أيام الضحك والنكد مختار السويفي

يتضمن هذا الكتاب خمسة وأربعين موضوعا من الموضوعات التي يمكن وضعها تحت تصنيف " الأدب الساخر ".. وبالرغم من شهرة مؤلفه " علي سالم " كمؤلف درامي كتب العديد من المسرحيات الكوميدية، إلا أنه اشتهر أيضا بكتابة المقالة الساخرة التي تعكس قدرته على النقد اللاذع والسخرية المريرة في أغلب الأحيان.

في موضوع بعنوان "شكسبير يكتب للتليفزيون العربي" يشطح خيال المؤلف في اللا معقول ليعرض لنا موضوعا شديد الواقعية!.. فهو يتصور أنه سمع جرس الباب يدق حين كان يتأهب للنوم، فقام ليرى من الطارق، ففوجي بأن الطارق كان الشاعر والمؤلف الدرامي الشهير وليم شكسبير بشحمه ولحمه ولحيته الأنيقة ونظراته الهادئة.

شكسبير في ضيافة المؤلف

كان متعبا بسبب الرحلة الطويلة التي قطعها من عصره البعيد حتى وصل إلى بيت المؤلف.. وإكراما لشكسبير ولشخصيته الفذة دعاه المؤلف إلى الدخول، فجلست متهالكا على مقعد مريح، وأعد له المؤلف عشاء خفيفا طلب شكسبير بعده فنجانا من القهوة بدون سكر.

بالرغم من أن بعض مؤرخي المسرح يعتقدون أنه كان يشرب القهوة بسكر خفيف.

ودار حوار ممتع بين شكسبير والمؤلف، نفهم منه أن شكسبير العظيم مستاء مما وصل إليه حال المسرح في هذه الأيام حتى في إنجلترا نفسها.. وقال في النهاية:

- لهذا جئت إليك لتقوم بتعريفي بأحد "المنتجين". سوف أكتب مسلسلات لمحطات التليفزيون العربية.. فكرت في ذلك بعد أن عرفت أخيراً أن أحد أساتذتكم تبنى نظرية مفادها أنني من أصل عربي.. وأن اسمي الحقيقي هو "الشيخ زبير".. ومن ناحيتي أنا أرحب بأن أكون من أصل عربي.. لأن كلمة "عربي" تعني الشهامة والنبل والشجاعة والجرأة العقلية والشعر.. ولا تنس أني شاعر.. كما أن اسم الشيخ زبير أفضل بكثير من شكسبير.. كل ما أطلبه هو أن ترحب محطات التليفزيون العربية بإنتاجي! حاول المؤلف أن يثني شكسبير عن عزمه، ولكن شكسبير أصر على طلبه.. واضطر المؤلف أن يتصل بأحد المنتجين الطموحين تليفونيا ليخبره بأنه سيمر عليه في المساء ومعه شكسبير، أكبر مؤلف درامي في الدنيا وفي التاريخ.

وعندما سمع المنتج هذا الخبر، كاد أن يصاب بالسكتة القلبية من فرط فرحته، فلقد كان المسكين يبحث عن نصوص تليفزيونية جديدة منذ سنوات طويلة.

الأسطى..لير!

وفي اللقاء الذي تم بين شكسبير والمنتج، يبلغ "علي سالم" أعلى مراحل السخرية من واقع الحوار الذي دار بين الاثنين.. فعندما اقترح شكسبير أن يحول مسرحية "الملك لير" إلى حلقات تليفزيونية باعتبارها نوعا من لدراما العائلية.. وافق المنتج في البداية، ولكنه اقترح - خوفا من الرقابة - أن يغير شكسبير اسم المسلسل إلى "الأستاذ لير.. أو لير أفندي.. أو السيد لير.. أو الأسطى لير.." أو إلى غير ذلك من الأسماء المقبولة لدى السلطات الرقابية.

وبطبيعة الحال فقد رفض شكسبير أن يغير اسم لرواية فهو اسم مشهور في العالم كله.. ومع ذلك فقد قدم اقتراحا آخر وهو أن يقوم بتحويل مسرحية "ماكبث" إلى حلقات مسلسلة.. ولكن المنتج اعترض على ذلك بأن هذه المسرحية تعتبر مرفوضة رقابيا.. على الأقل لأنها تبدأ بمشهد الساحرات.. السحر والتنجيم ممنوعان في التليفزيون.. ثم إن لمسرحية مليئة بالمذابح.

