على أسوار بابل جورج طراد عرض: د. نبيل أيوب

على أسوار بابل

صراع الفصحى والعامية في الشعر العربي المعاصر
(تجربة يوسف الخال)

يرصد جورج طراد واحدة من أبرز المحاولات الموصوفة لقتل الفصحى على يد العربية الحديثة التي رفع لواءها يوسف الخال... ومن خلال الجداول الإحصائية والشواهد الحيّة, يظهر الباحث تهافت العربية الحديثة, وعجزها عن أن تكون اللسان البديل, ويستنتج أنّ العربية الفصحى قد تطوّرت فعلاً, وباتت قريبة من الناس, من غير أن يسجنها أحدّ خلف أسوار بابل التي تحتشد حولها حراب العاميات والمحكيات بين الحين والآخر.

عنوان هذا الكتاب الصادر عن دار رياض الريس سنة 2001 في طبعته الأولى وما جاء في صفحة الغلاف, يجذبان القارئ, ويحملانه على توقع ما يشتمل عليه, ويكوّنان له أفق القراءة, فإذا كان الحاضر في صفحة الغلاف تهافت (العربية الحديثة), فإن الغائب لا يعلن انتصار الفصحى المتقعّرة الجامدة, إنما التأليف الحاصل من الطرفين المتصارعين.

وهكذا, نرى أنفسنا مشدودين إلى مقاربة نصّ د. طراد, كونه يعكس ما في ذواتنا من صراع اللغة. وهل نحن, بوصفنا بشراً, غير حوار اللغة, على ما يقول هايدجر?

قراءة وصفية

لقد شكّل طرح يوسف الخال إشكالية الفصحى المعيارية, وعجزها عن التعبير الشعري الحديث, وتعيين البديل متمثلاً بالعربية الحديثة, أي المحكية, موضوعاً لدراسة د. طراد الذي عالجه استناداً إلى غير منهج نقدي, لاسيما الموضوعاتي والألسني الإحصائي, وفق الطريقة الوصفية التحليلية, على ما جاء في المقدمة, وقد توزعت الدراسة على خمسة فصول متدرّجة.

أ- الحداثة واللغة:

هذا ما يتناوله د. طراد في الفصل الأول, ولقد توصّل إلى مفهوم للحداثة يطابق نوعاً من الجدلية القائمة على حركات صراعية, وعلى ارتقائية نامية من غير انتهاء إلى مستقرّ.

فمع أن الحداثة ترتبط بالزمن الذي تحدث فيه, فإن الزمن ليس هو العنصر الحاسم في تجديدها. وإذا تعيّنت بأنها نقيض القدم, فإنها في المفهوم الإبداعي تفكك الارتباط بالزمن, إذ لا تعني, حصراً, المغايرة للماضي, إنما تؤسس على الماضي الذي انقضى لمستقبل مغاير, وفق علاقة جدلية خاصة بها, فهناك إبداع قديم يظل قادرا على معانقة المستقبل, لأنه يتضمن روح الحركية, وفي روح الحركية هذه جوهر الحداثة.

من هنا يأتي تمييز د. طراد العابر من المتحوّل. العابر زائل, أما المتحول فحيٌّ يحمل جوهر التنامي والارتقاء, وكذلك, تمييزه الجديد من الحديث. الجديد يرتبط بزمن محدد, وينفي ذاته, إذ يزيح الجديد الآتي الجديد السابق, أما الحديث فيصل الماضي بالحاضر والمستقبل في خيط الحركية.

وبعد أن يتكلم د. طراد عن سمات الحداثة, ومنها سمة الصراع الدائم بين العابر والثابت, وسمة عدم الاستقرار تدميراً لكل مكرّس, وسمة نضال الحداثة ضد ذاتها تأكيدا لحركيتها الارتقائية, وسمة احتفاظها من المنقضي بجوهره الحيّ لتتوالد من داخل, وسمة تغيير المتغيّر, والتمرّد, وعدم وجود غايات نهائية, بعد كل ذلك يعرض د. طراد مفهوم يوسف الخال للحداثة, فيرى أنها (موقف كياني من الحياة, في المرحلة التي يجتازها, حيث إن الخال يعطي الأولوية في الحداثة لتطوّر الحياة والإنسان, يليه القصيدة, ومن ثم, فإن تطوّر القصيدة يرتبط بتطوّر اللغة, ويبرّر الخال هذا الارتباط بكون اللغة هي قوام الشعر, وهنا, أهمل الخال الإنسان والحياة ليركّز على اللغة التي بات يعتبرها نقطة الانطلاق الأولى في الطريق إلى الحداثة, فما الموقف من اللغة?

