مدن وعمائر: القاهرة وباريس: التنسيق الحضاري بين مدينتين

مدن وعمائر: القاهرة وباريس: التنسيق الحضاري بين مدينتين

تتعرض هذه المقالة للعلاقة القائمة بين باريس التي تم تطويرها في منتصف القرن التاسع عشر على يد البارون أوسمان في عهد الإمبراطور نابليون الثالث وقاهرة وسط المدينة أو القاهرة الإسماعيلية التي أنشأها الخديو إسماعيل باشا على نفس النسق, وفي نفس الفترة, والمسار الحضاري الذي مرت به المدينتان بهدف وضع رؤية لكيفية الحفاظ على القاهرة (وسط المدينة).

إن هناك علاقة عمرانية وتاريخية خاصة تربط بين باريس وقاهرة القرن التاسع عشر, فبعد أن قامت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر, مرت فرنسا وخاصة باريس بصفتها العاصمة بفترة من عدم الاستقرار والحروب والاضطرابات والثورات, وضح معها عند وصول الإمبراطور نابليون الثالث للحكم في عام 1852 أي بعد ثورة 2 فبراير 1848, أن باريس بشوارعها الصغيرة والملتوية في حاجة لإقامة نظام دولة وأمن مستتب وذلك نظراً لسهولة إقامة المتاريس في مثل هذه الشوارع الضيقة. كما أن هذه الفترة كانت بصفة عامة فترة نهضة عمرانية في أوربا لتجميل العواصم المختلفة مثل ما حدث في فيينا عاصمة النمسا وبروكسل عاصمة بلجيكا ولشبونة عاصمة البرتغال, لذا كان مع بدء الجمهورية الثانية في فرنسا تحت إمرة نابليون الثالث أن بدأت حملة لتجديد وإعادة تخطيط باريس وإنشاء الشوارع العريضة (البولفارات), فقام نابليون الثالث بتعيين البارون أوسمان Le Baron Haussmann عمدة لمدينة باريس في الفترة من عام 1853 حتى عام 1870, أي على مدى سبعة عشر عاماً, ويعزى إلى (البارون أوسمان) تخطيط باريس بصفة عامة على ما نراها عليه اليوم, وما تم من وضع قوانين تنظيمية تصل إلى حد توصيف نظام البلكونات, بحيث تكون بعرض المبنى على مستوى الطابقين الثاني والخامس من كل عمارة, في حين تبقى الطوابق الأخرى ببلكونات صغيرة منفصلة.

وتشتهر باريس البارون أوسمان بصفة عامة بالتخطيط الدائري Circular بمفهوم ميادين تنطلق منها العديد من الشوارع وشوارع دائرية حول الميدان, وأبرز مثال على ذلك ميدان شارل ديجول- إيتوال, الذي يوجد به قوس النصر, ويطلق عليه اسم إيتوال Etoile, أي النجمة لأنه يشبه النجمة التي ينطلق منها الإشعاع في كل اتجاه, فمن هذا الميدان ينطلق إثنا عشر شارعاً عريضاً (بولفار), كما اهتم البارون أوسمان كذلك بالمتنزهات الصغيرة داخل المدينة وأبرزها حديقة لوكسمبورج Luxembourg والمتنزهات المتسعة على أطراف المدينة وأبرزها غابة بولونيا.

وكل من يزور باريس يلاحظ وجه الشبه بينها وبين تخطيط وسط المدينة في القاهرة أو قاهرة إسماعيل باشا, حيث الميادين التي تشع منها الشوارع مثل ميدان طلعت حرب (سليمان باشا سابقاً) وميدان مصطفى كامل (عماد الدين سابقاً) وكذلك تنسيق العمارات القائمة في هذه المنطقة, ووجود حديقة الأزبكية في وسط المدينة وحديقتا الأورمان والحيوان في أطراف المدينة.

وكثر الكلام عمن صمم منطقة وسط المدينة بالقاهرة, هل هو البارون أوسمان مخطط باريس أم لا, فما هي حقيقة هذا الأمر?