لم ييأس شكسبير واقترح مسرحية "هاملت".. فعلق المنتج على الفور: أليست هي قصة الشاب الذي ينتقم من عمه لأنه قتل أباه وتزوج أمه؟.. هذه الأشياء لا يمكن عرضها على الناس لأنها مرفوضة رقابيا.

وأخذ المنتج يشرح لشكسبير بعض التعديلات التي تجعل من مسرحية "هاملت" مسلسلا تليفزيونيا ناجحا ومقبولا لدى الرقابة.. واقترح أن تصبح أم هاملت خالته.. وأن يصبح عم هاملت قريبا له من بعيد أو صديقا له أو شريكا لوالده في شركة استيراد وتصدير.. واقترح أن تكون "أوفيليا" حبيبة هاملت سكرتيرة لابن خالة عمة هاملت.. ويا حبذا لو كانت مخطوبة لوالده أو لخاله أو لابن عمه مدير شركة أخرى منافسة.

ويواصل المنتج مقترحاته بحذف مشهد الشبح الذي يظهر في بداية المسرحية لأن ظهور الأشباح ممنوع في التليفزيون.. وإذا كان الغرض من ظهور الشبح هو إبلاغ هاملت بأن أباه قد قتل مسموما، فمن الأفضل أن يعرف هاملت هذا عن طريق رسالة تصله بالتلكس، أو يتلقى خطابا من مجهول، أو مكالمة تليفونية.. وبذلك لن تجد الرقابة فرصة تمسكها على حلقات المسلسل.

عندئذ انفجر شكسبير غاضبا وصاح قائلا:

- الأغبياء فقط هم القادرون على كتابة هذا النوع من اللافن.. والأغبياء هم الذين تمتعهم مشاهدته.. ومن الأفضل أن أعود إلى قبري!

ثم نظر شكسبير إلى المؤلف وقال:

- أنصحك يا صديقي المؤلف الدرامي العربي أن تبحث لك عن قبر أنت الآخر، تدفن نفسك فيه حيا، بدلا من أن تحيا ميتا..!

كيف تصبح مؤلفا رديئا؟

بمثل هذا اللون من الكتابة الفكاهية يتمكن علي سالم من توظيف خياله الواسع وقدرته على أن يختار فكرة أو أفكارا غريبة يبني عليها الوقائع والأحداث والشخصيات التي تتضمنها مسرحياته أو مقالاته، وذلك دون أن تكون هذه الفكرة أو تلك الأفكار الغريبة هي الهدف المقصود من المسرحية التي يؤلفها أو من المقال الذي يكتبه، ولكنه يستعين بها لتوضيح فكرته هو وقصده هو، واتجاهه إلى النقد والسخرية من شيء آخر محدد قد يكون اقتصاديا أو أدبيا أو سياسيا أو اجتماعيا أو سلوكا من السلوكيات المرفوضة، فردية كانت أو جماعية.

وعلى سبيل المثال، فتحت عنوان "كيف تصبح مؤلفا رديئا؟" أقام على سالم مقالا فكاهيا على أساس افتراض ساخر يقول فيه: "أن تكون مؤلفا ممتازاً أو حتى جيدا، فهذا أمر يجلب لك المتاعب والآلام، ويجر عليك الفقر أيضا.. المخرجون سوف يهربون من أعمالك، والمنتجون سوف يفرون منك فرارهم من الجرب، لأنهم يعلمون جيدا أنه ولا محطة تليفزيونية واحدة في المنطقة العربية كلها ستشتريها.. فالمؤلف الممتاز جاد بطبعه، لذلك سوف يعالج في عمله الفني مشكلة حقيقية تهم بلده وناسه وأهله.. ترى.. من هو المسئول الذي يغامر بمنصبه ويسمح بعرض عمل فني يناقش مشكلة حقيقية؟.. بالطبع لا أحد!".

