أتطلع وأبحلق مليّا في صورة قديمة تضمّني وأقراني تلاميذ المدرسة
الابتدائية, وألاحظ أن الجميع - ما شاء الله عليهم - رشيقون كقلم الرصاص, وعود
الكبريت, أو عصاة المعلم على أقل تقدير!
للعلم: الصورة التقطت في السنة الأولى من عقد الخمسينيات, فلذا كان من
البديهي ألا يوجد فيها طفل (كامل الدسم) وارم بالشحم واللحم, ويتسم بالسمنة الزائدة
السائدة بين أطفال هذه الأيام من القرن 21 وقبلها...ولله الحمد!
ومن الطريف في هذا السياق - إن كان في الأمر ثمة طرافة - أي حين أريت
الصورة لبعض أطفال الأسرة: انفجروا بالضحك, ولعلعوا بالسخرية المرة قائلين: عسى ما
شر?! هل تعانون مجاعة?!. إن طلعاتكم الهزيلة تضاهي الصور الذي يبثها التلفزيون عن
البشر الذي يكابدون الشح في الماء والغذاء بأفريقيا المبتلاة بالجوع!
وبطبيعة الحال, لم نكن نعاني مجاعة لاسمح الله, بل إن المدرسة كانت
تقدم لنا فطورًا صحيًا قوامه من العدس والبطاطس الصرف الحاف.
نمط الحياة: من النشاط للخمول
والحق أن سبب الاختلاف بين رشاقة أبناء جيلي آنذاك, والسمنة المفرطة
لأطفال (جيل النفط) إن صح التعبير, وإن لم يصح ليس في جعبتي غيره. أقول الفرق يكمن
في نمط الحياة اليومية التي كان يعيشها ويمارسها أقراني في المدرسة والشارع
والبيت.
فإيقاع الحياة اليومية: مترع بالنشاط والحيوية والحركة. فالتلميذ:
يذهب إلى المدرسة ويعود منها (موتورجل) أي ماشيًا على قدميه. وهو يفعل ذلك طوال
السنة الدراسية, لا يمنعه حرّ الصيف ولا قرّ الشتاء! وقد كان يمضي كل نهاره داخل
المدرسة, الأمر الذي يمكنه من ممارسة رياضة ألعاب القوى, والتمارين السويدية,
والسباحة, والكرة الطائرة وكرة اليد والقدم والسلة والتنس الأرضي وتنس الطاولة
والهوكي, نعم حتى هذه اللعبة الأوربية مارسناها في منتصف الخمسينيات في مدرستَيْ
(صلاح الدين) و(الصدّيق) النموذجيتين وغيرهما من المدارس التي كانت نموذجية بحق!
فقد كانت المدرسة - آنذاك - تعنى عناية شديدة بالهوايات التي يرغب فيها التلاميذ من
خلال الحضور الفاعل لإدارة النشاط المدرسي في وزارة التربية. ولاشك عندي في أن
أبناء جيلي يذكرون احتفاء المدرسة بالتربية البدنية والفنية والثقافية والإعلامية
الأمر الذي أدى إلى أن يحب التلاميذ مدرستهم ومدرّسيهم, ويمضون فيها سحابة نهارهم
بحيوية ونشاط دائمين.
وفي الشارع: كانت الألعاب الشعبية شديدة الحضور في كل أحياء الديرة,
وجل هذه الألعاب يعتمد على الحركة: من جري, وقفز, وكر وفر, ونشاط لايتسلل إليه
الكلل ولا الملل مطلقا!
وكان واحدنا يتحلق مع الأسرة حول سفرة الطعام جائعا مقبلا على أكل
الوجبة - أي وجبة - بشهية مفتوحة لا ترفض أي نوع من الطعام البتة. لأنه - ببساطة -
لا يأكل بين الوجبات أبدًا. وإذا كان ثمة وجبة (سناك) يطعمها بين الوجبات الرئيسية:
فإنها لا تتجاوز حبيبات من (البنك والعنجكك) فقط لاغير!(1)
زد على ذلك كله: أن عيال كل أسرة هم الذين يقومون على خدمة البيت في
الأمور التي تناسب سنهم: فالفتيات يقمن بغسيل المواعين إثر كل وجبة, وكنس حوش
المنزل وغرفه, فضلا عن تدربهنّ على شئون الطبخ وكل أعمال ربة البيت من أمهاتهن!
والفتيان يخدمون الكبار في الديوانية حيث يتولون عملية صب الشاي والقهوة, فضلاً عن
إعدادهما كل يوم. كما يقومون بجميع الخدمات التي تحتاج إليها العائلة خارج البيت:
فتراهم يجلبون الإدام من سوق اللحم أو سوق السمك, ويحضرون العلف لمواشي الدار من
(سوق الجت)(2) وغيره.
أي أن الولد والبنت في هذا السياق هما: خادم وخادمة الدار, وسيده
وسيدته, باعتبار أن خادم القوم سيدهم!
وكان هذا الفعل: بدهيًا ومألوفًا وشائعاً, لأن الأقطار العربية
النفطية: لم تكن عرفت (بدعة وصرعة) الخادم, والطباخ, و(المربية), والشغالة,
والبستاني, وراعي الغنم والهجن, وغيرهم من الشغيلة الذين باتوا يزحمون البيت العربي
الخليجي, ويبزون أهله عددًا!!
ماراثون البلع
وإذا شئت معرفة الوجه الآخر من العملة المجسد للطلعة (البهية) لعيالنا
وأحفادنا في هذه الأيام فسوف تشاهد العجب العجاب: فالطفل - بداية - يولد رشيقًا مثل
بقية خلق الله من الأطفال الذين يتغذون على حليب أمهاتهم ومرضعاتهم: أمهاتهم
بالرضاعة.
وهناك العديد من المواليد لا يحظون بحليب أمهاتهم, بدعوى أن حضرة الأم
المصونة تخشى على ثدييها من الترهل, بزعم أن الرضاعة تؤدي إلى هذه النتيجة! مع أن
الشائع في الأوساط الطبية أن الرضاعة الطبيعية مفيدة للطفل والأم على حد سواء. وقد
سمعت - والعهدة على الراوي - أن شيوع سرطان الثدي مرده إحجام الأم عن رضاعة
وليدها!
والحق أن بلية الطفل تبدأ إثر فطامه عن الحليب الطبيعي أو المعلب. ففي
اللحظة التي يبدأ الطفل في تعلم الأكل والتعرف عليه يشرع صاحبنا في ممارسة
(ماراثون) البلع الغذائي, بحيث يتكور الطفل ويتضخم بتقادم السنين حتى يتكرش ويكون
بلا رقبة!!
وما إن يبلغ سن المدرسة الإعدادية المتوسطة حتى تراه - ماشاءالله عليه
وبالصلاة على النبي - إنسانًا وارمًا (كامل الدسم) كما شخصية الدب (نعمان) في مسلسل
الأطفال الشهير (افتح يا سمسم) نقول ذلك مع الاعتذار الشديد لأخينا (نعمان) ما
غيره!
والعبدلله يزعم: أن الأطفال والشباب في حاضرنا الآني لا يشعرون أبدًا
بالجوع! ويندر أن تسمع أحدهم يقول: أنا جائع! لأنه - اللهم لا حسد - يأكل في كل
مكان وزمان! وليس لديه الاستعداد لانتظار ميعاد الوجبة المحدد. فحالما يشعر بالجوع:
هرع صوب مطاعم ومقاصف ومقاهي الوجبات الأمريكية السريعة والتي صارت منتشرة في جل
الأقطار العربية وتزداد كما الفطر!
والمؤسف أن بلية السمنة ليست محصورة في أطفال وشباب هذه الأيام فحسب,
بل إنها تنسحب على آبائهم وأجدادهم على حد سواء!
وحين ألتقي بأقراني الذين كنت بمعيتهم في المدرسة الابتدائية منذ نصف
قرن, والذين تغزلت برشاقتهم في مطلع المقالة: ألاحظ أن ثلثيهم - كما العبدالله نفسه
- صاروا براميل تتدحرج على الأرض! كما أن نصفهم يعانون مرض السكري مثلي ولا
فخر!
وإذا كانت (الجلابية والدشداشة) تفلح في إخفاء مظاهر السمنة المفرطة
بعض الشيء, فإن موسم الصيف والسفر يعرّي سوءتها, ويفضح عيوبها حين يحشر حضرة
البرميل جسمه الوارم بالبنطلون والقميص!
إذا بليتم
ومن هنا: فإن العبدالله طلق لبس البذلة الأوربية طلاقًا بائنًا, وبات
يرتدي الملابس الوطنية في أي بلد يسافر إليه, لأن الزي الوطني يتناغم مع مقولة (إذا
بليتم فاستتروا) لكن الكثيرين من الخليجيين السمان لا يؤمنون بهذه المقولة, بدعوى
أن البذلة تموه هويتهم وتماهيها مع هويات البلاد السياحية العربية والاسلامية
والأجنبية, لكنهم ينسون ويتناسون أن الخليجي مثل الحب يفضحه كرشه لا عيونه!
ودولة الكويت الآن تعد الأولى عالميًا في بلية السمنة وداء السكري,
بحيث بزت وتفوقت على الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تتربّع على مركز
الأولوية في داء السكري وبلية السمنة.
والعبدلله قد يفهم ويتفهم الحلف الأمني العسكري مع حضرة الولايات
المتحدة الأمريكية بحكم الضرورة. لكنه لا يمكنه أن يبلع (الحلف المعوي) معها
المتجلي في حضور (قواعد) الوجبات السريعة الضارة بصحة وقوام ورشاقة كل من يطعمها
يوميا كما الحلفاء الأمريكان.
وقد قرأت في كتاب حضارة الوجبات السريعة لـ (إيريك شلوسر) بترجمته
العربية عن كتاب Fast Food Nation معلومات في غاية الأهمية والخطورة: تتمحور جلها
حول الجانب المظلم للوجبات السريعة, وخفايا المزارع والمسالخ ومصانع تعليب اللحوم,
والأسرار التي تكمن وراء مذاق ونكهات الوجبات السريعة, والجراثيم القابعة في طبق
(الهمبرجر), وكل بلاوي وخفايا وأسرار صناعة الوجبات السريعة الأخطبوطية العابرة
للحدود والقارات, والحاضرة - الآن - في جل أنحاء المعمورة!
ويذكر مؤلف الكتاب: رقمًا فلكيًا صرفته الولايات المتحدة الأمريكية
على الوجبات السريعة عام 2001 ومقداره: 110 مليارات دولار فقط لا غير! كما أن سلسلة
المطاعم تنفق 3 مليارات سنويا على الإعلانات السنوية. وحضرة الإعلان يستأهل
المبلغ.
ولم نذهب بعيدا? ففي دولة الكويت تجد في ثنايا الصحف اليومية إعلانا
يروج للوجبات اليومية على مدار السنة! ولا يسمح المجال هنا بالخوض في تفاصيل كتاب
حضارة الوجبات السريعة, لكني أنصح الآباء والأمهات بقراءته. وأتمنى على وزارات
التربية في الدول العربية أن تجعله من ضمن مقرر المطالعة. أو أن يكون حاضرا في
مكتبات المدارس والمعاهد والجامعات على أقل تقدير.
حتى الشغيلة
منذ ثلاثة عقود تقريبا كان مرض السكري في دولة الكويت ينحصر في أسر
قليلة, تتوارثه عبر أجيالها بحكم زواج الأقارب!
وفي هذه الأيام: يندر أن تجد أسرة كويتية لا يوجد فيها أحد المبتلين
بهذا المرض. والأمر المثير للدهشة والغرابة يكمن في أن الشغيلة الذين يخدمون الأسر
الخليجية لم يوفرهم هذا المرض بدورهم!
ويبدو لي أن الجهات الحكومية القيمة على منح الجنسية الكويتية من حقها
وواجبها اشتراط إصابة الراغب بالجنسية الكويتية بداء السكري ليتطابق مع مواصفات
المواطن الكويتي بالتأسيس المصاب - غالبا - بهذا المرض!
وقد صار معروفًا للعامة والخاصة أن نمط حياتنا اليومية: المحفوف
بالدعة, وقلة الحركة وغياب الرياضة, وحضور الكسل يؤدي بالضرورة إلى السمنة
المرضية!
فعلى سبيل المثال لا الحصر: ألاحظ العديد من الشباب يرتادون المسجد
راكبين سياراتهم.. على الرغم من أن منازلهم تبعد عنه دقائق قليلة سيرًا على
الأقدام!
زد على ذلك أن واحدنا لا يتحرك داخل منزله اعتمادًا على وجود (الرفيق)
الشغيل الآسيوي الذي يتحرك عوضا عنه. ولو كان في مقدورنا تكليفله الذهاب إلى الحمام
ليفعلها عوضنا عنا (حاشاكم) لفعلناها دون غضاضة!
صحيح أن هناك ثلة منا تمارس رياضة المشي والهرولة والجري. لكنها تمثل
الاستثناء لأنها قلة قليلة بالنسبة إلى عدد السكان! حسبك دليلاً على ما ذهبت إليه:
البحلقة في مشهدهم وهم يسيرون على سيف البحر بعد المغرب وإثر الفجر. فستجد أن عددهم
قليل. والملاحظة تنسحب على المشايات الموجودة في المناطق لممارسة التريض., ومع ذلك
كله فإن هذه القلة تشكل بذرة صحوة صحية آخذة في النمو والازدياد كما أظن
وأتمنى.
ورب إنسان رشيق يتساءل - وبراءة الأطفال في عينيه - هل يصلح العطار,
وخبير التغذية وأخصائي رياضة الرشاقة, والطبيب الجراح, وطبيب التجميل كل ما أفسده
الزمان النفطي الموسوم بالدعة والكسل والتخمة والنهم على الوجبات السريعة?!
إرادة وصبر
الحق أن السمنة (ببلاش) والحمية بفلوس: فلكي يتخلص واحد كامل الدسم
مثلي من سمنته المفرطة, والعياذ بالله! أحسب أنه يحتاج - بداية - إلى إرادة مدججة
بالصبر والعناد والاستمرار, لتغيير نمط حياته اليومية, التي أدت به إلى أن يسمن
ويتكرش ويتحول إلى برميل طافح بالشحوم واللحوم والدهون وضغط الدم, وداء السكري,
والكولسترول, والنوبات القلبية, وغيرها من الأمراض والأعراض الكامنة في السمنة
المفرطة!
والملاحظ أن الكثيرين من السمان (من الجنسين) غير مسلحين بالصفات
السالف ذكرها!
فتراهم يلجأون إلى (الوصفات السحرية) التي تتحدث عن المرهم الذي يزيل
الكرش الفخيم - مثل الذي يتربع على حضن العبدلله - في غضون أسابيع قلية, من دون
عناء الحمية ومشقة الرياضة! أو تلعلع: بمناقب ومزايا الدواء الذي يحرق الدهون,
ويبدد الشحوم, ويحيي العظام وهي رميم!! زد على ذلك الأعشاب العجيبة التي تلقف
الأمراض وتبلعها بلمح البصر كعصاة موسى عليه السلام!
ولو أن هذه الوصفات السحرية الرائجة في الأسواق العربية ناجعة ومفيدة:
لزالت الكروش الفخيمة إياها في غمضة عين!
وبما أن السمنة المفرطة هي نتيجة سنوات عديدة من التهام كميات كثيرة
من الطعام غير الصحي, وحصيلة الكسل وعدم ممارسة أي نوع من الرياضة, لذا فإن العلاج
يحتاج - بالضرورة - إلى سنوات عديدة أيضا. بعبارة أخرى أقول: إن التخلص من السمنة
يحتاج إلى عناء ومكابدة, تردفهما رغبة أكيدة, وقناعة صادقة لممارسة فعل الخلاص.
الإنسان كامل الدسم
وفعل الخلاص هذا يحتاج منا إلى اللجوء إلى خبراء التغذية والحمية
والأطباء المعالجين لكل الأمراض المترتبة على السمنة المرضية.
ذلك أن مقالتنا ليست مقالة متخصص وخبير, بل إنها مصاغة بمداد إنسان
(كامل الدسم) ويعاني داء السكري.. أجاركم الله سبحانه!
والظاهرة الغريبة اللافتة للنظر, وتستأهل البحث والدراسة والتحليل من
قبل علماء النفس والتربية والاجتماع تكمن في إصرار عامة الأطفال والشباب على عدم
تغيير نمط حياتهم الكسول, فضلا عن إدمانهم النهم على الوجبات السريعة الكاملة الدسم
والسم! وقد بحت أصوات الأطباء وخبراء التغذية من اللعلعة بالمواعظ, والنصائح,
والمعلومات, والتعليمات التي تحرض على الرياضة والحركة والنشاط, وتحذر من مغبة
إدمان شرب المشروبات الغازية وأكل الوجبات الأمريكية السريعة. وتنبه إلى خطورة كل
ذلك المنحى على الصحة العامة. وبصراحة تامة فإن تلك المواعظ - رغم وجاهتها - لا
تؤثر إلا في القلة القليلة من البشر المبتلين بالسمنة المفرطة!
ربما لأن سطوة الإعلانات التي تروج للمشروبات الغازية والوجبات
السريعة أكثر جاذبية وتأثيرا من النصائح والمواعظ الطبية! حسبك مثالا على ما ذهبت
إليه في هذا السياق: التحذير الصحي العتيد المسطر على علب السجائر.
فعلى الرغم منه فإن ملايين المدخنين مستمرون ومتشبثون بممارسة عادة
التدخين بلا مبالاة لا يغبطون عليها!
إن سطوة العادة الضارة واستحواذها على المرء قد تبز وتفوق تأثير
العبادة!
ومن نافل القول الإشارة إلى أن العبادة مطلوبة ومرغوبة ومفروضة على
الإنسان المؤمن, وكلها خير وبركة, إلا أن عبودية المرء لعاداته السيئة, تحيل
الإنسان إلى عبد ذليل لشهواته المعوية المهلكة.
والعبدلله يعرف - سلفا - أن (موعظته) السالفة الذكر ستكون في نظر
أصحابنا إياهم (ثقيلة الدم) ولن يبلعوها أبدًا مثل سهولة بلعهم (للهمبرجر) والذي
منه!
لذا حسبي القول: اللهم إني قد بلغت.. اللهم فاشهد.