يرى د. طراد أن معظم الباحثين والشعراء العرب الحديثين قد أجمعوا على جمود اللغة العربية الفصحى وتقعّرها, وبأنها عنصر متابعة للماضي, واستقرار لمفاهيمه, حتى أن أي عربي معاصر, يبعث في القرون الأولى للميلاد, يجد من يفهمه بلغته الحيّة.

فمن جهة إذن حركية الحداثة, ومن جهة ثانية, جمود اللغة الفصحى, وبهذين الحدّين المتعارضين تتعيّن الإشكالية الكبرى التي واجهت الكتّاب والمفكّرين الحديثين, وهي اضطرارهم إلى التعبير عن الحياة الحديثة بأدوات لغوية جاهزة ومكتملة ومحاطة بهالة من القداسة يستحيل إعادة النظر فيها, وهكذا, كانت المجابهة بين اللغة في جمودها, والحداثة في حركيتها, وهي مجابهة الثابت للمتحوّل, والراسخ للتجريب, والمكرّس لجدلية التحوّل الدائم, فكيف يمكن, إذن, إزالة التعارض?

ب - مفهوم الحداثة:

يرى د. طراد أن الحداثة منتج غربيّ لا مجال لتعديل مفهومها, لاسيّما القائم على حركيّتها, لذلك انحصر المبحث في مجال اللغة, وتطويرها.

يصنّف د. مراد الباحثين في تطوير اللغة العربية الفصحى ضمن فريقين: فريق واقعي عمل على تطويرها من داخلها, مراعياً روحيّتها وحساسيّتها, وفريق خيال توهّم أنّ ما انطبق على اللاتينية في الغرب حينما استبدلتها محكيّات نابعة منها, ينطبق على العربية الفصحى واستبدال عامّية إقليمية بها, كما يمكن اعتماد الحرف اللاتيني محل الحرف العربي, على غرار ما حصل في تركيا, ما عرّض هذا الفريق إلى اتّهامات خطيرة, وأوقعه في بلبلة وتشوّش واضطراب مفاهيم.

ويلاحظ د. طراد وجود الشعراء, واللغويين في كل فريق, ويذكّر على الدوام, بموضوع بحثه: إشكالية اللغة في الشعر بما هي لغة, أي مجموعة أصوات تأتيها الحركات الإعرابية لتكسبها المعنى المقصود, وليست اللغة الشعرية كإبداع, أو أداة فنية.

1 - يكاد معظم الشعراء يجمعون على عجز اللغة, وعلى أنّهم وحدهم قادرون على تطويرها, ويعيدون عجزها إلى خضوعها للقواميس والقواعد الجامدة. ومن هؤلاء جبران, ونازك الملائكة, وصلاح عبدالصبور, وأدونيس, وأنسي الحاج, القواميس قتلت لغة الحياة, ما أسقط الفصحى في اللامعنى, وجعلها خالية من حركية الفعل, وفوق زمنية, أما القواعد الجامدة فقد أقفلت الباب أمام الاجتهاد والحركية.

وأولئك الشعراء اعتقدوا بإمكان تطوير اللغة من داخلها, فعيّنوا مصادر التغيير باللجوء إلى ألفاظ الحياة, وبإدخال مفردات العلوم والاختراعات إلى القواميس العربية, بعد تطويعها, وباعتماد الاشتقاق والنحت على صعيدي المفردة والعبارة, فضلاً عن تقبّلهم العاميّة شكلاً تعبيرياً يستخدم على غرار الفصحى شريطة ألا يعتبر هذا الاستخدام بديلاً عنها. فجبران يعتقد ببقاء الأنسب من العاميّة, ونازك الملائكة تقرّظ شعر ميشال طراد, وسعيد عقل, والأسرة الرحبانية, بالعامية, مع أنها تقف ضدّها, وعبدالصبور يقول بالإفادة من العامية, وبالانفتاح اللغوي على الحياة, ويتفهّم الاضطهاد الذي تتعرّض له العامية من نصراء الفصحى, حتّى أنه اعتبر أن إقفال أبواب الفصحى بوجه العامية, يؤدي إلى جمود الشعر العربي الحديث, وزيفه.

2 - اختار د. طراد فريق الباحثين اللغويين ممّن كان له مواقف بارزة, ونظريات شبه مكتملة. وقد تعيّن هذا الفريق بسلامة موسى, وأنيس فريحة, وعبدالله العلايلي... يعتبر سلامة موسى وأنيس فريحة أن الفصحى هي لغة الموت, وأن التمسك بها سبب كل تخلف, أما المحكية فلغة الحياة, وكلاهما يرفض تبسيط الفصحى, أو تيسيرها, لاستحالة تقريبها من الناس, ولذلك رفضا اقتراح توفيق الحكيم القائل باللغة الثالثة, واقتراح المستشرقين باللغة الوسطى.

ينحاز موسى إلى التمصير, وفريحة إلى اللبننة, فيقولان بإلغاء الحركات الإعرابية كونها سبب انفصال الفصحى عن المجتمع, وإعاقة الفكر, وكلاهما دعا إلى استخدام الحرف اللاتيني تدخل به اللغة إلى عالم الحضارة المتطوّرة, والاختراعات الحديثة, ويساعدها, تالياً, على التحرّر من الحركات الإعرابية, وعلى التعويض عن نقص الحروف الصائتة, ويعجّل في تحرير الفكر.

ويقرّ العلايلي بداء اللغة الفصحى وعجزها, ويعيد جمودها ليس إلى طبيعتها, إنما إلى علماء اللغة القدامى, وإلى أساليب المدارس اللغوية والنحوية, ما حجز اللغة في مصطلحات محدّدة, وقواعد جامدة, وقد اختلط في الأذهان الأمر, فنسب إلى اللغة ما هو من العلماء والمدارس النحوية. ويرى العلايلي أن اللغة الفصحى وجدت قبل القواعد والمدارس, لذلك دعا إلى تبسيط القواعد, وتطوير اللغة من داخلها, والانفتاح على الحياة, رافضاً موقف سلامة موسى وأنيس فريحة, مشدّداً على اعتبار الحركات الإعرابية دليل تطوّر للغة وليس دليل تقهقر, وأنها أبرز مقوّماتها. وكذلك فقد تقبّل العلايلي التجريب بالحرف اللاتيني, شريطة ألا تتحول الفصحى إلى المحكية.

ولاشك في أن السلطات الدينية والقومية قد وقفت بوجه (اللتننة) وإحلال المحكية محل الفصحى. فما كان موقف يوسف الخال من كل ذلك?

ج - الولادة الثانية:

موقف يوسف الخال من اللغة الفحصى هو محور نظريته الشعرية, فهو, منذ عام 1954, في مقدمة (هيروديا), كان قد أعلن أنه سيتوقف عن الإنتاج بالفصحى, إلا أنه لم يترجم, عملياً, موقفه هذا, إلا في (الولادة الثانية), عام 1981.

1 - يرى الخال أن الأولوية في الشعر هي للغة. واللغة عنده هي الألفاظ بما هي ألفاظ, وليست اللغة الشعرية التي تشمل الصور, وأساليب التعبير, وصياغة الأفكار, ويعتقد الخال أن تطوير اللغة يطوّر الشعر, ذلك أن لغة الشعر لغة إيحاء وتوتّر, وهي ذات أفق مفتوح, تقوم, كما يرى علماء اللغة الحديثون, على الانزياح, بينما لغة النثر, كما كانت لغة الشعر القديم, لغة التقرير, والإفهام, والتواصل. وعلى لغة الشعر الحديث أن تكون لغة الحياة, المتحدثون يخلقون اللغة كلامياً, والشعراء يخلقونها كتابياً.

