جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

الكنعاني: شاعر عراقي يُذكي نيران المجامر

لم ينْج شاعر عراقي معاصر من التأثير الطاغي لشعر الجواهري. ذلك الشعر الذي يشبه نهرًا هادرًا يجرف في طريقه كل شيء, ويلقي بفيض من خصوبته وطميه في كل أرض على ضفّتيه, فيمتد من حوله ظل باسق, وخضرة لانهائية, فيها خُصوبة العراق, وخصوبة شاعريته التي شارك في صُنعها قبل الجواهري وبعده: الرصافي والزهاوي والكاظمي والشبيبي وحافظ جميل ومصطفى جمال الدين وخالد الشواف وعدنان الراوي ولميعة عمارة وعاتكة الخزرجي وغيرهم من شعراء الصمود الكبار, مبدعي القصيدة الكلاسيكية بكل الأصالة والاقتدار.

لكن الجواهري من بين هؤلاء جميعا كان يصك القصيدة الكلاسيكية في صورتها الأخيرة المعتمدة. الصورة التي استوعبت كل ما قبلها وهضمته وتمثلته. لقد ذابت في قصيدته وثبات مهيار وتجليات المتنبي وانطلاقات أبي تمام, وإذا بنا أمام نموذج جواهريّ السّمت لا يختلط بغيره, لن يستطيع الفكاك منه أحد, لا الذين حرصوا على متابعة العمود الشعري, ولا الذين انطلقوا إلى أفق الحداثة الشعرية كالبياتي والسياب ونازك وبلند الحيدري وشاذل طاقة وكاظم جواد وغيرهم.

وفي خضم هذا المدّ الشعري الجارف الذي أحدثته قصيدة الجواهري بكل صخبها وعنفوانها واقتحامها للمواقف الساخنة, ولدت شاعرية نعمان ماهر الكنعاني, الذي ولد عام 1919 في مدينة سامراء, لكنه أبى أن يحمل اسمه لقب (السامرائي) لأنه في رأيه لقب انتهبه كلّ مَن ينتسب إلى سامراء, وهو لا يريد لذاته - التي يراها مختلفة ومتفرّدة - أن تشارك في تسمية شائعة, فاختار لنفسه لقب (الكنعاني) عودة إلى الأصول البعيدة, وحرصًا على استقلالية التسمية القائمة على الاختيار الواعي وشموخ التفرّد.

تخرج نعمان ماهر الكنعاني في الكلية العسكرية, وعاش الواقع العراقي المضطرب والمتقلّب - عسكريًا وسياسيًا - حتى انتهى به الأمر إلى اللجوء إلى سوريا إثر انحراف ثورة الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958 وظل فيها حتى قيام ثورة الثامن من شباط (فبراير) 1963, فعاد إلى العراق وتقلّد مناصب عدة في السلك المدني كان آخرها وكيل وزارة الثقافة والإعلام في منتصف الستينيات قبل أن يعتزل الحياة الوظيفية ويتفرّغ للشعر والتأليف الأدبي والترجمة, مؤثرا الابتعاد وعدم المشاركة في واقع كان من الواضح أنه يؤدي بالعراق إلى كارثة.

يتمثل المشروع الشعري لنعمان ماهر في دواوين شعرية عدة هي: في يقظة الوجدان 1943, المعازف 1950, لهب في دجلة 1960, من شعري 1966, المزاهر 1981, المجامر 1983, المشاعل 1987, وله من المؤلفات الأدبية والتراجم: شعراء الواحدة, شاعرية أبي فراس, الشعر في ركاب الحرب, ومن القصص الإنجليزي (ترجمة 1955).

