رؤيتنا للغرب... نظرة نقدية
رؤيتنا للغرب... نظرة نقدية
منذ غزو نابليون لمصر عام 1798، طُرح الغرب على العرب كإشكالية، فهو الغازي والمحتل والمتغلّب المتفوّق عسكريًا، وهو كذلك المتقدم علميًا وحضاريًا، والحل لرؤية جديدة للمجتمع والدين والأخلاق تصدم الرؤية السائدة، وتتناقض معها في العمق، إنه في آن نموذج للنهوض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتحد للهوية والقيم التاريخية السائدة في المجتمع العربي. وقد عبّر المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي الذي عاصر حملة نابليون في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، عن هذا الموقف الإشكالي، إذ أبدى إعجابه بتقدّم الفرنسيين العلمي، وشغف علمائهم بالمعرفة، ولكنه في الوقت ذاته استهجن تحرّر النساء الفرنسيات وسفورهن ومخالطتهن للرجال، وخطر هذه المخالطة على الأخلاق. وبهذا دشّن الجبرتي العلاقة الإشكالية بين العرب والغرب في الفكر العربي الحديث: الانبهار بمنجزات الغرب العلمية والتوجّس في الوقت ذاته إزاء حداثته العقلانية والاجتماعية. أما رفاعة الطهطاوي الذي عيّنه محمد علي إمامًا لأول بعثة أرسلها للدراسة في باريس عام 1826، فقد راقب حضارة الغرب عن كثب، وقام في أثناء إقامته في باريس بمشاهدات دقيقة للعالم الحديث، وتعرّف إلى المؤسسات والعادات السائدة في المجتمع الأعظم ازدهارًا في زمانه، وبعد عودته إلى مصر، نشر عام 1834 كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي ضمّنه ملاحظاته على حضارة الغرب وموقفه منها. لاحظ الطهطاوي تفوّق الإفرنج في الفنون والصنائع متحسّرًا لتأخر ممالك الإسلام وتخلّف مدنهم، داعيًا إياهم إلى الاقتداء بنهضة الغرب العلمية والعمرانية لأن «الحق حق أن يتبع». وتوقف الطهطاوي أمام فضائل الإفرنج الأخلاقية، فهم محبّون للعمل، بعيدون عن الإسراف، متفانون في حب أوطانهم، تعرف عامتهم القراءة والكتابة، يتميّزون بذكاء العقل ودقة الفهم، وعندهم «جورنالات» نافعة للتجارة ومسارح للرقص، ومكانة النساء مرموقة لديهم. لكن أكثر ما استوقفه في باريس احترام الاختلاف في الدين والمذهب، والنظام السياسي القائم على القانون والعدل والإنصاف من دون تمييز بين المواطنين. إلا أن الطهطاوي - على الرغم من كل تلك الفضائل التي بهرته - ظل ينظر إلى باريس باعتبارها «ديار كفر»، وبقي الغرب لديه عامل تهديد وتحدٍّ للأمة الإسلامية وقيمها الأخلاقية والاجتماعية. ومن النهضويين الأوائل الذين طرحوا العلاقة مع الغرب طرحًا إشكاليًا، أحمد فارس الشدياق الذي عاش في الغرب، وراقب حضارته مراقبة دقيقة، ودوّن ملاحظاته في كتابه «الساق على الساق في ماهو الفارياق» الذي نشره عام 1855 في باريس. فقد لاحظ في الإنجليز تسامحهم تجاه الغرباء، ومساواة جميع الناس عندهم في الحقوق البشرية، واحترامهم الاختلاف في الرأي والعقيدة، ومعرفتهم قدر ذوي العلم، ووضع المرأة المميّز لديهم. لكنه كذلك سخر من بعض عاداتهم وأبدى تأثّره لبؤس فلاحيهم وجهلهم وحرمان صنّاعهم وشقاء تجّارهم ومرأى بناتهم الفقيرات البائسات في شوارع لندن بأثوابهن الرثّة. وبالإجمال، فضّل الشدياق العيش في العالم العربي حيث العلاقات الوديّة بين الناس على العيش في الغرب حيث «الوحشة والنكد» والجفاء في العلاقات الإنسانية. وهكذا انحصر الوجه الإشكالي لدى الشدياق الهارب من طغيان رئيس طائفته، في الجانب الاجتماعي، على عكس