وعلى هذا الأساس الافتراضي، يسدي الكاتب نصائحه لكل من يريد التأليف أو كل من يريد أن يمتهن مهنة التأليف، وذلك لكي يصبح مؤلفا رديئا ناجحا ومقبولا في الوقت نفسه من المخرجين والمنتجين ومن جميع المسئولين بالإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما والصحافة.

ولكي يضمن المؤلف النجاح والانتشار، فإن عليه أن يكره الدنيا والناس، ويكره كل ما هو جميل في هذه - الحياة، وذلك لكي يسهل عليه أن يكتب أعمالا سخيفة تعذب الناس وتفقدهم استمتاعهم بالحياة.

ويمكن للمؤلف أن يحصل على أفكاره السخيفة بسهولة شديدة، إذا اعتمد على الحكايات المسفة المتكررة.. والحكايات التي يمكن أن يسمعها في المقاهي.. والحكايات التي تنشر في أبواب المشاكل العاطفية وصفحات الحوادث في الصحف والمجلات. والحكايات التي سبق عرضها في الأفلام والمسرحيات العربية والأجنبية مع التحوير فيها قليلا حتى تبدو كالجديدة.

وعلى المؤلف لكي يصبح رديئا ومحبوبا أن يجيد فن مط الحوار القائم على الكلام الفارغ والثرثرة والهيافة.. وأن يبتعد عن أي حدث مهم، وأن يمسك بشدة في الأحداث الفرعية، وأن يستغرق فيها ويغرق المشاهدين معه في الكلام والرغي.. فما يمكن أن يقال في جملة واحدة يمكن أن يقال أيضا في مائة جملة.. لأن الرغي هو سكة السلامة، وهو الذي يضيع وقت المشاهدين ويقتله، ولكنه سيتحول في النهاية إلى وقت محسوب بالعملة الصعبة عند بيع المسلسل التليفزيوني إلى محطات التليفزيون في البلاد الأخرى.

وهكذا قد تبدو كتابات علي سالم مثل الكتابات العبثية تقوم في الأصل على افتراضات وهمية أو خيالية، ولكنها مع ذلك وفي حقيقة الأمر كتابات واقعية وشديدة التأثير والصدق في عرض الموضوع الذي تحتويه بطريقة فكاهية ساخرة، وهي طريقة أكثر إشراقا وتأثيرا من عرض الموضوع نفسه بطريقة جادة جامدة.

موهوبون في النكد..

وبهذا المنهج في المعالجة، كتب المؤلف الموضوعات الأخرى التي يتضمنها كتابه "أيام الضحك والنكد" وهو أمر واضح تماما حتى في طريقة اختيار العناوين لتلك الموضوعات.. فنقرأ مثلا موضوعات تحت عناوين مثل: مندبة القمر الصناعي.. الظاهرة المسرحية في عمليات النصب المبدعة.. ساعات الرعب الجميل.. العبقرية بالفرامل.. حرب الياميش العظمى.. سفاح التليفونات.. لصوصيانس كلينك.. الدخول في الأكياس.. كلني يا مولاي.. إلخ.

وفي موضوع بعنوان "النكد الأزلي" يبني الكاتب افتراضه على أساس من عدم تصوره أن "المؤلفين" بكل قدراتهم يتمتعون بكل تلك القدرة الإبداعية على كل ذلك "النكد" الذي يصبونه علينا من خلال شاشة التليفزيون. وبهذا الافتراض يتصور الكاتب أن هناك "إدارة سرية للنكد الأزلي" تحول إليها النصوص الدرامية بعد موافقة لجنتي النصوص والرقابة في مبنى التليفزيون.. وهذه الإدارة لا توافق على المسلسلات إلا بعد أن تتأكد تماما من أنها تخلو من أي عذوبة، وأنها مليئة بكل أنواع الإحباط والتعاسة والنكد.. بشرط أن يكون النكد من النوع الأزلي وليس نكدا عاديا.

ولكي يفرق لنا الكاتب بين هذين النوعين من أنواع النكد، فإنه يتصور حوار، دار بين أحد مؤلفي مسلسلات النكد وبين أحد المسئولين في تلك الإدارة السرية للنكد الأزلي، وهو حوار شديد السخرية بمسلسلات النكد التليفزيونية، وبمؤلفيها الذين يشيعون النكد في قلوب الناس!