوا إليه عن كثب حين حضر إلى القاهرة مشاركًا في احتفالية وزارة الثقافة بمرور خمسين عامًا على رحيل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم عام 1982. وسيطر البردّوني بشعره وإلقائه معًا، من خلال قصيدته «وردة من دم المتنبي» وغيرها من القصائد، على اهتمام جمهور الاحتفالية، الذي كان لقاؤه الأول بالبردّوني اكتشافا لشاعرية عربية كبرى، وشهادة للقصيدة العمودية - في نبضها الحيّ الـمتجدد - وقدرتها على الصمود في مواجهة ما يطلق عليه الآن شعر الحداثة. هذا هو سر البردّوني ومصدر فتنة شعره وعظمة تأثيره. هو لم يغادر خيْمة القصيدة العربية يومًا، ولم يَنْفِ عن نفسه معجمها الشعري، وطرائقها في التعبير والتصوير. هو البدويّ الملتحف شملته، والمسافر دومًا في كلّ اتجاه. لم يغيّر زيّه ولونه أو لغته، حتى يكون عصريا في نظر من يتطلبون العصرية. وإذا به في هذه الصورة التي تبدو - للوهلة الأولى - تقليدية، يُفجّر في قصيدته حِسّا عصريًا - واخزًا، ورؤية أكثر توهّجا واشتعالا من مجايليه الشباب، وهمة شعرية باذخة، لا تقف عند مجرد مناطحة القمم الشعرية المتعارف عليها في ديوان الشعر العربي، وإنما هي - أي همّته الشعرية - تتخذ لها مسارها المتفرد، وشموخها النوعي، ولغتها التي يصعب تقليدها أو محاكاتها لأنها زاخرة بكل ألوان المفارقة والمباغتة واقتحام الفضاءات الجديدة، والاحتشاد برصيد من مشاعر السخط والغضب والتمرد والرغبة الحاسمة في التغيير والتجاوز، لغة كأنها السيل الهادر تجرف كل ما في طريقها من لغات شعرية ميتة ومستهلكة، نفخ فيها البردّوني من روحه العارمة، فإذا هي سلاحه الباتر ومعجزته الإبداعية ومصدر الدهشة والإعجاب عند قرائه ومتذوقي شعره. ولقد أتيح للبردّوني أن يغتني برحلة حياة حافلة، وارتطام دام مع صنوف من الفقر والعوز والبؤس، وتجريب في الزمان والمكان والناس والحياة، والتعرض لانكسارات وخيْبات، والحلم بعظائم لم تتحقق إلا في شعره، وشموخ نموذجه، وروعة بنائه.. فكان هذا الاغتناء الحياتيّ بالألم - على مدار حياته كلها - رصيدًا ومصدرًا وينابيع لشاعرية ثرّة متدفقة، تحققت في العديد من الدواوين المنهمرة كالسيل الجارف، وفي مؤلفات أخرى أخذت طابع الدراسات والبحث التاريخي واللغوي والاجتماعي والحضاري. وانصهرت من خلالها سبيكة متوهجة هي حَجَرُ فلسفته، وجوهر رؤيته للحياة والناس، ونظرته إلى التاريخ. وعندما رحل البردّوني كان قد ترك لنا صوته الشعري متوهجًا في العديد من المجموعات الشعرية من بينها: من أرض بلقيس، وفي طريق الغجر، ومدينة الغد، والسفر إلى الأيام الخضر، ووجوه دخانية في مرايا الليل، وزمان بلا نوعية وترجمة رملية لأعراس الغبار، ورواغ المصابيح، وأبطال منتصف الليل، بالإضافة إلى دراساته: رحلة في الشعر اليمني، وقضايا يمنية، وفنون الأدب الشعبي، واليمن الجمهوري ورجال ومواقف، والجديد والمتجدد في الشعر اليمني وغيرها مما لم ينشر حتى الآن. في قصيدة «البردّوني»، «وردة من دم المتنبي» درس شعري في كيفية استلهام التراث الشعري، واستدعائه وإعادة تشكيله، وتقديمه في صورة شديدة العصرية والمغايرة. لقد تَلَبّست روح البردّوني روح المتنبي، وولد من جدل الروحين وامتزاجهما وافتراقهما، كائن شعري جديد، هو هذه القصيدة التي تنبض بصوتي المتنبي والبردّوني معًا، باعتبارهما صوتا واحدا، تمثَّل التجربة الإنسانية وعاناها، وصراع الحياة والوجود، والبحث الدائب عن الحكمة ونفي اليقين الذي يؤدي إلى الثبات، واطّراح السكون بحثًا عن الحركة والحرية والانطلاق، ومن فوق الذروة، تصل إلينا أصداء هذا اللقاء الحميم بين الروحين الشاعريتين، وقد ذابتا في حضور شعري بالغ التوهج واحتشادٍ فني شديد الإدهاش عامر بالإشارات واللفتات والتضمينات والرموز. يقول البردّوني:
*** يظلْ النسيج الشعري - الذي يجمع بين المتنبي والبردّوني - يكشف لنا عن تجلياته الفنية البديعة،وعن احتشاده بخلاصة الخلاصة من خبرة شعراء العربية الكبار، وعن التفرد-لدى كل من الشاعرين - في اقتحام فضائه الشعري بطريقته، وإضفاء بصمته الشعرية عليه، والتغني بهمومه وأتراحه، وأشواقه ومطامحه، وهو ما يجعل من ديوان شعرهما ذخيرة حافلة ومكْنزًا فكريًا وروحيًا وإنسانيًا ولغويا متوهجًا. والوردة التي تشكّلت من دم المتنبي، ورسم البردّوني بريشته المقتدرة أفوافها وألوانها وعطورها - وحتى أشواكها - وردةٌ مترعة بسحر الجمال الباقي والعبقرية النادرة المثال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|