في لغة الكنعاني الشعرية خلاصة ما في الشعر العراقي قبله وفي زمانه من فحولة تليق بعسكريته وفروسيته ورقة ينبض بها وجدانه الشعري المرهف. وفي هذا الجمع بين الفحولة والرقة, أو بين الشموخ في مواقف الكبرياء والوطنية والانكسار في مقام الوجد والهيام ما يذكّرنا بفحول الشعر العربي القديم, وبشعراء من طراز أبي فراس الحمداني ومحمود سامي البارودي, هو مثلهما ربّ سيف وقلم, يملك أن يصول ويجول, وأن يضفر من النسيج الشعري المحكم نسيجه الخاص, لا تنقصه قوة ولا عرامة, ولا تفارقه جلوة العاشق ورقة إشاراته ووقْد لواعجه.

في قصيدة عنوانها (أنتِ ليل) يقول نعمان ماهر الكنعاني:

لا هواكِ الهوى ولا ذكراهُ أخطأ القلب إذا دعاك هواهُ
والجمال الذي أجتَلتْه عيوني صار لا ما كان الغرام يراهُ
وليالي الأحلام لم يبْق منها ما تريد الحديث فيه الشفاهُ
لست أخشى الظما وللكأس عندي غير لون الشراب في سُقياهُ
نشْوتي أن تكون للقرب شدْوا وهي في البعد مُسرفاً نجواهُ
وكَدي باسم الصباح رواءٌ وإذا أثقل المساءُ سناهُ
ومن الشوق هاتفاً شفتاهُ ومن العتبْ ما تنمُّ الآهُ
نشوتي لا التي حسبْتِ كؤوس هي في الحب سوْرةٌ ورَفاهُ

*****

أنا غرٌ كما زعمْتِ ولكن قلّما طال من فؤادي عماهُ
يستشفّ الجمال قلبي ويهوى من معاني الجمال ما أخفاهُ
أنا غِرٌّ وأيُّ غِرٍّ فعذرا عن خيالٍ أفاق من رؤياهُ
أنتِ في العين كلُّ ما تسألُ العين عيونٌ وطلعة وشفاهُ
أنتِ في النفس كلٌ ما تشتهي النفسُ فَتاءٌ يضوع منه صباهُ
وحديثٌ إذا تأوّد قال السمعُ ياللوصال ما أغناهُ
ودلالٌ يظنّه الحبّ طفلاً قبلما يبلغ الحبيب مداهُ
وحياء يهابُه المكر حتى تخلعيه فيستباح حماهُ
أنتِ ليل أسراره واثقاتٌ بسكوتِ النجوم عمّا تراهُ
وأنا من خَبرْتِ يملكه الحبُّ ولكن إذا التوى يخشاهُ
وأنا مَنْ صحبْتِ عهدا فلما أنكَر السّتر قلتِ كان سواهُ
وأنا من وهبتِ ليْلاً وكأْساً غير قلبٍ يخفى عليَّ مُناهُ
وأنا من ظننْتِ أسهل مما أنا أدري خفْق الهوى ولُغاهُ
أحبيبانِ نحن؟ كيف يرانا دربنا والمسير شتّى خطاهُ
لو كشفْنا أسرارنا لاعترفْنا أننا في اختلافنا أشباهُ
ليت حُبّاً قلنابه كان حبّا لم تخادع ألفاظُه معناهُ

هذا شعر يدور في المسافة ما بين القصيدة العمودية في كلاسيكيتها المحدثة والقصيدة الرومانسية في ظلالها وإيحاءاتها, شعر فيه من نسيج المدرسة العراقية التي استصفى الجواهري أفضل ما فيها, وفيه من نسيج الحركة الرومانسية التي تفجّرت نماذجها منذ ثلاثينيات القرن الماضي, لذا فإن نسائمه التي تراوحنا ريّاها تنمّ كثيرا عن أعاصير مكتومة, وسمْته الهادئ السمْح يخفى ثورة البراكين المحتدمة في داخله. ومن السهْل والجبل, والنسائم والأعاصير, تتشكّل الصيغة الشعرية لنعمان ماهر الكنعاني, محققّة مقولة التلازم العجيب بين الشعر والعراق - التي قال بها الدكتور علي عباس علوان في تقديمه لمختارات من الشعر العراقي في القرن العشرين - وكأن العراق والشعر وُلدا من رحم واحدة, يرتبطان معًا في ذاكرة المثقف العربي - وربما غير العربي - في أقطاره وانتقالاته حيثما كان وأينما وُجد. ويتساءل الدكتور علوان: أهو قدر محتّم أم لعنة تاريخيّة, أن يتجوهر الرماد شعرا في العراق, منذ أن كتب ذلك الشاعر السومري المجهول أول سطور ملحمة (جلجامش) وجاء من بعده سدنة معابد آشور وأَكّد, ليتموا الملحمة ويقدّموها زهرة الإنسانية الأولى التي لا تعرف الذبول, وأغنية البشرية الأولى?