2 - يعترف الخال بوجود لغتين في العربية: فصحى ومحكية, وهو يرفض الإبقاء عليهما معا, على عكس معظم شعراء الحداثة. ويرى وجوب إزالة الفصحى لمصلحة المحكية, على عكس ما قالت به نظرية سابير, الفصحى انحصر استخدامها في الكتابة, فجمّدت, أما المحكية فقد استخدمت, ومازالت تستخدم, لتفاهم الناس, فتطوّرت مع تطوّر الحياة. وهكذا, قامت هوّة عميقة بين اللغة التي يفكّر بها الإنسان العربي, وهي المحكية, واللغة التي يعبّر بها كتابيا عن أفكاره, وهي الفصحى, ويستنتج الخال أن الفصحى قاصرة عن استيعاب العقل, وباتت عقبة أمام التفكير.

3 - يعيد الخال عجز الفصحى عن التطوّر إلى ثلاثة عوامل: العامل الديني, وعامل انحلال العقل, وعامل ربطها بالقومية. ويرى إمكان تجاوز هذه العقبات والعوامل. فمن حيث العامل الديني, يرى الخال وجوب فصل الدين عن اللغة? إذ كثير من العرب يعيش حال العلمانية, وعدد من الباحثين لم يعترف بالعربية منزلة ](ابن جني)[ ومن حيث انحلال العقل, يعيد الخال تدهور الفكر وتخلّف العقل إلى الجمود اللغوي, ولاسيّما قواعدها ومعاجمها. ومن حيث العامل القومي, يقول الخال إن اللغة غير جامعة, كون الشعب لا يتكلّم الفصحى, فضلا عن أن الخال يلاحظ وجود أربع محكيّات إقليمية في العربية: الهلال الخصيب - الخليج - مصر والسودان - شمال إفريقيا.

4 - يرفض الخال ردم الهوّة بين المحكيّات والفصحى باعتماد تسويات, وحلول توفيقية, ويدعو إلى نسف الفصحى, واعتماد المحكيات في الأقطار العربية, وهذه المحكيات قد أسقطت حركات الإعراب وأسماء الموصول لتوجد اثنين محلّها, وأسماء الإشارة لتوجد غيرها, وتخلّصت من الضمائر لتبقى على ثمانية, وكذلك أسقطت نون الإناث, والمثنى, وطرحت القواعد القديمة, وكمّا هائلاً من الألفاظ البائدة. وإذ دعا الخال إلى (العربية الحديثة) وهي المحكية الموسّعة الشاملة الهلال الخصيب, رفض محكية سعيد عقل الضيّقة وطريقته في (اللتننة).

5 - ويتصدّى د. طراد للخال وجميع الداعين إلى اعتماد المحكية بديلاً عن الفصحى, ويرى أنهم استندوا إلى الغربيين, ومنهم عزرا باوند, وتودورف, وإليوت, ووردزورث, والألسنيون, وأنهم اتخذوا مما حدث مع اللاتينية مثالا لما يريدونه أن يحدث مع العربية الفصحى. ويعتبر د. طراد أن وصف علاج غربي للغة عربية مريضة هو علاج قاتل لا يراعي طبيعة العربية وخصوصيتها, ويقول إن انبهار التحديثيين بالغرب هو الذي أفشل التحديث اللغوي في عصرنا.

6 - يأخذ د. طراد على معظم التحديثيين اللغويين عدم العودة إلى التراث العربي. فمشكلة العجز اللغوي ليست طارئة ولا مستحدثة, إذ ثمة عرب قدامى عانوا عجز العبارة في نقل الرؤية, غير أنهم لم يرفضوا الفصحى وحرفها العربي, على غرار النفري وأبي تمام, وكانت ظاهرة تغيير علائق الكلام حلاً ملائماً للمعضلة. وكذلك, فقد قال الجاحظ بإمكان إسقاط الإعراب من الحوارات, وتقبّل ابن خلدون العامية بوصفها لغة تؤدي المقصود. وأبرز ما يلفت النظر ما كشف عنه د. طراد من أن الشاعر البغدادي أبا العبر قد قال الشعر بلغة الناس, فقد كان هذا الأخير يجلس على جسر بغداد, فيلتقط كلام السابلة, ويسجّله على ورقة, ثم يمزّقها طولاً وعرضاً, ويعيد لصقها, ليطلع منها كلام طريف. وأبو العبر هذا قد استبق الدادائية التي أنشأها تريستيان تزارا, والتي مهّدت للسريالية. ويلاحظ د. طراد أن أيّا من التراثيين لم يدع إلى استبدال المحكية بالفصحى, إنما انحصرت دعوتهم في التخلص من تقعّرها, وجمود قواعدها, تخلّصا لا يوقعها بالسوقية, ويكشف د. طراد عن أنه كان بإمكان التحديثيين اللغويين المعاصرين, أن يتجنبوا الاتهامات الخطيرة, الدينية والقومية, لو هم كانوا قد عادوا إلى الظاهرات التراثية.

7 - ويكشف د. طراد عن تناقضات الخال, والمآزق المنطقية في عربيته الحديثة.

أولاً: يبشر الخال بمحكيّته, أي بعربيته الحديثة, هدفه إراحة القارئ من تعقيدات الفصحى وبعدها عن الحياة, وفيما هو يعمل على نسف الفصحى من أجل قواعدها يؤكد بالمقابل أن لمحكيته قواعد وأصولاً. ويعلّق د. طراد متسائلاً: أيكون لدينا حينئذ قواعد لأربع محكيّات, فنزهق متعثّرين لإيجادها, وتعلّم قراءاتها, فيما تبسيط الفصحى ميسّر? ألا يوقع الخال قرّاءه بما كان يتوخّى إراحتهم منه?

ثانيا: وإذ يقدّم الخال محاجّته الداعمة لرفض تبسيط الفصحى, يتوقع الفشل في المسرح والسينما والرواية التي انفتحت على المحكيّات مع الالتزام بالفصحى, ويرد د.طراد بأن الرواية قد تطوّرت فعلاً دون التخلي عن الفصحى, ويمثل بنجيب محفوظ, وبأن السينما المصرية قد تطوّرت, وإذا كانت تعتمد المحكية, إلا أنها لم تقل بقتل الفصحى, فالتطوّر, كما يقول د. طراد, مرتبط بامتلاك التقنيات الحديثة. وهذا ما استندت إليه, وبَلَغَتْهُ الرواية والسينما والمسرح.

ثالثاً: وإذا كان على كلّ نظرية أن تكون مكتملة, وقادرة على إثبات صحّتها وسلامتها في النظر والتطبيق, فإن في نظرية الخال من التعقيدات أكثر مما فيها من التسهيلات والحلول, فالخال نفسه لا يواظب على استخدام الصيغ التي يقترحها, ولا على المفردات التي ينتقيها, ما أوقعه في التناقض والارتباك.

وأبرز تناقضاته أنه يأخذ تارة من الفصحى, وطوراً من المحكية, فتختلط الأمور, ويعطي د. طراد كشاهد من محكية الخال, الآتي: (والمسرحيات التي تمثلت حتى الآن), ثم قوله: (والمسرح هو الحياة أو جانب منها يمثّل على المسرح), ويعلّق د. طراد: (تمثّلت) الأولى من المحكية, بينما (يمثّل) الثانية من الفصحى, وكلاهما يحمل دلالة مختلفة.

رابعا: يعتبر الخال النتاج المهجري ناجحا لانفتاحه على المحكية, وجعلها فصيحة, كما يعتبر نتاج مجلة (شعر) متميّزا ومتفوّقا, وهو مكتوب بالفصحى المنفتحة على لغة الحياة, ما يعني تبسيط الفصحى. فلِمَ يتمسّك الخال, إذن, بإسقاط الفصحى ونسف قواعدها, وهي التي بوساطتها مبسّطة تحقّق إبداع المهجريين ومجلة شعر?