تأثير فرنسي

الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال هي (نعم) و (لا) في نفس الوقت, فالذي حدث أن الخديو إسماعيل عندما تولى الحكم في عام 1863, كانت الدولة مشغولة بصفة خاصة بمسألة إتمام مشروع حفر قناة السويس التي كان مقرراً أن يتم افتتاحها في عام 1869, ونحن نعلم كيف أنه منذ أن تولى محمد علي الحكم, أصبح هناك تأثير فرنسي حضاري في مصر من خلال البعثات المصرية إلى فرنسا وكذلك اشتغال العديد من الفنيين الفرنسيين في الجوانب المختلفة من الأنشطة الحكومية, ولما كان الخديو إسماعيل على دراية بما يدور في عواصم أوربا من إعادة تخطيط لعواصمها في حين أن القاهرة أصبحت مدينة ليست على نفس المستوى خاصة وأنها على أبواب احتفالات افتتاح قناة السويس وذلك بالمقارنة بالعواصم الأخرى, بل وبالمقارنة بمدينة الإسكندرية التي بدأ تحديثها في عصر محمد علي بعد امتداد ترعة المحمودية إليها, وخط السكة الحديد, وكذلك استيطان الجاليات الأجنبية من فرنسية وبريطانية ويونانية بها, ومن ثم فإن الخديو إسماعيل قام برحلة لزيارة باريس في عام 1867 وذلك في طريقه إلى إسطنبول لحضور المعرض الدولي المقام في باريس, والذي شاركت فيه مصر لأول مرة. وكانت هذه الزيارة قبل عامين من افتتاح قناة السويس في عام 1869. ولما كانت مصر تستعد لهذه الاحتفالات وتستعد لاستقبال شخصيات عالمية مرموقة, فقد برزت فكرة أن القاهرة ينقصها, بجانب التخطيط العمراني الحديث, وجود قصور مناسبة لنزل هذه الشخصيات, ولم يكن بها وسائل الترفيه على غرار ما يوجد في دول أوربا من مسارح ودور أوبرا ومقاه كبيرة وأرض سبق خيل وخلافه, ولذا, فقد انتهز الخديو إسماعيل فرصة زيارته لباريس ومشاهدة ما يجري فيها من تحديث, واجتمع (بالبارون أوسمان) الذي اقترح عليه الاستعانة بالعديد من المهندسين ومصممي الحدائق والمتنزهات العامة الفرنسيين من الذين شاركوا في تخطيط باريس, وقد تم بالفعل التعاقد مع كل من السيد باريه ديشام Barillet Deschamps ليكون مديراً عاماً للمتنزهات والحدائق بالقاهرة, والسيد جران P.Grand ليكون مسئولاً عن البنية التحتية بالقاهرة, وذلك تحت إدارة علي باشا مبارك الذي تم تعيينه في عام 1868 وزيراً للأشغال العامة والأوقاف.

ومن هنا, يتضح أن الخديو إسماعيل استعان بالبارون أوسمان في استشارات عامة واقتراح أسماء فنيين فرنسيين يعملون بالقاهرة دون أن ينشغل هو شخصياً بالاشتراك في هذا المشروع. ولذا, فليس من الغريب أن تخرج قاهرة إسماعيل باشا والتي تمتد من شارع الخليج المصري (بورسعيد حالياً) حتى شاطئ النيل على غرار باريس البارون أوسمان من حيث التخطيط والتجميل والقوانين المعمارية, أي أن باريس والقاهرة تم تنسيقهما عمرانياً في نفس العصر تقريباً.

إلا أننا لو تتبعنا ما طرأ على باريس من تغييرات عمرانية منذ تلك الفترة حتى الآن وما طرأ على القاهرة, فسنجد أن المدينتين سارتا في اتجاهين مختلفين.

مظاهر التنسيق

أصبحت باريس الآن من أكثر عواصم العالم مزاراً للسياح حيث بلغ عدد السائحين القادمين لفرنسا ما يزيد على 60 مليون سائح معظمهم يزورون باريس.

والعامل الرئيسي في ذلك, بجانب الثراء الثقافي لهذه المدينة هو الحفاظ على تراثها المعماري على مر الزمن, بل وتحسينه وتجميله خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد قال أندريه مارلو, عندما كان وزيراً للثقافة في عهد الرئيس شارل ديجول في الستينيات, (فلنزل الغبار عن باريس حتى تعود باريس مدينة جميلة), ومنذ ذلك العصر وباريس تشهد عصراً جديداً من التجديدات والتغييرات الحضارية على مر العصور على يد المسئولين على كل المستويات. وقد كان لي حظ أن أكون دارساً في باريس في الستينيات للحصول على الدكتوراه, ثم زائراً لها على فترات متقطعة, ثم مقيماً بها مرة أخرى في التسعينيات مستشاراً ثقافياً أولاً, ثم مندوباً دائماً لمصر باليونسكو, مما أتاح لي الفرصة أن أستشعر عن كثب ما يتم في باريـس على مدى الثلاثين سنة الأخيرة من تغييرات, فباريس أصبحت أجمل وأجمل, ولم يصبها من العشوائية إلا ما ندر, ولم تزد مشاكل باريس في التسعينيات عنها في الستينيات.

وفيما يلي نستعرض بعض الأمثلة لعناصر التنسيق العمراني التي نشاهدها في باريس:

أولاً: إزالة الغبار عن المباني

كما ذكرنا سابقاً, فمنذ عهد الجنرال ديجول, صدر قانون في باريس يحتم على أصحاب العقارات إزالة الغبار وعوادم السيارات وترميم واجهات العمارات كل سبعة إلى عشرة أعوام, وأعتقد أن طبيعة المباني في باريس والواجهات بها تسهل هذه العملية, فهي عادة من الأحجار الكبيرة المرصصة والتي يتم تنظيفها بنفخها بسيل من الرمال الناعمة التي تعمل كالسنفرة في إزالة هذا الغبار, وعندما استعملت هذه التكنولوجيا لعدة مرات مع بعض المباني الأثرية التي بها تماثيل دقيقة في الواجهة مثل كنيسة النوتردام على سبيل المثال, وجد أن بعض التفاصيل الدقيقة تتآكل وتختفي, ولذا تم تطوير الطريقة المستعملة حيث تم استخدام أشعة الليزر بدلاً من سيل الرمال الناعمة الذي يستعمل في المباني العادية.

وبصفة عامة, فإن سياسة إزالة الغبار هذه جعلت من مباني باريس مباني مشرقة بصفة دائمة, وجعلت من باريس جوهرة تجذب الزائرين.

ثانياً: احترام قوانين المباني

من أهم بنود التنسيق الحضاري المعماري بباريس احترام القوانين المنظمة لهذه المباني, ولذا احتفلت باريس بمظهرها العام على مر القرنين الماضيين, فعندما تمر بشوارع باريس بصفة عامة تجد المباني عموماً على ارتفاع واحد, بل وفي معظم الأحيان يغلبها طراز معماري واحد حتى أنه عندما تم بناء برج إيفل في نهاية القرن الماضي كنصب مؤقت لمعرض باريس الدولي بمناسبة مرور مائة عام على الثورة الفرنسية, فقد قامت الدنيا وقعدت لهذا البرج العالي الذي يشوّه تنسيق باريس, لولا أنه مع الوقت بدأت أصوات أخرى تنادي بالحفاظ عليه, نظراً لقيمته التصميمية كنصب هندسي من الحديد فريد من نوعه, فتم الحفاظ عليه, وأصبح مع الوقت رمزاً لباريس.

ولك أن تشاهد كيفية إضاءة هذا الصرح الآن بطريقة ليس لها مثيل, بحيث يصبح في ظلام الليل قطعة من الدانتيل بديعة المنظر, وليصبح هذا البرج مزيّناً لباريس بدلاً من أن يكون مشوّهاً لها.

