الدولة اللادينية ليست دولة مدنية بالضرورة

الدولة اللادينية ليست دولة مدنية بالضرورة

في خضم هذا الحراك السياسي والاجتماعي الذي يشهده العالم العربي, كان من الطبيعي على مجلة العرب أن تتبنى مصارحات أو مطارحات مفكري العرب, فمجلة العربي لسان حال النهضة العربية بالأمس واليوم وغدًا - إن شاء الله -, قرأت باهتمام ماجادت به أفكار الدكتور الجنحاني التونسي في (العدد 638/يناير 2012) والتي تدور حول الدولة المدنية, ذلك النموذج السياسي الذي يجهد مفكرو العرب أنفسهم في بيان مصاديقه وتطبيقاته في استقراء منقوص ومنكوس للتراث السياسي العربي - الإسلامي الذي لم يشهد لنموذجها (المعاصر) وجودًا يمكن الاستدلال به عليه, ليس لأن مصطلح الدولة المدنية جاء متأخرًا عن عهد صدور النصوص, ولا لأن اصطلاحها لا وجود له في قاموس الفقه السياسي الإسلامي, ولا لأن (الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي قد توقف منذ القرن السادس الهجري) كما يدّعي الدكتور الجنحاني! بل لأن الفكر السياسي الإسلامي ومنذ نشأته الأولى على يد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم كان واضحًا في إرساء أركان (دولته المدنية) التي حددت فيما بعد الأصول العامة لمؤسسات الدولة، وفق الفهم الإسلامي (للدولة) و(الحكم) والتي تقترب من مرتسماته العامة الدولة المدنية بمفهومها المعاصر من جهة التدبير لشئون الاجتماع البشري، أو كما يسميها الدينوري «السياسة المدنية», والمتباينة عنه فيما يتعلق بنوعية القيادة، أو الماسك بزمام (الحكم), حيث أسست نصوصه نموذجها الخاص في القيادة أو (الحاكمية) الذي يميزها عن غيرها من المدارس السياسية القديمة أو المعاصرة, وهو بالإضافة إلى كونه استحقاقًا طبيعيًا لها, فهو محل نقاش واسع بين المدرستين الرئيسيتين في الفكر السياسي الإسلامي - ففي حين ترى أحدهما أن (خليفة الله في أرضه) هو الحاكم والقائد السياسي, ولا يتم له هذا الأمر إلا بالانتخاب بالشورى على أن تتوافر فيه العدالة والعلم بمعناهما المألوف - وهذه النظرية أقرب إلى الذوق العرفي - ترى الأخرى أن لإمامة الناس دورًا فوق القيادة والزعامة, بل يمتد تأثيره إلى عالم التكوين، فهو يرتبط بعالم الغيب لا الشهادة, ولا يكون له ذلك إلا بالنص عليه. وكان يمكن لهذا السجال الفكري أن يولد منهجًا سياسيًا تتواءم في ظله مخرجات كلتا المدرستين, إلا أن الاستبداد حال دون تحقيق «الدولة المدنية» بمفهومها الإسلامي التي أسس لها النبي صلى الله عليه وسلم, الأمر الذي لم يفهمه أغلب مفكري العرب والمسلمين وذلك بفعل انحيازهم إلى اعتقاداتهم المذهبية تارة أو إلى الجدل الفكري والكلامي تارة أخرى, وكان مما ترتب على تلك النواة المحورية أن تتجاول أقلام المفكرين بصدد إقامة الأدلة من الطرق المختلفة العقلية والنقلية لإثبات صحة ما انتهت إليه نتائج سقيفة بني ساعدة أو نظرية الإمامة الشيعية, وفي الوقت الذي نتفق فيه مع الجنحاني بشأن إشكالية نمط الحكم والتي بقيت مطروحة كما يدعي (منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة حتى اليوم)، الأمر الذي أجّل نشوء نظرية للحكم متفق عليها بين الجميع - كل هذا الوقت في العالم الإسلامي - نختلف معه ومع غيره من مفكري السياسة العرب في أمور أهمها:

1 - الفصل بين الحالة الاجتماعية والتجربة السياسية الإسلامية كما في مقولة «فصل الدين عن السياسة» على الرغم من قصدية النصوص الواضحة في إيجاد تلك العلاقة بين الحالتين, والسبب يعود إلى فلسفة نظام الحكم الذي أُسس له بعد فترة الخلافة الراشدة, مستندًا إلى عقيدة الجبر التي ترجع في أصولها إلى فكرة الإرجاء, والمرجئة كأصحاب لهذا الفكر - كما يصفهم د.عمارة: قد عرفهم المجتمع الإسلامي أول ما عرفهم على عهد الدولة الأموية ومنذ أن استقر ذلك التغيير الذي أحدثه الأمويون في طبيعة السلطة بالمجتمع وفلسفتها «تيارات الفكر الإسلامي, د: محمد عماره، ط2 - دار الشروق, القاهرة، 1418 هـ، ص 33» باعتبار أن ذلك التغيير من قضاء الله تعالى وقدره في هذه الأمة، فالفكر إذن فكر يسبغ الجبر ويبرره ويعلل مظاهره إلى الإرادة الإلهية، حيث يظهر العامل السياسي واضحًا في صياغة فكر الجماعة وتأطيره بما ينفع السلطة، ومن ثم استخدمت هذه العقيدة في تبرير التحولات السياسية التي بدت غريبة عن نهج المسلمين الأوائل والتخفيف من وقع المظالم وبشاعة التطورات الظالمة والأفكار الغريبة، إن الاستغلال السياسي للدين تمثل في هذا الفكر الذي أُريد له أن يكون فلسفة حكم الدولة.

2 - إضمار أهمية العامل الديني في تحديد نمط الحكم في الإسلام أو التهوين من دوره في إرساء نمط معين للسلطة السياسية، وهو ما ينذر بترك هذا الأمر سدا تتقاذفه أهواء ورغبات رأس المال السياسي ونزوات المتحفزين لملء الفراغ السلطوي في كل وقت، فتكون (القيمة المركزية؟) كما يعبر الجابري في «العقل الأخلاقي العربي، طبعة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 2006، ص 593» ليس إلا تثبيت قيم ( الطاعة) - لأي فكرة أو أيدلوجيا حياتية - وهو ما تداركه الخليفة الأول باستخلافه الثاني في إدارة شئون الناس وأوصى بها الثاني إلى أحد ستة اصطفاهم بل عين أحدهم بشرط بيعة عبد الرحمن بن عوف له، وحدد لهم ثلاثة أيام لغرض التشاور، ولم يكن ذلك ابتداعا منهم بالنص والوصية لمن بعدهم، بل دلت عليه أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومقاصده مما ورد في النص بالوصية بعده (صلى الله عليه وسلم) ما تواتر عند المسلمين جميعًا (سنة وشيعة) وبهذا يظهر دور العامل الديني في تحديد نمط الحكم، على أن ذلك ليس مبررًا لوصم دولة الإسلام وحاكميتها بالمدنية، إذ إن مفهوم المدنية لدينا يختلف نوعًا عن معناه في فلسفة السياسة الغربية، ولا يعود بعد ذلك مبررًا الركض وراء تطبيقات ومقاربات هنا وهناك بين دولة الإسلام المدنية وغيرها من أنظمة الحكم الأخرى شرقية أو غربية.

حسين جويد الكندي - العراق