لقد كانت وعود الشعر وبروقه, على مدى حقب التاريخ, تهيئ لسقوط أمطار الشعر المتدفقة, منذ بدايات الإنسان, ومازالت, وسوف تستمر حتى يرث الله الأرض ومَن عليها. وإذا كانت الأمة العربية - كما يقال وكما رسخ في الأذهان, أمة شاعرة, فالعراق - بهذا المعنى أو ذاك - هو جحيم الشعر وفردوسه, ولا أعراف بين الاثنين. ولذلك لم يكن عبدالوهاب البياتي - رحمه الله - مبالغا حين قال في (ينابيع الشمس): (وهكذا كان الأمر عندما أعود إلى مسار التحوّلات, فأحسّ بالحزن الشديد, ذلك أن رعود الشعر في باطن الأرض في العراق لاتزال تدّخر رعودا شعرية كثيرة, وحياة الشاعر لا تكفي أن تكون مِسْبرا وحاضنة لهذا الرعد. وإنني أتمنى وأحلم أن يظل العراق - كما أؤمن - يحمل مشعل هذه التحوّلات التي وهبت الشعر العربي مذاقه الحقيقي. وأقولها دون إقليمية: إن العراق هو منجم الذهب الشعري في العالم لا العالم العربي فحسب, ومن يشكّ بذلك فليعاود قراءة ملحمة جلجامش التي ينطلق منها هذا الوعد بالشعر).

ومن أجمل تساؤلات الدكتور علوان قوله: (هل العراقي شاعر بطبعه وفطرته? أعني في رؤيته للعالم, وفي الارتفاع من خشونة الواقع وغلاظته, إلى سموّ الحلم وجماليات المستقبل?

أم أن في أعماق الإنسان العراقي احتدامًا وتشابكًا وعنفًا وجمالاً وحبا للوجود والحياة, لا يتشكّل ولا يتنفس ولا يتبلور ولا يحلو إلا في الشعر: مبدعًا ومتلقيًا, منشدًا وسامعًا وقارئًا وخالقًا للقصيدة أيّا كان شكلها وكيف كانت صورتها وبناؤها).

من المؤكد أن هذا الكلام يمسّ شاعرية (الكنعاني) في الصميم ولعله يفسّرها أيضا, كما يمسّ شاعرية جيله من شعراء القصيدة الكلاسيكية ويفسّرها. وهي الشاعرية التي تتألق من خلال نموذج ثانٍ لشاعرنا عنوانه (رسيس) - والرسيس هو بدْءُ الأمر - يقول فيه:

الهوى جف وغاضت ذكريات ما الذي تسأل عنه النظراتُ
وانقضى عمرٌ من الحبِّ وما ناجت الأشواق إلا الهمساتُ
نلتقي والعين بالعين وفي خافقينا من هوانا خفقاتُ
ثم نمضي لطريقنا على أمل اللقيا وقد باحت سماتُ
ربما طبنا به حباً على حذرٍ إذا أعجزتْهُ الخلواتُ
ربما كان هوانا حائراً بحثت عن ظنونٌ وأناةُ
ربما شئناه حُلْماً قانعاً وأفقْنا فإذا الحلْمُ شكاةُ
ربما لا لست أدري فالذي قد أضعنا أتعبته اللفتاتُ
وبقاياه رسيسٌ كلما لُحْتِ لاحت للأماني ومضاتُ
وتلاشت حين لم تلق سوى عارضِ تكذب فيه البارقاتُ