الطهطاوي الذي رأى في الغرب نقيضًا للإسلام وتهديدًا له. أما بطرس البستاني، فقد نظر إلى التمدّن الغربي في الأساس نظرة إشكالية، إذ خصص العدد الحادي عشر من النشرة، التي أصدرها عام 1860 في بيروت باسم «نفير سورية»، لتحديد مفهوم التمدّن والموقف من التمدّن الغربي بوجه خاص، فرأى أن تمدّن أوربا غير كامل من أوجه كثيرة، وحذّر لذلك من تقليد عادات الإفرنج، والتمسك بكل ما أتانا منهم تمسكّا أعمى، متوهمين أن ذلك كاف لأن يدرجنا في سلك المتمدّنين. ومن هنا، فإن العلاقة بالغرب يجب أن تخضع للنقد والمراجعة، فنأخذ منه ما يلائمنا ونطرح مالا يلائمنا كي لا تنقلب علاقتنا به إلى عكس ما نريد ونتوخّى. وقد يكون موقف الرائد النهضوي فرنسيس المراش من الغرب هو الأكثر إشكالاً وتوترًا، إذ تراوح بين الانبهار التام باعتبار التمدّن الغربي النموذج الحضاري المثالي الذي يجب الاقتداء به من أجل تجاوز حال التخلّف والفوات المهيمنة على العالم العربي، وبين الارتداد على هذا التمدّن باعتباره تمدّنًا متوحشًا أورث الحروب والمطامع وسفك الدماء. فقد تمثّل الغرب في رواية المراش «غابة الحق» 1865، على صورة مدّ من الاخضرار وبحر من النور الساطع كأنه يهم أن يندفق على الشرق المتمثّل على صورة أقفار مجدبة يخيّم عليها الظلام وسكوت الموت. وفي مقدمة كتابه «رحلة باريس» طرح المراش أسئلة العدل السياسي والاجتماعي والتقدم الإنساني الشامل، وكأنه في طريقه إلى الغرب لإيجاد الأجوبة الشافية عليها. ولدى وصوله إلى باريس راح يكيل الثناء على حضارة الغرب حيث الكل في نعيم دائم، فهناك الراحة والأمن والثروة، وهناك العمران والاختراعات، وهناك العقل البشري في ذروة إبداعه، و«الأمة الفرنساوية رافلة بأذيال الحرية الكاملة من دون ذعر من سطوة شريعة مارقة أو انتشاب نار خيانة». كأنما الذي شاهده المراش هو «الجنة»، وبكل ما تتصف به من أوصاف باهرة. لكن هذه الصورة ما لبثت أن انقلبت، وعاد المراش بعد عودته من الغرب يطرح الأسئلة إياها التي كان يأمل أن يجد أجوبة عليها في طريقه إلى باريس. فغدا تمدّن الغرب، في مقالة «التمدّن المتوحش» في «الجنان» عام 1870، وفي ديوان «مرآة الحسناء» 1872، تمدّنا متوحشًا اندفع معه الإنسان وهو على قمة الكمال إلى استحداث الآلات الجهنمية لقتل نفسه والفتك بها، فبئس التمدّن إذا كانت قواعده تبنى على النار والسيف، وبئس التمدّن الذي زرع الذعر والوجل، وجلب البلوى إلى الملأ، حيث ولولات الأرامل وعويل اليتامى وحسرات الفقر. بين القبول والرفض وبصورة عامة اختلف موقف النهضويين العرب الأوائل من الغرب، بين مَن رأى فائدة في اقتباس النظم السياسية الدستورية الغربية - الطهطاوي، المراش، التونسي - بين مَن رفض القيم الغربية باعتبارها مرادفة لتردّي الأخلاق - مجلة «الهلال» القاهرية، أرجعت انتشار الفجور والسكر وألعاب القمار في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى إمعان المصريين في تقليد الأوربيين - وبين من لا يرى حرجًا في تبنّي بعض قيم الحضارة الغربية، لأنها من صميم تراثنا الديني والتاريخي - الطهطاوي والتونسي. وثمة أيضًا من مارس الأستذة على الغرب باعتبار العرب أصل التقدم والاختراعات والعلوم وأنظمة العدل السياسي والاجتماعي. لكن قاسم أمين ردّ مطلع القرن العشرين على مثل هذه الادّعاءات، بقوله: «إن الغرب ليس أفضل منّا ماديًا، بل هو أفضل روحيًا كذلك». وكتب رشيد رضا في الفترة نفسها ردّا على قارئ يدعو إلى اعتماد المرجعية الإسلامية وحدها في الإصلاح الدستوري: «لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم هو أصل من أصول ديننا، ونحن قد استفدنا من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكّرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام، ولولا اختلاطنا بالأوربيين لما تنبّهنا إلى هذا الأمر العظيم، وإن كان صريحًا جليّا في القرآن الكريم». هذا التوتر الإشكالي الذي اعترى الفكر النهضوي بالغرب في بداياته، تجدّد منذ السنوات الأخيرة من القرن الماضي بصورة حادة ومربكة. ففي «العلمانية والممانعة الإسلامية، محاورات في النهضة والحداثة»، لعلي العميم 1999 رأى المؤلف أن الفكر الإسلامي الحديث في مضمونه الثقافي، وتعبيره الأيديولوجي والحضاري، هو ردّ فعل معلن ومضمر على حضور الفكر الغربي في حياتنا المعاصرة. وفي الكتاب ذاته، رأى راشد الغنوشي أن ديمقراطية الغرب تلبّست بالإلحاد والفضائح الأخلاقية وبالتسلّط على الشعوب، وأن مشكلات العلمانية والديمقراطية وحرية المرأة مستحدثة ولا مبرر لها داخل الإسلام. وفي «الثقافة العربية في عصر العولمة» 1999، رأى تركي الحمد في حضارة الغرب أرقى ما توصّل إليه الإنسان، فالغرب هو صاحب الحضارة ذات السيادة العالمية في العصر الراهن وإلى أجل غير منظور. لكن هذه الحضارة مكننت كل شيء، حتى تحوّل الإنسان ذاته إلى آلة. وفي «قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر» 1999، ذهب جلال أمين إلى أن دعاة التنوير العرب رفعوا قيم الحداثة الغربية - التسامح، حرية الاعتقاد، إعلاء شأن العقل والعلم - إلى مرتبة القداسة. وهكذا فتح التنويريون العرب الباب لكي تدخل إلينا رياح التغريب حتى كادت تقتلع كل شيء دون أن ينظروا في مفاسد الحضارة الغربية. حقيقة التنوير الغربي أما علي حرب في «حديث النهايات» فقد رأى أن مقولات الديمقراطية والعقلانية والتقدم والحداثة والأنسنة والعلمنة والهوية والتراث وحرية الفرد هي ثمرة التنوير الغربي. وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، ويجب الإفادة منها. والأجدى بنا أن نتخلى عن ممارسة الأستذة على الغرب فيما يتعلق بالشأن الروحاني، فيما نحن ننسى أن إنسانيتنا تولّد الفقر والتفاوت والاستبداد والنزاع والعنف والاختلاف الوحشي. وثمة وجه آخر للغرب شكّل سمة من سمات الرؤية النهضوية إليه منذ بداياتها، يتكرر بشكل وبآخر في السنوات الأولى من هذا القرن، إنه وجه الحرية والإبداع والإيمان بالذات الإنسانية وإمكاناتها المفتوحة على المطلق والمستحيل، وشجاعتها في مواجهة الطبيعة وتحدّياتها، والمجتمع وأعرافه السائدة. ففي «مدخل إلى التنوير الأوربي» 2005، يكرّر هاشم صالح ما كان المراش قد وصف به لحظة وصوله إلى الغرب في كتابه «رحلة باريس» قبل مائة وأربعين عامًا، تتكرّر حتى التعابير إياها. فالمراش وصف مرسيليا بـ«الأرض السعيدة»، وصالح يصف باريس بـ«الأرض الطيبة». أما الأسباب فهي ذاتها في الحالتين: حرية الإنسان الغربي وخلاصه من القيود التي لاتزال تحاصر الإنسان العربي في كل اتجاه. يقول صالح: «كان من حسن حظّي أن وطأت قدماي هذه الأرض الطيبة، المحرّرة من الفقه الظلامي الذي يفتك الآن ببلادي فتكًا ذريعًا». ويقول المراش: «كم تستميل الإنسان هذه الأرض السعيدة التي تمنع غناء غير مسلوب، وأمنًا غير مثلوم، وحرية غير مأسورة، وحياة غير مهددة ولا مذعورة». هذا الموقف أيضًا هو ما كان عبّر عنه طه حسين في كتابه «أديب» إذ وصف الحياة في مصر كالحياة في أعماق الهرم، حيث يحسّ الإنسان بالاختناق، ويخيّل إليه أن نقل ذلك البناء العظيم يكاد يهلكه، بينما الحياة في باريس كالحياة خارج الهرم حيث الهواء الطلق الخفيف، وهو أيضًا ما تحدث عنه ياسين الحافظ إذ رأى أن قوة الفرد الغربي وجرأته وثقته بنفسه إنما مردّها إلى تحرره من الخوف الذي يكبّل الإنسان العربي منذ سنواته الأولى، الخوف من العائلة، من المدرسة، من المجتمع، من التقاليد، من السلطة الاستبدادية الشرقية. الإنسان العربي إذن لا يزال بشكل أو بآخر أسير إشكالية الغرب منذ بدايات النهضة العربية إلى الآن، لم يخرج في علاقته به عن ردّ الفعل، في حين بقي هو الفاعل دائمًا. يتبعه، يرفضه، يوفّق أو يلفّق مع حداثته، وفي كل الحالات الغرب هو المرجعية التي تحدد سلوكه وتطلّعاته ومواقفه. هذا المأزق الإشكالي في علاقتنا بالغرب، ما هو إلا نتيجة عجزنا حتى الآن عن إنتاج الحداثة والمشاركة الفعلية في ثورتها المعرفية والعلمية والسياسية والاجتماعية، حيث لاتزال أنظمتنا السياسية تنتمي في معظمها إلى القرون الوسطى، وعقلنا الفلسفي لم يفلح في تجاوز منظوماتها الفكرية، ومجتمعاتنا لم تتخلّ بعد عن أعرافها البائدة، وإنتاجنا العلمي هو الأضأل حتى بالقياس إلى الدول النامية. الحاجة لمرجعية نقدية إن الإفلات من فضاء المرجعية الغربية، والخلاص من التوتر الإشكالي الذي يحكم علاقتنا بالغرب رهن بإنهاء العرب حال «اللاحسم الحضاري والسياسي»، على حد تعبير محمد جابر الأنصاري، والاتجاه إلى مراجعة الحضارة العالمية الراهنة، وبالتالي، لكل ما تكوّن لدينا من أفكار وأوهام وتخلّف الغرب الأخلاقي وقرب انهيار حضارته المادية وسقوطها، فهذا ممّا بان زيفه وبطلانه منذ طرحه في فكر القرن التاسع عشر إلى الآن، ولكنه مع ذلك ظلّ يتكرّر حتى في الفكر العربي الراهن. ويكفي لإثبات ذلك البطلان أن نقارن بين ما حققه الغرب على صعيد حقوق الإنسان ورفاهه وكرامته، وبين بؤس الإنسان العربي وشقائه على يد أنظمته الاستبدادية التي حرمته حتى من حقوقه الإنسانية الأساسية والطبيعية. وثاني هذه الأوهام وهم تقديس الغرب لأفكاره التنويرية، فهذا ما دحضه عقله الحداثي الذي يقدّم النسبية على الإطلاق، والمراجعة النقدية المستمرة على الاستكانة إلى السائد والنهائي، وليس فكر ما بعد الحداثة إلا نتيجة هذا الموقف المعرفي النقدي. لقد تنبّه التنويريون العرب إلى نواقص الحضارة الغربية، وكان نقدهم لهذه النواقص قاسيًا ولاذعًا، ولم يتعامل أحد من هؤلاء مع القيم الغربية بوصفها «مطلقات أبدية» على ما رأى جلال أمين. وثالث هذه الأوهام، رفض الحضارة الغربية باسم نموذج حضاري بديل لا يمكن تصوّره في كل الأحوال إلا انطلاقًا مما انتهى إليه الغرب من قيم العقلانية والعلمانية والنسبية وحقوق الإنسان الطبيعية وحرياته الأساسية والعقد الاجتماعي المؤسس للمجتمع المدني. إن الخطأ الكبير الذي لم يتنبّه إليه الرافضون لحداثة الغرب هو أن نقد الحداثة لا يمكن أن يتم إلا بالانخراط في الحداثة وإنتاجها. ومادمنا نحن على هامش حركة التاريخ العتيدة، وثورته المعرفية الراهنة، سنظل أسرى الموقف الإشكالي من الغرب والذي ما انفك يطارد الفكر العربي منذ زمن الجبرتي والطهطاوي. فهل سينهي القرن الواحد والعشرون هذا الإشكال التاريخي؟ أم أنه سيؤجّل أيضًا لقرن آخر؟!.
|