خامساً: يعبتر الخال أن التقيّد في شكل مطلق جمود وقصور, وأن الخروج في شكل مطلق هدر وهلوسة, وأن الحلّ هو الاعتراف باللغة والعمل على تطويعها, والأخذ بقدر كاف من الحرية لتطويع قواعدها وأساليبها. أليس في هذا الموقف تناقض? فكيف نوفّق بين فرض المحكية أو (العربية الحديثة) في العالم العربي, والقول بتطويع الفصحى وتعزيز أساليبها وتبسيطها?

سادساً: يكتب الخال مقدّمة كتابه (الولادة الثانية) بالفصحى المبسّطة, وشعاره المعلن بالفصحى: (اقرأ كما تتكلّم), والمفارقة الساخرة أنها مقدمة تأسيسية للعربية الحديثة أو المحكية, في كتاب مكتوب بالمحكية, أليس في هذا تناقض وارتباك?

8 - اتُّهم الخال بالتغريب, هو وكتّاب مجلة شعر, وقد جاء على لسان جهاد فاضل: (إن (شعر) مثلث دور المنشق لا دور الثائر, فبدت كأنها مجلة جالية أجنبية أكثر مما بدت صوتاً طليعياً في الأدب العربي الحديث). وقال سامي مهدي إنّ للخال علاقة (بالمنظمة العالمية لحرية الثقافة) المرتبطة مع المخابرات الأمريكية. أما الخال فيردّ بأن كل شيء بات مسيّسا, إذ إن متهّميه لا يقارعونه الحجّة بالحجة, وإنما يلبسونه تهماً سياسية وفقا لما اعتاده العقل العربي العاجز.

وكذلك, فقد اتهّم الخال بمعاداة الروح القومية العربية, وتقويض وحدة العرب. ويردّ الخال: تقويض للقومية والوحدة? وهل يجوز أن تكون هذه الوحدة واهية قائمة على عامل لغويّ هشّ? ويضيف: هذه أوربا تتوحّد فيما شعوبها تتكلّم لغات مختلفة.

وإذا افترضنا أن الخال قدّم حججاً مقنعة تعزّز عربيته الحديثة, على الصعيد النظري, فهل تصمد نظريته عند التطبيق? وتالياً, هل أوغل الخال في الحداثة الشعرية, عند اعتماده محكيّته, أي عربيته الحديثة?

د - تجريب الخال: يستخدم د.طراد الألسنية الإحصائية, باحثاً في تجريب الخال في عربيّته الحديثة, مقارناً ومقابلاً نتاجه بها بما كان قد أنجزه في الفصحى, وقد كشف عن الآتي:

1 - التطويل في حجم القصائد, بالمحكية, بالنسبة إلى القصائد بالفصحى.

2 - إسقاط حركات الإعراب, مع الاحتفاظ بتحريك أواسط الكلمات دفعاً للالتباس, وهو تحريك يندرج ضمن أزمة الحروف المصوّتة والصامتة.

3 - تسكين القوافي في قصائده بالمحكية, ذلك أنها تعني سيطرة السكون.

4 - انخفاض استخدام الفعل, واستخدام (رَحْ) محل (سن).

5 - تراجع الذاتية, وارتباطها بتراجع الفعل.

6 - الخلط بين حروف الجرّ.

7 - ربط اللغة/ أداة التعبير, باللغة/أداة العقل.

هـ - ملاحظات الكاتب: ويلاحظ د. طراد الآتي:

1 - عدم تغيّر البنية الفكرية عند الخال, إذ بقيت حركتها على ما كانت عليه في قصائده بالفصحى. ولقد كشف د. طراد, في مقاربات نصّية لقصائد بالفصحى وبالمحكية, أن جميعها قامت على مبدأ التضاد: ماض قاتم ضد مستقبل مشرق, وبينهما جسر التصميم. أي أن الحركة تنجز من ماض متخلف, إلى وعي به في الحاضر, إلى تغييره في المستقبل. ويعلّق د. طراد متسائلاً: إذا كان تطوّر العقل مرتبطاً بتطوّر اللغة, فلمَ لمْ تتبدّل بنية الخال الفكرية عند إنتاجه بمحكيّته?

