نعمة التعددية

 نعمة التعددية

في العدد 640 لشهر مارس 2012 اهتم السيد رئيس التحرير بظاهرة التنوّع الثقافي والعرقي والديني في بعض الأقطار العربية، والأخطار التي أضحت تمثّلها على الكيانات القطرية الموجودة ودواعيها. لقد استوقفني تحليل سيادته والاستنتاجات التي انتهى إليها، لا لأنه وضع الإصبع على مكمن أخطر داء طفق ينهش جسد الأمة ويهدد بتفجيرها فحسب، بل لوجاهة آرائه أيضًا.

إن التعدد والتنوع داخل القطر الواحد أو الدولة الواحدة نعمة عظيمة وسبب من أهم أسباب الازدهار الثقافي والحضاري في الكثير من البلدان قديمًا وحديثًا، فبه يحصل التلاقح الثقافي والفكري، وفي فضائه الرحب تخصب الأفكار المبدعة الخلاّقة وتتوالد. لكن هذه الميزة التي أودعها الله في خلقه أصبحت في الوطن العربي نقمة عظيمة وخطرًا ماحقًا يهدد الكيانات القطرية العربية القائمة بالزوال والاندثار. أصبحت أكبر تهديد وجودي للدول القائمة بالرغم من أن المنطقة العربية كانت أفضل منطقة راجت فيها قيمة التسامح واحترام الآخر وقبوله، وعاشت جميع مكوناتها الطائفية والمذهبية والعرقية والدينية تعايشًا سلميًا رائعًا، وأسهمت جميعها في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وأغنتها علميًا وأدبيًا وثقافيًا.

هذا التنوع المذهبي والطائفي والعرقي الحامل في طياته لغنى ثقافي وحضاري كبير، ما كان ليتحوّل إلى نقمة لولا ممارسة سياسية خاطئة عملت على استغلاله وتوظيفه، ولولا خطاب إعلامي منحاز، أجّجه وعمل جاهدًا عن وعي أو عن غير وعي على النّفخ فيه وتضخيمه.

فالأنظمة الاستبدادية القمعية التي ابتليت بها المنطقة العربية عملت جاهدة على توظيف هذه الظاهرة واستغلالها لإدامة قبضتها على شعوبها وتبرير استبدادها، بإنكار هذا التنوّع وحرمان «الأقليات» من حقوقها تارة وبتضخيم مخاطره على وحدة المجتمع تارة أخرى.

فبذريعة الحفاظ على تماسك المجتمع وانسجامه ووحدة الوطن الجغرافية والترابية حرمت بعض الأنظمة «الأقليات» العرقية والدينية من حقوقها وعتّمت على هذا التنوع وأنكرت وجوده. وبتلك الذريعة نفسها شيطنت أنظمة أخرى ذلك التنوع وجعلته خطرًا داهمًا يهدد وحدة الوطن ثم ضخّمته لتخويف أبناء المجتمع من بعضهم البعض ولحشد الأغلبية حولها. فمارست دكتاتورية مزدوجة مقيتة، دكتاتورية النظام على جميع الأفراد ودكتاتورية الأكثرية على الأقلية. فشعرت هذه الأخيرة بالغبن لاسيما أن هذه الأنظمة حرمتها من حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية. وازداد الاحتقان الطائفي والعرقي والمذهبي، وامتلأت النفوس حقدًا وكراهية. خاصة أن هذه الممارسات رافقها خطاب إعلامي زاد من هذا الاحتقان بتأجيجه للعواطف والغرائز المذهبية والطائفية، إما بطريقة مباشرة باعتماده خطابًا تخوينيًا يخوّن «الأقليات» ويسميها بالعمالة والارتباط بالقوى الإقليمية أو الخارجية المتنافسة لمجرّد رفعها الصوت مطالبة بحقوقها الثقافية والسياسية والاقتصادية التي كفلتها الشرائع السماوية والدنيوية. أو بطريقة غير مباشرة بالتعتيم على التنوّع القائم وإنكار وجوده، واعتماد خطاب إقصائي يغيّب الآخر الشريك في الوطن وآراءه وثقافته.

هذا الإنكار لوجود الآخر الشريك في الوطن وحرمانه من حقوقه أدى إلى نشوء صراع بين أبناء الوطن الواحد، صراع علنيّ حينًا ومكتوم حينًا آخر، عنيف تارة وسلميّ تارة أخرى، مناد بوحدة الأوطان في إطار التنوع أحيانًا وبالانفصال والاستقلال أحيانًا أخرى.

وقد وجدت الدعوات الانفصالية الخافتة حينًا، والجهورية أحيانًا تأييدًا وتشجيعًا منقطعي النظير من القوى الخارجية والإقليمية المتنافسة على المنطقة العربية. فإضافة إلى حكام الاستبداد الذين لم يفلحوا في بناء دولة المواطنين والتنوّع الثقافي المزدهرة، ابتليت منطقتنا العربية بتكالب القوى الاستعمارية الخارجية، التي لم تكف يومًا عن التدخل في شئونها الداخلية، وتأليب أبنائها على بعضهم البعض. وقد بلغ هذا التدخل الفجّ حد تشجيع الدعوات الانفصالية ومدّها بالدّعمين العسكريّ والسياسي. وهي إذ تفعل ذلك فليس غيرة منها على حقوق هذه الأقليّات وإنما خدمة لمصالحها الذاتية ولمصالح ربيبتها في المنطقة إسرائيل. فمنذ زمن بعيد اتخذت تلك القوى من تفتيت المنطقة العربية إلى دويلات وكانتونات طائفية ومذهبية صغيرة ضعيفة متناحرة، هدفًا إستراتيجيًا للحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية على المدى البعيد.

إن الحل لتجاوز هذا المأزق سهل جدًا، ولا يكلّف عناء إن وجدت النفوس الصادقة والضمائر الحيّة - وما أكثرها - المستعدة لرأب الصدع القائم بين أطياف الوطن الواحد، والمؤمنة بأن الاختلاف ليس خلافًا، وأن التنوع ليس تنافرًا وأن التعدد ثراء وغنى وليس تشرذمًا وانفصالاً. النفوس المؤمنة بأن الوحدة في التنوع والانفتاح على الآخر وليس في النقاء والتقوقع والتعصب. وقد يكون استلهام الرؤية الإسلامية الخلاقة للتعدد والتنوع المنارة التي تهدي إلى سبل حل هذه المعضلة. فقد شدّدت على أن الاختلاف سنّة إلهية وطبيعية أودعها الله في خلقه لدورها في إخصاب الأفكار وإنقاذ العقول من التقوقع والجمود. ألم يقل جلّ وعلا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. و وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ؟. وألم يقل الرسول (صلى الله عليه وسلم) «اختلاف أمتي رحمة »؟ وألم يأمر المسلمين بضمان حرية الكتابيّين واحترام عقائدهم بقوله «اتركوهم وما يدينون».

إن هذه المبادئ القرآنية والإسلامية السمحة المنادية باحترام الاختلاف أجنبيًا كان أو أخًا في الدين أو العرق، والمؤكدة أنه رحمة من الله، لن تتحقق إلا باعتماد النظام الديمقراطي والدولة المدنية. فهما الوحيدان اللذان يحققان وحدة الأوطان في إطار التنوع والاختلاف، لأنهما يطمئنان جميع أفراد المجتمع إلى أنهم مواطنون متساوون كاملو الحقوق لا رعايا ذمّيون ومواطنون من درجة ثانية. كما يضمنان لهم الحق في الاختلاف والحفاظ على الهوية الذاتية

لا باعتبارها هوية مستقلة، وإنما باعتبارها رافدًا من روافد الهوية الوطنية الشاملة. كما يجب التأكيد - ونحن نعيش زمن الثورات العربية - على ضرورة تجنّب السعي إلى بناء الأنظمة الجديدة الوليدة على أسس دينية متعصّبة أو قومية شوفينية، لأن اعتماد مثل هذين النظامين سيؤدي إلى تفجير الأوطان وتفتيتها عمليًا، وهو حلم أعداء الأمة الذين سعوا ومازالوا يسعون إليه.

سامي الحاجي
القيروان - تونس