إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي
        

الكتُب.. والحياة

          أجلس أحيانًا في حجرة مكتبتي، وأجول بباصريّ على مئات الأسفار التي أدارت ليَ ظهرَها، وقرّت على رفوفها في صمت أبديّ، ما أخاله منقطعًا إلا أن تمتدّ إليها - أو إلى بعضها - يدٌ فتزعجها من مرقدها!

          وقد أقول لنفسي - أحيانًا - في زهوٍ وحبور ونهمةٍ إلى المعرفة والتسلية دونها نهمة الدب إلى العسل: إنها كل شيء!

          وقد أقول - في حيرة وابتئاس: إنها لا شيء!

***

          نعم، إنّها كلُّ شيء..

          فهذا الرُّكام الهائل من الصّحائف عالمٌ - بل عوالم - تموج بما فيها. إن شئتَ مددتَ يدك إلى كتاب منها فإذا أنت في قرى لبنان، وعلى ضفاف جداوله، مع ميخائيل نعيمة أو جبران.. أو في أعماق تاريخ مصر القديمة، مع فراعينها وكهنتها، ومعابدها الشّمُ الضّخام.. أو مع عظات النبي الكريم وتعليمه، يرسلها في صحبه في أعذب الكلم وأخلبه، وأبلغه وأزخره بجلائل المعاني.

          نعم، إنها كل شيء.

          ولكنّها - في أحيان أُخر - ليست بشيء..

          إنما هي أكوام ثقيلة من بيض الصحائف وصفرها، تجلّل صفحاتها رقوش سوداء لا نهاية لها، وهي كلّها في فم الجرذ طعم واحد - لو كانت له طُعمًا!

          أكذلك هي حقًا؟

***

          لعلّ هذين الشعورين المتناقضين قد اعتقبا نفسَ كل مشتغل بالعلم والأدب، أو هاوٍ لهما، في بعض أويقاته.

          على أنّ الأمرَ أوسعُ من ذلك وأبعدُ منه أمدًا.

          إنهما شعوران - ولعلهما ضفيرة من شعور واحد - يتعاوران نفس كل إنسان تجاه الحياة نفسها، في كثير من أحايينه أو قليل.

          فالحياة أحيانًا جنة خضراء، تشرق شمسُها، وتصدَح أطيارُها، وتتعابث أنسامها، وتفعم نفس صاحبها بالبهجة والأمل، وتحفزه إلى العمل والدأب في ما هو له عامل دائب.

          وهي - في ساعات غير تلك - خربة خاوية، يرينُ عليها الصمت، أو تتردّد في أنحائها أصوات خيرٌ منها الصمت، لا توحي بغير اليأس والفراغ، ولا تبعث غير الخمول والقنوط، أو شهوة إلى الفناء والعدم، فرارًا من عبثٍ عابثٍ لا معنى له ولا مغزى وراءه.

          لعلها طبيعة الحياة، أو طبيعة الأحياء على الأدق، وهي - ولا شك - جارية على سَنَنٍ قويم، أدركنا سرَّه أو جهلناه، فهي - ولا شك كذلك - مشيئة الحكمة العليا، التي لا يُحيط الإنسان من أسرارها - إن أحاط - إلا بأقلّ الأقلّ.

 

خالد أبوالهيجاء