*****

لستُ أدعوكِ للقيا وهوىً هي نجوى سألتها الهمساتُ
هي ممن كابدته قبلنا وشكته حين أعيا صبواتُ
هي مما سوف تلقى بعدنا مثلما لاقى هوانا لهفاتُ
قد يهزّ الشوقَ يوما بارقٌ بعدما جفّ وأعيتْهُ الشّقاتُ
وإذا اعتاد على البعد هوىً كان جرحاً ليس تعنيه الأُساةُ
ليتنا لم يجر فيما بيننا نظرٌ قد رصدته النظراتُ
ليتنا لم نسمع الخفق الذي طمعت بالصبر منه الزفراتُ
ليتنا كم ليتنا كان لها بين قلبينا نداءٌ والتفاتُ

*****

الهوى جف فلا تنتظري أرجا ترشف منه النسماتُ
واصرفيها نظرةً ظامئةً بينها والكأس ملأى خطواتُ

في هذا النموذج الثاني من شعر (الكنعاني) تتفجّر روح رومانسية عارمة, ويسيطر معجم الشعراء الرومانسيين كما عرفناه عند ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل والهمشري في مصر, والشابي في تونس والتيجاني بشير في السودان وغيرهم. بل وفي شعر من حمل شعرهم إرهاصات رومانسية, وأقباسا وجدانية, وإن لم يُتح لهم أن يُصنّفوا ضمن شعراء هذا التيار, من أمثال الأخطل الصغير (بشارة الخوري) وأمين نخلة في لبنان وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل في سوريا, والجواهري وحافظ جميل وخالد الشواف في العراق.

بل إن المتتبّعين لعِرْق الرومانسية في الشعر العربي الحديث يجدون بواكيرها في نماذج للبارودي وشوقي وإسماعيل صبري سبقت الإعلان عن جماعة أبولو بزمان طويل. بل إن ناقدًا كبيرًا هو الدكتور عبدالقادر القط - الذي كان يؤثر تسمية هذا التيار الشعري بالاتجاه الوجداني - يعود به إلى أزمنة بعيدة في مسار الشعر العربي.

نختتم جمال العربية في شعر نعمان ماهر الكنعاني بمقطوعة من ديوان (المجامر) يقول فيها:

ما نسيتُ الهوى وما عهد أنسى غير أن الجراح أدمين نفسي
درَّ درُّ الهوى فكم طاب سقيا وظلالا من غير روحٍ وكأسِ
في الرمال الظماء تنبُتُ زهراً وبموج التيار يرسو ويُرسي
في العيون المسهدات طيوفٌ ضارعات من الأسى للتأسيّ
كم جميل وكم بثينة ضاعا في رجاء مما يُبيحُ ويأْسِ
ما نسيتُ الهوى وعطر الليالي في الهوى والزمان أيامُ عُرْسِ
ذهبت تلكمُ الليالي سلامٌ آه لو ينفعُ السلام ويُنْسي!

ولعلها تضيف قسمة إلى قسمات هذه الشاعرية التي تمتَح من ماء الشاعرية في العراق, وتكتوي بلهيب دجلة, ونيران المجامر, حاملة مشاعلها في موكب الشعراء الذين أخلصوا - حياتهم - للعمود الشعري وللنموذج الكلاسيكي ينفحون فيه من حُمّيا إبداعهم روحا جديدة, وأنفاسا حارّة تجدّد من حياته, وقدرته على البقاء والاستمرار. في حوار وتفاعل مع سائر الصيغ والنماذج الشعرية, يضيف إليها ويأخذ عنها, ويجد في البيئة العراقية - صاحبة الذوق التليد - مشروعيته ومبرّر وجوده, في زمنٍ تتطاير فيه الشرعيات مزقا, ويتلاشى فيه الوجود بددا!.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات