بهاء طاهر وحسين عيد

بهاء طاهر وحسين عيد

بهاء طاهر.. قاص وروائي مصري مشهور, قوامه النحيف يذكّرك برشاقة قدماء المصريين, تواضعه الشديد يذكّرك براهب بوذي. إخلاصه لفنّه حتى التفاني يذكرك بإصرار وصلابة أهل الصعيد.تربى منذ طفولته على الإحساس بمسئولية الكلمة, وجمال تكوين العبارة, وحب الحكايات وفن القص. له من الكتب المنشورة أحد عشر كتاباً: ثلاث مجموعات قصصية: (الخطوبة) (1972), (بالأمس حلمت بك) (1984), و (أنا الملك جئت) (1985), وأربع روايات: (شوق النخيل) (1983), (قالت ضحى) (1985), (خالتي صفية والدير) (1991), و (الحب في المنفى) (1995), وكتابان في مجال الرأي والفكر, هما: (10 مسرحيات مصرية) (1985), و (أبناء رفاعة: الثقافة والحرية) (1993), وفي مجال الترجمة كتابان:مسرحية (فاصل غريب) ليوجين أونيل (1970), ورواية (ساحر الصحراء) لباولوكويلهو (1996), بالإضافة إلى عشرات المقالات في المسرح والقضايا الأدبية والعامة.وقد توجت هذه المسيرة من الأعمال المتميزة بنيل جائزة الدولة التقديرية للآداب في مصر في عام 1998, ويقدم هذا الحوار إطلالة على أهم (المؤثرات) التي أثرت على رحلة حياته وأدبه, والاقتراب من (عالم الإبداع) لديه, وإضاءة بعض جوانبه, والاختتام بتناول بعض (القضايا الساخنة), التي أثارها عبر مقالاته العديدة وقد أجرى الحوار حسين عيد, وهو ناقد وقاص مصري أصدر ثلاثة عشر كتاباً منشورا في النقد والقصة والرواية.

  • كتبت عن تجربتك في كتابة القصة, في ملحق لروايتك (خالتي صفية والدير), فأوضحت أنك تعلمت حب الحكايات وحب الصعيد منها?

- أمي مثل كل أم في الدنيا, كانت تحكي لنا حكايات ونحن أطفال صغار, قبل أن نعرف القراءة والكتابة, حكاياتها لم تكن كحكايات الجدّات الخرافية, بل كانت حكايات واقعية. لم تكن تحكي بنوع من التعمّد, فمثلاً كانت تحكي لأختي الكبيرة عن حادثة حدثت في البلد لأحد أقاربها, فنجلس كأطفال صغار حولها ننصت, لأن الحكاية كانت تتفرّع إلى حكاية وحكايات أخرى كثيرة.

  • كانت حكّاءة ماهرة, إذن?

- جداً, كنا نجلس حولها متابعين بانبهار وصمت! ورغم أن أمي لم تكن تقرأ أو تكتب, فإن حكاياتها كانت واقعية جداً. وبفضلها عرفت البلد وكل من فيها من شخصيات وما يحدث, وكان أقاربي يدهشون, أثناء زياراتهم لنا, عندما يأتي ذكر شخص ما فأخبرهم بما قام به من أعمال, أو أسأل عن أخبار شخص آخر, فيسألونني, كيف عرفته?

كانت أمي- إذن- دائرة معارف عن أهل القرية وما يدور فيها, وأعتقد أنني مدين بحب الحكايات لها, وإن لم يكن لي نفس موهبتها!

حب الموسيقى

  • من المعروف أنك عاشق للموسيقى, خاصة الموسيقى الكلاسيكية, وقد انعكس هذا العشق على أعمالك الأدبية, بلغ ذروته حين بنيت روايتك القصيرة (بالأمس حلمت بك), كما (الصوناتا)?

- نعم, أحب الموسيقى جداً, وابتدأت أسمع الموسيقى وأنا صغير, رغم فقري الشديد, حين لم يكن بإمكاني شراء اسطوانات, ولم تكن الموسيقى تذاع في الإذاعة, لذلك كنت وأنا طالب في الجامعة, أمشي عدة كيلومترات, حتى أصل إلى مكتبة الفن في شارع قصر النيل, كانت قصراً قديماً بحديقة واسعة مليئة بتماثيل جميلة لمختار ولغيره من الفنانين, تتوسطها نافورة جميلة, وكنت تكتب ورقة بأنك تريد سماع السيمفونية الخامسة لبتهوفن, فيقدمونها إليك!

كنّا مجموعة صغيرة, نلتقي يومياً في هذه المكتبة, وهناك عرفت صديق العمر وحيد النقاش وآخرين, كنّا نقضي هناك يومياً أربع أو خمس ساعات نسمع موسيقى, ونقرأ عن الفن التشكيلي, تصوّر سعادتك, وأنت تجلس, في تلك الحديقة, وبجوارك تمثال مختار (الفلاحة) وتقرأ كتاباً عن فان جوخ, وتسمع موسيقى لبرامز, وليس معك أي نقود!

حب المسرح

  • هذا يجرّنا إلى سؤال حول المسرح, لأنه من الواضح أنك منذ بداياتك الأولى بدا عشقك للأدب اليوناني القديم ولفن المسرح, وكتبت ونشرت مسرحيتين (ذات الفصل الواحد), كما عملت محرراً لفترة لباب المسرح في مجلة (الكاتب) ونشرت بعض مقالاتك عن المسرح في كتاب (10 مسرحيات مصرية), كما تجلى هذا العشق في البناء المسرحي لقصتك الجميلة (محاورة الجبل) من مجموعة (أنا الملك جئت).

لماذا لم يستمر تيار الكتابة الإبداعية للمسرح?

- لا أجد إجابة تفسّر عدم استمرار هذا التيار, لكنني أعشق المسرح, وقد قال لي كثيرون نفس رأيك حول قصة (محاورة الجبل), وأعتقد أني نشرت مسرحية مترجمة بعنوان (قبل الإفطار) ليوجين أونيل في مجلة (المجلة), التي كان يشرف عليها وقتها الدكتور علي الراعي, وذلك في ذات الوقت, الذي نشرت فيه مسرحية (بلا رجل), ولا أتذكر أيهما أسبق في النشر: المسرحية المترجمة أم المؤلفة!

  • ولماذا لم تظهر المسرحيتان المؤلفتان, ضمن أعمالك المنشورة?

- أولاً: لأنهما لا يندرجان تحت عنوان مجموعات قصصية, ومن ناحية أخرى لم يشكلا بذاتهما مجموعة مستقلة!

تجربة البرنامج الثاني:

  • بعد تخرجك من الجامعة, ونجاحك في امتحان ديوان الموظفين, اخترت البرنامج الثاني الثقافي للعمل به.

هل تحدّثنا عن تجربتك العملية مع البرنامج الثاني, والتي استمرت خلال الفترة من سنة 1957 حتى 1975?

- أذكر أول يوم عيّنت فيه للعمل في البرنامج الثاني بالإذاعة, الذي كان العمل قد بدأ به منذ شهر, أن الأستاذ سعد لبيب دعاني إلى حضور اجتماع شهري يعقده للعاملين بالبرنامج الثاني. وكان معنا الأستاذة سميرة الكيلاني, والمخرجان محمود مرسي وصلاح عز الدين, والمرحوم فؤاد كامل, الذي أصبح مديراً للبرنامج الثاني بعد ذلك ومن أعز الأصدقاء. وبدأ الأستاذ سعد لبيب يناقش ماذا يقدم هذا الشهر في البرنامج من مسرح وأحاديث وندوات, وكان يدير الاجتماع بأسلوب ديمقراطي, بأن يشترك كل من الحضور في إبداء رأيه, وكان كل فترة يسألني عن رأيي, مما شجعني على التعبير عن رأيي, وكانت الموسيقى من الموضوعات التي اقترحتها, وقد أخذ باقتراحي.

كان البرنامج الثاني مدرسة تفتحت بها كل مداركي, وأعتقد أنني عشت فيه تجربة الفريق الواحد أثناء العمل, تحت قيادة الأستاذ سعد لبيب, كما أنني عقدت فيه صداقات استمرت بقية العمر, كما أن العمل في البرنامج الثاني جعل للثقافة مذاقاً آخر!

من أجل كل هذا, أعتقد أنني مدين للبرنامج الثاني بالكثير, حتى أني قلت للأستاذ سعد لبيب, عندما قابلته منذ فترة قريبة, ضاحكاً: لقد أفسدت علي حياتي, حين أعطيتني فكرة عن العالم, ظللت أبحث عنها, بعد ذلك عشرات السنين, دون أن أجدها!

عالم الإبداع

  • لقد قيل إن ما أسميتموه الكتابة الجديدة, الخاصة بجيل الستينيات, كانت متأثرة بالكتابة الجديدة في فرنسا وبمسرح العبث?

- هذا الأمر غير صحيح على الإطلاق, لأن الكابوس, الذي كان فيها, كان كابوساً محلياً تماماً, ليس له علاقة بالكوابيس المستوردة!

كان الواقع فيه هذا الجو الكابوسي. أذكر, كأننا اليوم, أنني كنت أجلس في مقهى مع سليمان فياض وغالب هلسا وآخرين, وجاء صديق لنا هو سيد موسى, كان يكتب سيناريوهات في الإذاعة والتلفزيون. كان وجهه منتفخاً, متورّماً, به كدمة. فلما سألته عن السبب, قال: كنت جالساً في مكتب صديقي المأمون أبو شوشة (المذيع ومعد برامج المنوعات) في الإذاعة, وجاء شخص سألني: أنت سيد موسى? فلما أجبته بالإيجاب, ضربني فوراً في وجهي, فسألت سيد موسى: هل كنت تعرفه? فنفى ذلك تماماً, بل إنه قال إنه لم يشاهده من قبل أبداً! وعدت أسأل سيد: وهل أوضح لك سبب ضربه لك? فأجاب: أبداً, لقد ضربني وانصرف!!

هذه الحكاية استفزتني تماماً, أحسست فيها مناخ العصر, وأنها تعبّر بشكل رمزي جديد لما يدور فيه, لذلك انصرفت بعدها مباشرة, وانفردت بنفسي, وكتبت قصة (الكلمة) (مجموعة (الخطوبة)), التي قيل- بعد ذلك- إني كتبتها متأثراً بكافكا!

  • يتبدى في كتاباتك حزن عميق, وهو ملمح عام, يمكن أن ينصرف إلى معظم أعمالك, لماذا كل هذا الحزن?

- لا أستطيع تعليل ذلك, وإن كنت أذكر رعبي الشديد وأرقي المستمر ليلاً, وأنا طفل صغير, ولم أكن أرتاح إلا عندما يصحو أبي, كي يصلي الفجر وأسمع حركته فأنام. وعندما كبرت, فكرت في تعليل ذلك, وأرجعته- ربّما- إلى أول صدمة لي مع الموت, بسبب موت جار أو جارة لنا لم أعد أذكر, مما رسخ في ذهني أن الكبار يموتون. من هنا, تولّد خوفي ورعبي على أبي, الذي توفي- بعد ذلك- وأنا في السابعة عشرة, وتوفي بعده بعام واحد أخي الأكبر!

وقد يرجع ملمح الحزن إلى جو الغارات, الذي عشته طفلاً, كما أنه في عام 1942, وكان عندي سبع سنوات, حدث وباء ملاريا في القرية, وفي الصعيد كله, فقدت فيه ما يقرب من نصف أسرتي, فكان حدثاً فاجعاً!

كما أن الوقائع الشخصية, كان المفرح منها قليلاً, بينما أكثرها محزن. وإذا كنت تريد أن تعطى المسألة بعدها العام, فلا تنس أن الأفراح التي عاشها جيلي كانت قليلة جداً!

الاغتراب والإبداع

  • اعتاد الكتاب أنه ما إن يغترب أحدهم بعيداً عن الوطن (مصدر الفن وباعث الإلهام), فإن أيام الجفاف الإبداعي تبدأ ولا تنتهي إلا بعودته ثانية إلى أرض الوطن. أمّا أنت فقد شكّل اغترابك للعمل في جنيف اعتباراً من أول الثمانينيات, وحتى بلوغك الستين عام 1995, تاريخ عودتك النهائية إلى الوطن, تجربة فريدة, فحين سافرت كان قد صدر لك مجموعة قصصية واحدة هي (الخطوبة) (1972), وكنت قد انتهيت من رواية (شرق النخيل) في نهاية السبعينيات, والتي نشرت بعد ذلك عام 1983 . وفي سنوات الاغتراب, أبدعت ونشرت مجموعتي: (بالأمس حلمت بك) (1984), و (أنا الملك جئت) (1985), وروايات (قالت ضحى), (خالتي صفية والدير) (1991), وأخيراً (الحب في المنفى) (1995).

ما تعليلك لهذا الإنجاز?

- لقد عملت مترجماً محترفاً في منظمات دولية, وهو عمل شديد القسوة, لن يصدق أحد مدى قسوته إلا إذا جرّبه, فيومياً, لابد من إنجاز كمّ معين من العمل يفوق طاقة البشر. هذه الترجمة تستغرق منك كل لحظة من وقتك من الثامنة والنصف صباحاً حتى الخامسة والنصف مساءً, كل ذرة من كيانك, وليس هناك أي عذر لعدم العمل, وفي حال المرض, تمكث بالبيت. فكنت أنجز هذا العمل, لأعود إلى البيت في المساء كالجثة الهامدة, أقصى ما أصلح له أن أتناول لقمة خفيفة وأشاهد نشرة الأخبار في التلفزيون, وأنام مباشرة, لأبدأ مبكراً يوماً آخر.

كنت قد شاهدت مواهب تبددت تحت تأثير هذا العمل, وآمنت بأني لو استمررت بهذا الشكل, تكون حياتي قد انتهت, هنا بدت الكتابة لي هي البديل للانتحار أو الموت, وبمجهود إرادي بالغ القسوة, قررت أن أكسر هذه الدائرة الشريرة, بحيث لا أنـسى أنني كاتب, وأنني خرجـت- في الأصل-ـ لكـوني كاتـباً. هكذا أنجزت!

  • تلمح في (بالامس حلمت بك) الحزن باديا.. كيف جاء هذا الحزن?

- لقد كتبتها وأنا في غاية الحزن, لأنها كانت في الفترة التي أعقبت وفاة والدتي- رحمها الله- فكتبتها وأنا في حالة نفسية حزينة جداً (وأنت تسألني عن السبب في تفشّي الحزن في أعمالي?).

وأذكر جيداً, أنني بعد كتابتها قررت تمزيقها, وأعطيتها لصديق هو أحمد حسن, وبعد أن قرأها شجّعني على نشرها, ولكن, هل كان شعوري هذا يرجع إلى حالة انقطاعي الطويل عن الكتابة, مما أفقدني الثقة في نفسي? أم هل كانت لدي حالة يأس عميق من الكتابة ومن كل شيء? ولكن ما حدث أنني أعطيتها لسليمان فياض ليقرأها, ففوجئت بها منشورة في مجلة (إبداع)!

  • إذن, كيف نشأت فكرتها?

- هذا هو أصعب سؤال يمكن أن توجهه إلي, فأنا لا أعلم مطلقاً متى تأتي الكتابة, أو متى تختفي. ولم أنجح في حياتي- أبداً- في أن أضع تخطيطاً لقصة, وكنت إذا وضعت تخطيطاً يكون الناتج شديد السخف, وتكون جديرة فقط بسلة المهملات!

أعتقد أنها مجموعة ظروف, أو حالات نفسية وصحية ومزاجية هي التي تجعلني أكتب, فالكتابة تأتي عندي بطريقة كلية, بمعنى أنني لا أخطط سلفاً, قد أبدأ من جملة, وأذكر قصة (أنا الملك جئت), وأذكر جيداً الظروف التي كتبتها فيها, لأنه كان قد حدث في جنيف عاصفة ثلجية لم تحدث منذ قرن, وأصبحت المدينة كلها بيضاء, والمواصلات مقطوعة, وليس هناك صوت في الشارع أو في البلد كلها, ولسبب ما, هذا الثلج ذكّرني بالرمل, بالصحراء, لا أدري لم, كان البيت الذي أنزل فيه في الصعيد, تقريباً على أطراف القرية, قرية الصحراء, لذلك تجدني متأثراً بالصحراء, وهو بيت أختي الكبيرة, هذا الرمل ذكّرني بالصحراء, فكتبت جملة (في خريف 1932 تجهز فريد بك للسفر), كان قد قرر أن يخرج إلى الصحراء!

هكذا بدأت هذه القصة, لم يكن في ذهني على الإطلاق أن أكتب, ولكن بعد أن تبدأ الكتابة, أيّاً كان الدافع أو الحافز عليها, فإن كل تجاربك الخاصة التي عشتها وسمعت عنها وفكرك ونظرتك إلى الدنيا, تكون لحظة الكتابة, لحظة احتشاد بكل هذا, الذي يخرج بإرادتك أو دونها, وكذلك إحساسك بالموسيقى, فأنت تكتب ولكن لماذا تشطب?, تشطب, لإحساسك أن هذه الجملة أو الفقرة أو المقطع أو الشخصية في هذا السياق, لا تسير مع موسيقى التعبير التي تريدها. وهذه الأشياء لا تكون وفق قرارات واعية, فأنت تحب الموسيقى, تحب الشكل المحكم, التسلسل المنطقي, التعبير الصادق. أي أن كل تكوينك يخرج أثناء الكتابة, ولأن الموسيقى جزء, أو مكوّن أساسي مني.

شرق النخيل

  • في روايتك (شرق النخيل) التي كتبتها في أواخر السبعينيات, وإن كانت لم تُنشر إلا عام 1983, نتابع مظاهرات الطلبة المنادية بالحرب وإزالة آثار العدوان, والتي يتعين زمنها ببداية السبعينيات, وتحديداً عام 1972.

بماذا تعلل ما كتبته عنها من (ان موضوعها ظلّ يشغلني لسنوات طويلة, منذ أن حكت لي أمي قصة الأب والابن اللذين قتلهما الرصاص, وأحدهما يحتضن الآخر)?

- فكرة (الفداء), هي التي كانت مسيطرة علي تماماً, هذا الابن, الذي افتدى أباه, ولكنه لم يفده, لأن الاثنين ماتا.

لسبب ما, رأيت في هؤلاء الشبّان الصغار, الذين ضربوا في ميدان التحرير, خلال تظاهرات الطلبة عام 1972, رأيت نفسي صورة الفداء, وربّما أكون قد استخدمت كلمة الفداء أثناء كتابة الرواية, من هنا أحسست أن هذه الحكاية التي حكتها لي أمي عن الابن, الذي افتدى أباه, هناك تماثل كبير بينها وبين هؤلاء الأبناء, الذين كانوا يفتدون الأم الكبيرة, الوطن, وقد حاولت بقدر الإمكان, الا يكون هناك أي شيء مفتعل, فلم أقدم أي تماثل ميكانيكي أو هندسي, في أي جزء من الرواية, ما بين قصة الأرض والحرب. ولكن الفكرة فقط هي المشتركة بينهما, والرواية كانت مختلفة!

رواية (قالت ضحى)

  • حاولت في روايتك (قالت ضحى) (1985) محاكمة ثورة يوليو, فاخترت لها زمناً مليئاً بالتحوّلات الأساسية في بنية المجتمع, مؤشراً نحو اتجاه سياسي جديد, بدءاً من ذلك الصباح الصيفي في أول الستينيات, في اليوم الذي تلا التأميم, وكان إغلاق بورصة الأوراق المالية أحد مظاهره, ولتجسيد رؤيتك السياسية, حاولت أن تكون شخصيات روايتك الرئيسية (رموزاً) أو نماذج لتجسيد بنية المجتمع, فكانت السيدة (ضحى) ممثلة الطبقة الأرستقراطية, ذات الذوق الرفيع والإحساس المرهف, إضافة إلى ثقافة عالية تستند إلى عدد من اللغات الأجنبية, بينما اتسع تمثيل الطبقة الشعبية, وامتد إلى أربع شخصيات: الراوي (مثقف) وصديقه حاتم, وقناوي العامل والساعي بالمصلحة, وعبدالحميد زوج أخت الراوي, المتعلم, الانتهازي.

- أنا لا أكتب بقرارات مسبقة, أو لا أرسم خطة على الورق لشكل الرواية أو الشخصيات وتطوّر الأحداث, ولا أسعى لإثبات نظرية أو فكرة أو أي شيء, لكن كل فكري الخاص يخرج أثناء الكتابة.

وكما قلت لك, كيف كتبت الجملة الأولى في قصة (أنا الملك جئت), أما كيف بدأ الأمر في (قالت ضحى), فقد كنت أعمل في مكتب مقابل للبورصة مباشرة, وفي يوم غلق البورصة, كان صوتنا غريباً جداً, لم نكتشف أننا كنا نزعق, إلا بعد إغلاق البورصة, ومن هنا جاءت (الصورة) التي أوضحتها في أول الرواية: (انتهت الضجة وكانت جزءاً من الحياة في مكتبنا).

(في كل صباح, كانت تأتينا تلك الأصوات من (بورصة) الأوراق المالية. وعندما تنتهي هناك, تعلو في الطريق فنعرف أن وقت انصرافنا نحن أيضاً قد اقترب).

هذه هي (الصورة), التي جعلتني أكتب رواية (قالت ضحى), وطبعاً- في أثناء ذلك- فإن كل خبراتي وتجاربي ومعلوماتي عن الدنيا تحتشد أثناء الكتابة. ويحضرني في هذا المقام حكاية أذكرها دائماً, إن أندريه مالرو, وكان أيامها ماركسياً, كتب رواية اسمها (الطريق الملكي), وهي من رواياته المبكّرة, ولم تكن أولى رواياته, وكتب نقداً لها الزعيم الماركسي تروتسكي, قال فيه: إن مالرو لا يفهم الصراع الطبقي, وأن بعض أفكاره الماركسية مشوشة, فردّ عليه أندريه مالرو ردّاً جميلاً, حين قال له إن رؤيتي للحياة, ليست رؤية سياسية, وإنما رؤية روائية, بمعنى أنه لا يرى علاقات الأفكار بمثيلها ومع الصراع الطبقي, وإنما يرى علاقات الناس والأحداث. هذه الرؤية الروائية يمكن أن تتجاوز وتتفوق على الرؤية التحليلية. وأنا- في الحقيقة- رؤيتي للحياة رؤية روائية إن جاز القول!

خالتي صفية والدير

  • افتتحت روايتك (خالتي صفية والدير) بملحوظة أن الأحداث والشخصيات والمواقع من نسج الخيال, ثم عدت في ختام الحديث عن تجربتك الإبداعية, في سياق ذكر الرواية (إن كل أحداثها من نسج الخيال... ليس بالضبط! فجنين الخيال أيضاً هو الواقع), هل توضح لنا هذا الأمر?

- ما هو الخيال? وكيف نتخيل أشياء? ألا يتم ذلك بناء على تجاربك في الحياة, وبناء على ما شاهدته, وما سمعته من أفراد, حتى أحلام اليقظة لها أساس واقعي, لذا أقول إن الخيال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما تعرفه من الواقع وعن الواقع!

وقد لامني البعض, على ذكر هذه الملاحظة في مقدمة الرواية, ولكن لهذا سبباً واقعياً وعملياً جداً, فأنا من قرية من الصعيد, فلو حدث أن قال أي شخص إن شخصية معينة يقصد بها فلان, فسينتج عن هذا مشاكل لا أول لها ولا آخر!

  • هذا يجرّنا إلى سؤال, حول تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني, هل كان لك موقف معين?

- لم يكن لي أي رأي!

  • أعتقد أن المشاهدين خلال فترة عرض المسلسل, كانوا يجزعون من جرعة الحزن المكثفة, التي تحتويها كل حلقة.

- رغم أن في الرواية مواقف فكاهية في الدير, حيث ينكت حربي مع بشاي, ولا أعرف لماذا ألغي كل هذا من المعالجة, حتى الدكتور عبدالقادر القط, مستشار التلفزيون لهذا العمل, قال إنه أبدى آراء بالنسبة لهذه الجزئية ولغيرها, ولم يؤخذ برأيه ولا برأيي!

رواية (الحب في المنفى)

  • يشي عنوان روايتك الأخيرة (الحب في المنفى) (1995) بعلاقة أو علاقات حب في المنفى, وما يقابلها من علاقة أو علاقات حب في الوطن الأصلي. وتعكس الرواية- فعلاً- علاقات حب تبدأ من الطفولة أو تتنوع, بين علاقات متقابلة وأخرى متوازية, تحكمها جميعاً منظومة معينة, تسطع بينها نماذج سامقة, ترسم في مجملها لوحة باهرة لحركة البشر, وسط هدير (جو الاعتراف).

- لقد وضعت يدك على نقطة مهمة جداً في هذه الرواية, حيث إن المنفى الأساسي فيها هو الحب, الحب هو أسير المنفى في هذه الرواية. كل قصص الحب الموجودة في الرواية تنتهي بنفي الحب, كما لو كان من المحتم في عصرنا هذا, أن يُطارد الحب وأن يُنفى, مهما توافر حسن النية عند كل الأطراف, فبريجيت كانت تحب زوجها الإفريقي حبّاً صادقاً, وكان يبادلها هذا الحب الصادق, ولكن العصر حكم أن يُنفى أحدهما عن الآخر, بمعنى آخر أن ينفى الحب من حياتهما. الراوي وزوجته, كان بينهما حب صادق, لكن الزمن أو الواقع هو الذي نفى هذا الحب. وتكرر ذلك- أيضاً- في علاقة الحب بين الراوي وبريجيت, وبين شادية الصحفية وإبراهيم الصحفي الماركسي.

الحب في عالم هذه الرواية, حب منفي باستمرار, وصراع الأبطال لإعادته إلى موطنه الأصلي صراع فاشل دائماً!

قضايا ساخنة

  • قلت في مقال لك بعنوان (الثورة... على المثقفين) من كتابك (أبناء رفاعة: الثقافة والحرية): (إن الثورة لم تدرك في أي وقت وظيفة الثقافة في المجتمع).

هل توضح ما عنيته بقولك? وكيف ترى دور المثقف?

- لكي تؤدي الثقافة دورها, لابد أن يكون للمثقف صوت مسموع في المجتمع, وضربت أمثلة بما حدث في التاريخ المصري عندما كان المثقف ندّاً للسياسي, ضربت مثلاً بعلاقة سعد زغلول بقاسم أمين وعباس محمود العقاد. كانت علاقة الند للند. ضربت مثلاً بعلاقة عرابي بكل من محمود سامي البارودي وعبدالله النديم, وإن كان للبارودي وضع خاص بحكم كونه وزيراً للحربية, لكن عبدالله النديم كان فقط مثقفاً وخطيباً وصحفياً.

سأضرب لك مثالاً أوقع وأكثر فعالية, طه حسين عندما عرض عليه مصطفى النحاس وزارة التربية والتعليم التي كانت تسمى سنة 1950 وزارة المعارف, اشترط طه حسين على مصطفى النحاس أن يكون أول قرار يوقعه هو قرار مجانية التعليم, وقبل مصطفى النحاس هذا الشرط الجميل!

لقد تعاملت الثورة مع الثقافة تعاملها مع موظفين عليهم السمع والطاعة, موظفين يمكن أن تعاملهم بأسلوب العصا والجزرة, تقدم لهم الجزرة كإغراء, والعصا كعقاب, وكان لعبدالله النديم تعبير جميل: إن غياب الحرية يخمد الأفكار في داخل المثقف, فيصبح غير قادر على الإبداع!

إذن, يجب أن تكون العلاقة بين السياسي والمثقف علاقة ندّية كاملة, كي تؤدي الثقافة دورها, وما لم يكن رجل السلطة السياسية مدركاً لأهمية وقيمة ودور المثقف, وما لم يكن المثقف- أيضاً- على درجة من الاعتداد بنفسه وعلى درجة من الاحترام لدوره, فلا يمكن للثقافة أن تؤدي دورها. وقد رأينا ما حدث, عندما تمّ تغييب صوت المثقف واستبدال المثقف المبدع بالمثقف الموظف. طبعاً, خفت صوت المثقف, فعلا صوت الإرهاب, فلا يمكن أن يعيش المجتمع في فراغ كامل, فبعد أن فقد المثقف مصداقيته, أصبحت هناك مصداقية لفكر آخر,رغم أنه زائف ومخرّب ومدمّر, لكنه ملأ الساحة, بدلاً من أن تظل خالية!.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بهاء طاهر





حسين عيد





من القصة إلى الرواية إلى الفكر.. معالجات ابداعية متعددة لبهاء طاهر