2 - اضطراب لغة الخال في التصوير الإملائي, وكدليل على ذلك لفظة (ماء) التي تكتب بالفصحى كتابة واحدة. أمّا في العربية الحديثة فقد وردت: (ميّة), و(مية), و(ميْ). وعلى غرارها حصل ارتباك كثير

3 - الاضطراب الدلالي في استخدام حروف الجرّ ]في - ب[, وفي ]حتّى - تَ - كي - لـِ[.

وفي أسماء الإشارة ]هيدا - هيدي - هدول - لهيك - هـَ....[.

وينهي د. طراد قراءته الوصفية التحليلية لنتاج الخال بخلاصة تكشف عن عدم وجود قاعدة موحّدة عند الخال, وبافتقار نظريته إلى التماسك, فضلا عن أنه لم يقدّم في عربيّته الحديثة إبداعاً أفضل ممّا قدّمه بالفصحى.

بين التدمير والتخريب

ويخلص د. طراد إلى أنّ استيراد تجارب الإصلاح اللغوي الغربية يشبه الدوران في حلقة مفرغة, حول أسوار بابل الآيلة حتماً إلى السقوط, تحت وطأة البلبلة اللغوية المفتعلة, ويدعو د. طراد إلى الكتابة بالفصحى والعامية, على ألا يتجرّأ أحد على اعتبار المحكية بديلاً عن الفصحى. ويعتقد بأنّ بقاء الفصحى على تقعّرها عمل مدمّر لها, وإحلال المحكيّة محلّها عمل تخريبي, من هنا أهمية تبسيط الفصحى وتطويعها وفقاً لإنجازات الصحافة.

ويخلص قارئ الكتاب إلى ما يلي:

أ- يكشف هذا المبحث عن أن منتجه باحث جدليّ بامتياز, وقد تكشّفت هذه الجدلية على مساحة الكتاب, منذ تعيين حدّ الحداثة, مروراً بمواقف الشعراء واللغويين من إشكالية اللغة والشعر, انتهاء بالمقاربات النصّية, وذلك بوضع القضايا بعلاقات تعارضية, وفي حركة استقائية ومجاوزة مستمرة.

ب - ويكشف هذا المبحث عن أنّ أبرز منهج معتمد فيه هو التفكيكي, فالباحث مارس تفكيكيّته بشكل لافت, إذ كشف, على مساحة كتابه, عن تناقضات المنظّرين, ولاسيّما الخال, وعن المآزق المنطقية في نظريته, كما فضح جميع المركزيات التي انطلق منها التحديثيون الواقعيون والخياليون, حتى بانت تداعيات النظريات التي عالجت إشكالية اللغة وافتضحت المركزيات.

ج - ويكشف هذا المبحث عن أن صاحبه شديد التمكّن من العمل الحجاجي حتى أن كتابه, من أوّله إلى آخره, قد مثّل عملاً حجاجياً مكتملاً, وقد اتضح ذلك في وضوح الرؤية عند الباحث, منذ البداية, وفي تماسك جميع المقاطع والفصول, وفي تدرّجها, وصولاً إلى الهدف المتوخّى, واللافت أن د. طراد, حيثما استطاع أن يدحض الآراء والمواقف بوساطة تعارضها فعل ذلك, كاستعانته بالعلايلي ضد سلامة موسى وفريحة, أو استعانته بمارون عبود ضدّ الخال. وحينما لم يستحضر رأي أحدهم انبرى بنفسه ليكشف عن المآزق المنطقية والتناقضات, وفي جميع الأحوال, أسّس د. طراد لعربية فصحى مبسّطة ومنفتحة على الحياة والمجتمع, ولشعر يكتب بها فيستغلّ إيماءاتها, ويبدّل علائقها, ويفجّر اكتنازها...

د - ويكشف هذا المبحث عن أن منتجه عميق المعرفة بالنظريات الغربية الحديثة, والعربية التراثية والجديدة, وقد كان هو النص الأوسع, والأعمق, والأوضح.

 

جورج طراد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات