جماهير المسرح: نظرية في الإنتاج والاستقبال سوزان بيزنت

يطرح جيرزي جيروتوفسكي سؤالا ويجيب عليه "هل يمكن للمسرح أن يوجد دون جمهور؟ هناك احتياج لمتفرج واحد على الأقل لوجود العرض المسرحي".هذا الحوار الذاتي بين المخرج اللامع ونفسه يلخص استحالة وجود المسرح دون المتفرج.

أزداد الاهتمام - أخيراً - بدراسة العلاقة بين العرض المسرحي والمتفرج الذي يعطي للمسرح ماهيته. فالمتفرج له دور يلعبه شأنه في ذلك شأن الممثل، ولكن هذا الدور يختلف حجماً وطبيعة باختلاف العصور. فهناك اتجاهات مسرحية تحاول جاهدة أن تقدم العرض المسرحي بمعزل عن وجود هذا المتفرج مفاوضة وجود حائط رابع فاصل، كما أن هناك اتجاهات مسرحية تحاول استثارة ملكة النقد لدى المتفرج، وأخرى تشركه في طقس جماعي واجتماعي يكاد يلغي المسافة الجمالية Aethotical Distance بين التمثيل والواقع معرضة بذلك وجود المسرح ذاته للنفي التام.

فعل الفرجة ظاهرة حضارية

ويأتي كتاب سوزان بينيتSusan Bennett "جماهير المسرح: نظرية في الإنتاج والاستقبال" محاولة جديدة لاكتشاف دور المتفرج في المعادلة المسرحية. وتعد هذه أول دراسة من نوعها تركز على فعل الفرجة باعتباره ظاهرة حضارية. وتوضح بينيت من البداية أن دراستها لا تستهدف تأسيس أو تحديد دور معين للمفترج، أو حتى تقديم استراتيجات جديدة لتفسير النص المسرحي، ولكنها تستهدف تقديم شهادة على مدى تحرير المتفرج المعاصر من سلبيات المشاهدة المسرحية. ولهذا السبب فإن الدراسة تركز على التجارب المسرحية غير التقليدية التي ظهرت خلال الثلاثين عاما الماضية - أي تلك التجارب التي تتطلب من متفرجها، أو تتوقع منه، دورا أكثر غيجابية في فعاليات العرض المسرحي. وتتجاوز بينيت الدراسات النقدية السابقة التي تكرر على النص وإن كانت تستفيد من نظريات استجابة القارئ للنصوص الأدبية كما سنوضح - وقد ساعدتها تجربتها في الإخراج المسرحي لطلاب الجامعات، غلى جانب تجربتها في تدريس الأدب الدرامي ونظريات النقد بقسم النقد بجامعة كاليجاري، على بلورة نظريتها.

باستثناء المقدمة والنتائج فإن بينيت تقسم كتابها إلى قسمين رئيسين: الأول عن نظريات قراءة النص ومشاهدة العرض المسرحي، والثاني عن المتفرج والمسرح.

في المقدمة تشرح بينيت الاتجاهات التاريخية السابقة التي تعاملت مع ظاهرة الفرجة وتشير غلى الدراسات المهمة التي سبقتها مثل كتاب دافيد باين David Bain "الممثلون والجمهور" (1977)، الذي يركز على مخاطبة الممثل للمتفرج في لحظة جانبية في سياق الحدث الدرامي، كما تشير إلى كتاب بيتر والكوت Peter Walcot "الدراما الإغريقية في سياقها المسرحي والاجتماعي (1976)، وكتاب مايكل كيربي Michael Kirby "العرض المستقبلي" (1971).

وقد ظهرت الحاجة خلال السنوات العشر الأخيرة إلى نظرية (أو نظريات) للغة خشبة المسرح، ومن هنا ظهر التركيز على العرض المسرحي باعتباره نشاطا اجتماعيا، وكانت النتيجة الحتمية هي بروز "سيما نطيقا" المسرح كقاعدة نظرية مهمة لدراسة الدال والمدلول في العرض المسرحي. إلا أن "السيما نطيقا" لم تقدم حتى الآن نظرية شاملة أو نموذجا كاملا يمكن بواسطته التعامل مع العروض المسرحية، كما أنها لم تتعمق في دراسة دور المتفرج في فعاليات تلك العروض.

نظريات لاستقبال المسرح

تعمد بينيت في الفصل الأول إلى تقديم عرض تاريخي لتطور نظريات استقبال المسرح من خلال علاقة هذه النظريات واستفادتها من نظريات النقد الأدبي في التلقي. ونقطة انطلاق بينيت النقدية في هذا العرض هي اعتمادها على أمال برتولد بريخت الذي أعطى المتفرج الاهتمام الأعلى في نظرياته وتطبيقاته الدرامية. كما تعتمد بينيت أيضا على نظرية استجابة القارئ Reader - Response للنص الأدبي. وعلى هذا تعرج بينيت إلى عرض نظريات نورماند هولاند Norman Holland وستانلي فيش Stanley Fish وولفجانج إبزر Wolfgang Iser وغيرهم. كما أنها تستعين ببضع دارسات سيما نطيقا السينما، لكنها تعي جيدا الفارق الأساسي بين السينما كمنتج مكتمل ثابت والمسرح كمنتج لحظي متغير.

ومن المعروف أن اهتمام بريخت بالمتفرج يظهر في كتابه "الأورجانون الصغير للمسرح" والذي يشير فيه إلى فشل التجارب المسرحية السابقة عليه في خلق علاقة تواصل حية بين الممثل والمتفرج. من هذا المنطلق هاجم بريخت الجماليات القديمة التي كانت في رأية انعكاسا لأيديولوجيات الأنظمة الحاكمة. ولم يك بريخت وحدة في معارضة افتراضات وبداهات الأنظمة الثقافية المسيطرة ولكن وازاه المخرج المسرحي الروسي ميرهولد، والمخرج المسرحي الألماني ايرفين بيسكاتور، والمخرج السينمائي الروسي إيزنشتاين.

بريخت ووعي المتفرج

تبلورت نظرية بريخت فيما عرف بالتغريب، ولعل معناه السياسي أكثر المعاني قدرة على شرحه، فقد أصر بريخت على أن هدف التغريب عنده هو خلق الوعي في المترج بأن الأيديولوجيات والأنظمة السياسية الحاكمة التي يظنها طبيعية تخضع للمنظور التاريخي - أي يمكن تغييرها، كما أن بريخت استبعد، فكرة وجود فعاليات استقبال مسرحي واضحة وثابتة، ولكنه آمن بإمكان تغييرها وفقا للممارسات الثقافية بشكل عام، وعلاقات الإنتاج في المجتمع بشكل خاص.

وتلخص بينيت نظرية "استجابة القارئ" للعمل الأدبي، وهي النظرية التي ظهرت في نهاية الستينيات واستمرت خلال السبعينيات جامعة تحت لوائها العديد من المنهاج التي تدرس استقبال النص الأدبي مثل المنهج الفرويدي والفينومينولوجي (الظاهراتي) عند هوسرل ورومان انجاردن Roman Ingarden. لقد ساعدت هذه النظرية على إعادة النظر في استجابة المتفرج للعرض المسرحي، وعلى الإجابة عن أسئلة كثيرة كانت مفتقدة الإجابات (لماذا ينجح عرض مسرحي في وقت معين ويفشل في سواه ؟). ومن النقاط اللامعة التي تشير إليها بينيت أن الأعمال الأدبية - وبالتالي الأعمال المسرحية - لا تقاس عن طريق الأعمال الأدبية الأخرى فقط ولكنها تقاس أيضاً بتجربة القارئ الاجتماعية تلك القراءة التي تعد في حد ذاتها إنتاجا جديدا للعمل الأدبي.

في السبعينيات، ركزت سيما نطيقا المسرح اهتمامها على الميزانسين، أو الحركة على المسرح، ثم اتسع نطاق اهتماماتها لتضم فعاليات الفرجة المسرحية. فالمتفرج - وفقا لسيما نطيقا العرش المسرحي - قادر على فك شفرات العرض وفقا للشفرات الثقافية والاجتماعية السائدة، كما أن طريقة استقباله تتأثر بطريقة استقبال الآخرين للغرض نفسه. وتعرض بينيت لأهم الدراسات السيما نطيقية التي تحاول التركيز على دور المتفرج فيرال Josette Feral التي تعتمد على تحليلات فرويد Freud ولا كان Lacan وديريدا Derrida وآخرين في الاتجاه الذي عرف باسم ما بعد البنيوية، لكن بالرغم من هذه الدراسات بقي مجال سيما نطيقا المسرح إلى حد بعيد داخل الحدود التي نظر لها امبرتكو إيكو Eco عن العرض المسرحي ذاته. لهذا السبب عمدت بينيت إلى الاستعانة بسيما نطيقا السينما في نظريتها.

في الفصل الثاني من الدراسة تجمع بينيت عمارة الأفكار السابقة والدراسات التي تعرضت لدراسة التجمعات المسرحية غير التقليدية مثل فرقة يتانز دي سولي، كما أنها تستعين ببعض نتائج الدراسات السوسيوثقافية مثل دراسة ريموند ويليامز، والعلاقة بين الثقافة العالمية والثقافة الواطئة في دراسات بيتر ستولييراس Petor stallybrass وألون وايت Alln White.

تتخذ بينيت من تجربة رفض داريو في Dario Fo وفرانكا رامه Franca Rame للاتجاه التقليدي السائد في المسرح الإيطالي وبحثهما عن أماكن عرض بديلة ومتفرج بديل، نقطة انطلاق في تعداد تلك النوعية من التجارب. ففي أمريكا انتشرت مسرحيات "خارج برودواي" و"خارج خارج برودواي".

تعود بينيت إلى تفصيل بعض النقاط التي تحدد نجاح العروض التقليدية مثل قيام الدولة بدعم تذكرة المسرح عن طريق ضرائب الآخرين، وعليه فإن المتفرج على عروض المؤسسات المسرحية الكبرى " يشتري" أيديولوجية دافع الضرائب. ومن العناصر المؤثرة أيضا جغرافية مكان العرض المسرحي، ونوعية النشاط السائد في الحي الذي تقع فيه دار العرض. كما أن الدعاية والإعلان وأساليب التسويق الحديثة تستطيع التأثير على جماهيرية العروض المسرحية وكيفية تلقيها. ومعظم هذه العوامل - كما نعلم - لا تتوافر للفرق التي تقدم مسرحها بشكل غير تقليدي.

على عتبة المسرح

تشير بينيت سريعا إلى العديد من العوالم التي تؤثر على جماهيرية العروض المسرحية. كيف ينتقل المتفرج إلى المسرح؟ هل يمتلك تذكرته مقدما؟ هل لديه وقت للمتعة؟ هل يقدم العرض المسرحي في مكان ينتمي إليه مثل مكان العمل أو النقابة، أم أن المتفرج يشاهد العرض المسرحي في أثناء قيامه بالإجازة؟ نوعية المكان المسرحي؟ مدى توافر برنامج المسرح مطبوعا مما يقدم فرصة للمؤلف - مثلا - بغرض رؤيته وتفسيره لنصه على المتفرج.

بعد هذه الخلفية الطويلة تقدم بينيت نظريتها في إيجاز، وهي نظرية تعتمد على إطارين: الإطار الخارجي الذي يجب أن يأخذ في الاعتبار كل العناصر الثقافية أو الحضارية المحيطة بالعرض المسرحي لأن المسرح بنية ثقافية تستمد مادتها الخام من المجتمع وتستهدف التأثير فيه. أما الإطار الثاني فهو الإطار الداخلي الذي يركز على تجربة الإنتاج المسرحي ذاته في مساحة عرض ذات طبيعة خاصة، وتجربة المتفرج وتفاعله مع العالم الخيالي المقدم على خشبة المسرح.

ويمثل الإطار الخارجي "تاريخ المتفرج" الذي يمكنه من القيام بفك شفرات العرض المسرحي من خلال عناصره المرئية بالطريقة نفسها التي يمكنه بها إدراك علاقات الشخصية الدارمية عن طريق الجنس واللون والعمر والبناء الجسدي للشخصيات. إن العرض المسرحي يمكن أن ينشط أنواعا متباينة من الاستجابات وفقا للظرف الحضاري - المتفرج هو الذي يعطي المعنى للمنتج الثقافي المسمى مسرحا.

ما بعد العرض

كان المتفرج اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد يقوم بتقييم العروض المسرحية بمجرد انتهائها في صورة منح جوائز، وهذا ما يقوم به متفرج العصر الحديث بصورة أو بأخرى مثل نوع التحية ومدتها. كن الفرق غير التقليدية تعطي اهتماما أكبر من هذا بآثار ونتائج وتأثير العرض المسرحي: ففرقة "84:7" الاسكتلندية تكسر الحواجز بين العرض والمتفرج لتقدم نوعا ن الاحتفالات الجمعية التقليدية تضم الممثلين والمتفرجين معا. ما أن فرقة مثل لوجراند ماجيك سيركس تتحدى تنميط دور المتفرج وذلك بالانطلاق إلى ما خلف واقعة العرض المسرحي ذاته.

هذه الفرقة تقسم العرض إلى ما قبل المشهد، ثم المشهد ذاته، وما بعد المشهد المسرحي، وكل منها مصمم على أن يسمح بمشاركة المتفرج فيه.ففي مرحلة ما قبل المشهد تسمح الفرقة للمتفرج بأن يرى الممثل قبل الماكياج والملابس، وبعضهم يقوم ببيع الشطائر ويلعبون بعض الحيل أو الاكروبات لمن يصل من المتفرجين. أما العرض المسرحي فيعتمد على بناء درامي مفتوح النهاية، وهو ليس أكثر من مجموعة من التابلوهات مرتبطة ارتباطا بسيطا بواسطة الراوي، والحدث يتخذ أماكنه أمام وخلف وأعلى المشاهدين، بهذه الطريقة يمكن للفرقة أن تتحكم في زمن العرض المسرحي وفقا لاستجابة المتفرجين الذين يمكنهم التنقل بحرية في أثناء المراحل الثلاث. أما بعد نهاية العرض فتتم دعوة المتفرجين للمشاركة في الرقص والغناء، ثم ينسحب الممثلون تاركين للمتفرجين حرية خلق عرضهم الخاص.

إن الفرق غير التقليدية التي تركز على استنفار طاقات المتفرج الخلاقة تحوله إلى موضوع للدراما ذاتها، فمن خلال مثل هذه التجارب الحاضنة لدور فعال للمتفرج استطاع أوجستو بوال Augusto Boal صياغة جماليات مسرحية تستهدف تحرير المقهورين من المتفرجين / المشاركين في عروضه المسرحية من أسر الجماليات الأرسطية التقليدية والبريختية. ففي نظر بوال تعد الدراما الأرسطية عنصر تفريغ لعواطف المتفرج وطاقاته، ذلك أن الشخصية المسرحية تقوم عوضا عنه بالتفكير والفعل، كما أن الدراما البريختية قد تسبب خلق وعي المتفرج، ولكنها لا تمنحه القدرة على الفعل لأنها تظل أيضاً مع الشخصية الدرامية.

أين يبدأ دور المتفرج في العرض؟

وتشير بينيت إلى تجارب شبيهة منتشرة في أنحاء العالم حاولت، ومازال بعضها يحول، إعطاء المتفرج دورا أكثر فعالية ليس فقط في تحديد إطار العرض المسرحي، بل وفي القيام بفعل اجتماعي يستهدف تغيير الواقع المعيش. تشير بينيت إلى تجارب لويس فالديز في أمريكا، وأوجستو بوال في بيرو والبرازيل، وتيراميا في استراليا، وفرقة "المسرح - الفاعل" في فرنسا، وفرقة اليوم الثامن في بولندا والتي كان يحض عروضها ما يزيد عن 600 ألف متفرج نظرا لموقفها المتعاطف مع منظمة "تضامن".

وتختتم بينيت كتابها بتطبيق شقي نظريتها على بعض مشاهد من مسرحيات إبسن "بيت دمية" وكاريل تشرشل "سحابة تسعة" وتتوصل إلى أن دراسة الدراما يجب أن توجه اهتماماتها نحو دراسة الأطر الثقافية المشتركة بين المتفرجين، وتوقعاتهم المؤسسة ثقافيا، واختياراتهم الجمعية، كل هذا إلى جانب الاهتمام بسيما نطيقا العرض المسرحي ذاته. لكن بينيت لا تغلق الباب خلفها لأنها تؤكد أن سيما نطيقا المسرح، خاصة فيما يتعلق بعلاقة العرض المسرحي بالمتفرجين، مازال أمامها شوط كبير حتى تصل إلى نتائج مرضية.