ثـالـثاً: تعيـين مسـئـول للتنسيق المعماري بكل حي

أحد العوامل المهمة التي تم من خلالها السيطرة والحفاظ على التراث المعماري في باريس هو أن الدولة عيّنت في كل حي مهندساً مسئولاً على مستوى فني عال للتنسيق الحضاري والمعماري, فعلى سبيل المثال, إذا أراد شخص أن يبني عمارة جديدة فلابد أن تعرض الرسومات على المهندس المسئول ليرى إذا كانت واجهة العمارة المقترحة تتماشى مع واجهات العمارات الأخرى الموجودة في الشارع أم لا, بل إلى حد أنه إذا أراد شخص أن يغير شباكاً موجوداً في عمارة قائمة بالفعل, فعليه أن يقدم رسومات هذا التغيير إلى المهندس المذكور ليرى إذا كان هذا التغيير سوف يشوّه من واجهة هذه العمارة أم لا, وإذا ما رفض الاقتراح, يقوم المهندس بعرض حلول بديلة على صاحب الشأن.

رابعاً: كلية خاصة للتنسيق المعماري

بجانب وجود كليات الهندسة المعمارية العادية المناظرة لما هو موجود في الدول الأخرى, فإن هناك كلية خاصة يدخلها خريجو كليات الهندسة المعمارية الذين يريدون التخصص في هندسة التنسيق والترميم المعماري (مدرسة شايوه Ecole de Chaillot). وهي تختص بدراسة تاريخ العمارة وهندسة المدن والقرى والقوانين المنظمة لها, وكذلك هندسة ترميم المباني الأثرية والتاريخية, وفي الواقع فإن خريجي هذه الكلية يمثلون الكادر الرئيسي القائم لعنصري المهندسين المسئولين عن التنسيق المعماري بكل حي والمهندسين المسئولين عن ترميم الآثار والمباني التاريخية.

خامساً: الإبقاء على واجهات الـعـمـارات عـند هـدمـهـا

هناك بعض العمارات, وخاصة في وسط المدينة, أصبحت جزءاً من تراث المدينة المعماري يتم الحفاظ على واجهاتها بأي ثمن حتى لو تم هدم العمارة, سواء لأسباب فنية أو أسباب تجارية, والمثال الجيد على ذلك هو فندق الماريوت الذي تقرر إقامته في وسط شارع الشانزليزيه الشهير على أن يحتل عمارتين ملتصقتين إحداهما تطل على الشانزليزيه, والأخرى تطل على شارع خلفي مواز, فقد تم الاحتفاظ بواجهتي العمارتين على ما هما عليه, وتم إعادة بناء الفندق من الداخل بالكامل, وقد أصبح هذا الفندق مزاراً خاصاً وشاهداً على كيفية الحفاظ على التراث المعماري للشارع العظيم مع إقامة مشروع استثماري عالمي.

سادساً: معلوماتية الشوارع

المقصود بمعلوماتية الشوارع في المقام الأول: إنشاء نظام المعلومات الذي يغطي كل الشوارع والمنازل حتى يتسنى للمواطن العادي أن يصل إلى أي عنوان بسهولة ويسر, ولكن هناك مستوى ثانياً للمعلومات, وهو أن تعطي هذه المعلومات مدلولاً أكثر عن هذه المباني.

وعلى نطاق المستوى الأول من المعلومات, فإنه لايوجد منزل في باريس ليس عليه رقم ولا توجد ناصية في أي شارع ليس عليها اسم الشارع, وهذه هي البنية الأساسية لمعلوماتية الشوارع.

أما المستوى الثاني, فله أبعاد كثيرة:

أولها أن يفط الشوارع التي توجد على كل ناصية لا تحمل فقط اسم الشارع, وإنما تحمل في معظم الأحيان اسم الحي, ويزيد على ذلك أنه عندما يكون الشارع قد سمي على اسم شخصية عامة, فإن اليافطة تحتوي أيضاً على معلومات أساسية عن هذه الشخصية العامة, وعلى سبيل المثال, فإنك ترى أن شارع إميل زولا يحمل يافطة على الوجه الآتي:

الحي الخامس عشر

شارع إميل زولا

1840-1902

كاتب وناقد

وهو ما يوضح بطريقة سريعة أن هذا هو شارع إميل زولا بالحي الخامس عشر, وأن إميل زولا ولد سنة 1840 وتوفي سنة 1902 وأنه كان يعمل كاتباً وناقداً.

وفي هذا المستوى من المعلوماتـية, فإنك ترى خريطـة بالحجم الكبير (حوالي متر x متر) عند النواصي المهمة للحي, موضحاً عليها بطريقة واضحة موقع هذه الناصية من الخريطة.

أما الجانب الثاني من معلوماتية الشوارع, فهو وجود مربع من الرخام على بعض المنازل التي أقام فيها بعض الشخصيات العامة توضح أن هذه الشخصية قد أقامت في هذا المنزل في فترة معينة, وعلى سبيل المثال, فإن المنزل الذي أقام به فولتير في نهاية حياته عليه يافطة تقول:

أقام في هذا المنزل

الكاتب فولتير

الذي ولد في باريس

في 21 نوفمبر 1694

وتوفي في هذا المنزل

في 30 مايو 1778

وأما النقطة الأخيرة في هذا المستوى من المعلوماتية فهي المعلومات العامة عن المباني الأثرية والتاريخية والخاصة, فقد صممت محافظة باريس عموداً خاصاً له شكل جمالي به يافطة بيضاوية الشكل تقريباً توضع أمام كل مبنى له قيمة أثرية أو تاريخية أو حتى قيمة خاصة مثل بعض المباني العامة عليها نص مكتوب يوضح قصة هذا المبنى ويحكي تاريخه في سطور عدة.

سابعاً: تطوير شارع الشانزليزيه

يعتبر شارع الشانزليزيه أشهر وأهم شارع رئيسي في مختلف عواصم العالم, وهو يمتد بطول كيلومترين وبعرض سبعين متراً, حيث توجد به خمس حارات للسيارات في كل اتجاه بالإضافة إلى رصيف على كل جانب عرضه حوالي 20 متراً, وينقسم الشارع إلى قسمين يتوسطهما ميدان دائري Round Point. أحد القسمين يبدأ من الميدان الدائري حتى ميدان الكونكورد حيث المسلة المصرية. وهو عبارة عن حدائق عامة يتوسطها بعض المطاعم الفاخرة, والقسم الثاني يبدأ من الميدان الدائري حتى ميدان الإيتوال الذي يتوسطه قوس النصر, وهو الجزء التجاري المليء بالمحلات التي تعمل معظمها حتى منتصف الليل, والمطاعم والمقاهي, والتي يعمل بعضها لمدة 24 ساعة يومياً, ودور العرض السينمائي (42 صالة عرض) بالإضافة إلى المسرح الليلي الشهير (الليدو).

ويعتبر شارع الشانزليزيه الشارع الرئيسي في باريس, وهو يمتد- كما ذكرنا- بين ميدان الكونكورد وميدان الإيتوال, ثم يمتد هذا المحور المهم من ناحية ميدان الكونكورد في خط مستقيم أيضاً ليمر بقصر اللوفر وحدائقه المعروفة بالتويلري, كما يمتد من الناحية الأخرى من الإيتوال بطريق آخر هو بولفار جراند أرميه الذي يصل إلى ضاحية نويي ثم إلى مدينة لادفنس والقوس الكبير La Grande Arche, وكل هذه المعالم تمتد على مدى حوالي عشرة كيلومترات على الخط نفسه بالضبط مع محور الشانزليزيه.

وكما ذكرت, فإنني قد عاصرت هذا الشارع المهم على فترتين رئيسيتين أثناء دراستي للدكتوراه في الستينيات وأثناء عملي مستشاراً ثقافياً ثم مندوب مصر الدائم في اليونسكو في التسعينيات وما بينهما من زيارات متعددة, وأشهد بأني رأيت هذا الشارع جميلاً في الستينيات, وأجمل وأجمل كلما مر عليه الزمن, حتى صار بهيّاً في التسعيـنيات, فقـد كـان الرصيف الحالي للشارع مقسّماً إلى ثلاث حارات في الستينيات تستعمل الحارة الوسطى منها في ركن السيـارات, وبالتالي فإن الحـارتين الأخريين كانتا ضيقتـين, وقد أنشـئ في خـلال هـذه الفترة موقف للسيارات تحت الأرض بطول الشارع, وضمت الحارات الثلاث لتصبح حارة واحدة بعرض الرصيف للمشـاة أي بعرض 20 متراً, وبذلك أصبح للشارع أرصفة ربما تكون الأعرض في العالم, مما زاد من استمتاع المشاة بهذا الطريق.

أما المرافق العامة الممتدة على هذا الشارع مثل أكشاك الجرائد والتليفونات ومواقف الأوتوبيسات والتاكسيات والأسانسيرات التي تؤدي إلى مواقف السيارات وإشارات المرور, فقد روعي فيها جميعاً التنسيق الجمالي المتميز, فمثلاً أكشاك الجرائد على امتداد الشارع تجد أنها كلها لها نفس الشكل تماماً مع تصميمات معمارية مشتقة من تصميمات القرن التاسع عشر التي وضعها البارون أوسمـان, بل إن مواقعها محسوبة على النواصي, بحيث إنها على نفس المسافة من نواصي الشوارع, والأكثر من ذلك أن ترتيب الأفيشات وإعلانات الجرائد والمجلات بهذه الأكشاك تكاد تكون متكررة من كشك إلى آخر (حيـث إن الذي يقوم بترتيب الإعلانات شركة واحدة متخصصة).

وأما كباين التليفونات, فهي على شكل دائري, ولها نفس النقوش المعمارية والألوان التي استعملت بأكشاك الجرائد.

والمجموعة الثانية من الخدمات بهذا الشارع هي مواقف الأتوبيسات والتاكسيات وهي منفذة كلها من الزجاج الشفّاف حتى لا تعوق الرؤية وحتى لا تشوّه منظر الشارع, وكذلك الأسانسيرات البارزة فوق الأرض والتي تؤدي إلى مواقف السيارات تحت الأرض فهي كذلك من الزجاج الشفاف لنفس السبب. وأما إشارات المرور في الشانزليزيه فقد صممت أيضاً بتصميم جمالي خاص بحيث لو كانت هذه الإشارات غير مضيئة لاعتقدت أنها عمود جمالي لتزيين الشارع, وهي بطول الشارع على نفس المنوال, ولم يكرر هذا التصميم في أي منطقة أخرى في باريس للحفاظ على خصوصية هذا الشارع.

وللحفاظ على نظافة هذا الشارع, فقد خصصت عربات ترسكلات بها شفاط كبير. ويقوم بتوجيه وقيادة هذه الترسكلات فتيات روعي في اختيارهن واختيار زيّهن البساطة والجمال, ويقدن هذه السيارات على الأرصفة لالتقاط كل ما يوجد بها من أوراق وبقايا المارة.

وحيث إن باريس مشهورة بمقاهي الرصيف, فقد سمح لكل مقهى في الشانزليزيه, بأن يمتد أمامه بمنطقة إضافية على الرصيف, ولكن على أن يراعي قواعد عامة, وهي أن تكون هذه الامتدادات على خط واحد بين المقاهي المختلفة.

وأخيراً, إذا أتيحت لك الفرصة لزيارة هذا الشارع في فترة أعياد الميلاد, فستجـد أجمل منظر لشارع في العالم, حيث تضاء جمـيع الأشجـار على جانبي الطريق ليلاً وهي بالمئات, وعلـى صف واحد, وهو منظر لا يمكن أن ينساه الشخص طوال حياته.

العودة إلى القاهرة

وأما إذا حاولنا المقارنة بين ما تم بباريس وما تم بالقاهرة, فإن باريس البارون أوسمان, قد تم تنسيقها في قلب باريس القديمة مع امتدادها إلى خارج حدودها القديمة, حيث كان بها اثنا عشر حيا ليصبح الإجمالي عشرين حيّاً.

وقد بقيت باريس على الحدود التي رسمها البارون أوسمان حتى وقتنا هذا (أي بعد مرور 150 عاماً) وهي الحدود التي يرسمها الآن الطريق الدائري لباريس, وأما قاهرة الخديو اسماعيل, فقد بنيت خارج حدود القاهرة القائمة في ذلك الوقت (والتي يحدّها شارع الخليج المصري) في أراض كان يغمرها النيل أثناء الفيضان. فتم بناء جسر للنيل وتم ردم هذه الأراضي (وهو مشروع بدأ منذ عهد محمد علي) وتم إقامة المدينة الجديدة على هذه الأراضي, وبالتالي فإن تخطيطها كان أسهل في التنفيذ من باريس البارون أوسمان.

إلا أن القاهرة كما هي معروفة في أوائل هذا القرن, فقد تم اتساعها في اتجاهات مختلفة بإنشاء مدينة مصر الجديدة في الثلاثينيات وإنشاء مدينة نصر في الستينيات, كما امتدت التوسعات في الجانب الآخر من النيل أي مدينة الجيزة لتشمل إنشاء مدينة المهندسين والمدن المهنية الأخرى الملحقة (الزراعيين, الصحفيين, الأطباء,....) والتي بدأت بفكرة إنشاء فيلات ثم انهارت المعايير لتنتقـل هذه المنطقة من فيلات إلى عمارات. ويكفـي أن نعرف أن تعداد القاهرة في نهاية هذا القرن يساوي بالتقريب تعداد القطر المصري بأكمـله في منتصف القرن الحالي, لنعي السبب في انفجار العمران بمدينة القاهرة, ولكن الشيء الغريب أن وسط المدينة ظل على جانب كبير بتنسيقه المعماري المتميز, ويبدو أن هذا التنسيق المتميز هو الذي حماها من الانهيار المعماري مثل الذي حدث في مدينة المهندسين ومصر الجديدة.

ومن الواضح أن مثل هذه المنطقة تحتاج إلى مجهود أقل من التنسيق لتصبح على مستوى أفضل, مثل قوانين الحفاظ على تراث هذه المنطقة وقوانين تنظيف المباني وقوانين معلوماتية الشوارع, وتنسيق نظام لافتات المحلات التجارية الموجودة أسفل العمارات والمكاتب والعيادات الموجودة بالأدوار العليا, بالإضافة إلى تنظيم المرور بالمنطقة والتي تعتبر من أحسن المناطق في القاهرة بصفة عامة احتراماً لقوانين المرور.

وختاماً, نرى أن قاهرة إسماعيل باشا (وسط المدينة) يمكن بقليل من الاهتمام أن تحتفظ برونقها على غرار باريس التي تربطها بها علاقة معمارية منذ القرن الماضي, ومما يساعد على ذلك هو كون هذه المنطقة محدودة المساحة, ويمكن أن تكون مصدر جذب سياحي ونواة لتطوير بقية أحياء القاهرة على نفس المنوال.

 

فتحي صالح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




كوبري قصر النيل المنطقة التي أخذت حيزاً كبيراً في التعديل عند اعادة تخطيط القاهرة





ميدان مصطفى كامل، نموذج للميدان الذي تتفرع منه شوارع العاصمة في كل اتجاه





ظهر ميدات التحرير من جهة الكورنيش





شوارع باريس تحمل اسماء أشهر الأدباء مثل أميل زولا





شوارع باريس تحمل اسماء أشهر الأدباء مثل فولتير





الشانزليزيه العاصمة في باريس أشهر وأطول شوارع العالم





جانب من جادة البارون أوسمان الذي خطط لباريس الحديثة