من لاجئين إلى مواطنين في وطنهم

من لاجئين إلى مواطنين في وطنهم

من المكتبة الاجنبية
تأليف: د. سلمان أبو ستة

هل يمكن وضع نهاية للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي? أي هل يمكن حل عقدة النزاع وجوهره, وأساسها حرمان اللاجئين الفلسطينيين من أرضهم بعد قيام واقع استعماري عليها, ومصادرته لأراضيهم على دفعات بدأت باعتبارها أملاك غائبين, ثم بتأجيرها لمستعمرين قادمين من مختلف بقاع العالم, وبيعها أخيراً لمستثمرين من مختلف الجنسيات باستثناء الجنسية الفلسطينية?

الحديث يدور هنا عن 80% تقريباً من أراضي فلسطين تم احتلالها بالقوة المسلحة في العام 1948, وإبادة بعض سكانها وتشريد بعضهم الآخر خارج فلسطين وداخلها في وقت واحد معاً, وإقامة دولة استوردت سكاناً من مختلف البقاع لا رابط بينهم سوى الديانة اليهودية, وجشع الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين أصبحت تطلق على نفسها اسم (إسرائيل), بل وتجاوز الأمر في السنوات الأخيرة الرابط الديني, وبدأت هذه الدولة باستيراد مستعمرين جدد من ديانات أخرى لملء ما احتلته من أراض بعد العام 1967 (20%) أي البقية الباقية من الأراضي الفلسطينية المتعارف عليها باسم الضفة الغربية وقطاع غزة.

هذا الكتاب الصادر عن مركز العودة الفلسطيني وجمعية الأرض الفلسطينية في لندن يجيء في وقته تماماً, أي في وقت عادت فيه قضية اللاجئين إلى الواجهة بعد غياب ومحاولات التغييب متواصلة طيلة السنوات الماضية, ولعل محاولات التغيب أو الانحراف بقضية اللاجئين وطمس ومحو القرار الدولي رقم 194 (ديسمبر 1948) هو الذي يضع هذا الكتاب في سياق الجهد القائم حالياً على الصعيد الفلسطيني والعربي لجعل شرط عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم شرط السلام العادل والحقيقي.

لا حجة تلغي حق العودة

بدأنا هذا العرض بسؤال عن إمكان وضع نهاية للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي, وحددنا سؤالنا بإمكان حل عقدة النزاع وأساسه. وجواب الكتاب الجديد باختصار هو: نعم... وهذه هي الخطة المقترحة لعودة اللاجئين إلى وطنهم.

بداية يصف الكاتب هذه الخطة بأنها محاولة للإتيان بالسلام إلى المنطقة الممزقة بالنزاع والحروب التي جلبها معهم الأجانب المدججون بالأسلحة والمال والنفوذ السياسي, وكان الضحايا الرئيسيون لهذا المسعى غير المقدس هم الفلسطينيين حين تمثل هذا المسعى في خرابهم واقتلاعهم من وطنهم في العام 1948, إنها النكبة التي لا مثيل لها في التاريخ بالنسبة لبلد تحتله أقليّة أجنبية, ويتم تفريغه كلياً تقريباً من أغلبية مواطنيه, وتطمس علائمه الثقافية والمادية, ويُهلّل لتدميره على نطاق واسع بوصفه عملاً مقدساً ونصراً للحرية وقيم الحضارة.

وكل هذا تم بتخطيط مسبق, وتم تنفيذه بدقة, ولقي دعماً عسكرياً ومالياً وسياسياً من الخارج, ولايزال هذا الدعم قائماً حتى اليوم بعد 53 عاماً.

ويلاحظ الكاتب, أنه وبعد أكثر من نصف قرن من المعاناة لايزال الفلسطينيون مصمّمين على العودة إلى الوطن في سعيهم نحو أكثر مبادئ العدالة أساسية, مَن يمنعهم من العودة?

يجيب الكاتب إنها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية التي تساندها, في الوقت الذي تساند فيه حقهم في العودة الغالبية المطلقة من حكومات وشعوب العالم. وتقدم إسرائيل وأنصارها والمتواطئون معها شتى الحجج والادّعاءات ضد حق العودة. فهم يزعمون أن العرب كانوا معتدين ويستحقون ما أصابهم, وأن (داود) الصغير يقاتل دفاعاً عن وجوده (جوليات) العربي, وأنه لا يوجد الآن مكان للعائدين, وأن القرى تم تدميرها وضاعت الحدود, وأن عودة اللاجئين ستلوّث (شخصية إسرائيل اليهودية)... إلخ.

وعلى مرتكزات الدعاية الصهيونية هذه, والمتواصلة منذ سنوات, يلاحظ الـــكاتب أن هذه الحجـج والادّعاءات زائــفة لا تقوم على أســـاس, ويأتي معظم البرهان على هذا من الإسرائيليين أنفسهم, وأنه حتى لو كانت صحيحة فإنها لا تـــلغي حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم, لأنه ليس من شأن الحرب ولا التـــدمير الكامل لبيوتهم ولا احتلال المهاجرين الأجانب لها ولا الابقاء على نظام الفصــــل العنصـــري في إسرائيل, أن تــعـد أســـساً لإنكار حق غير قابل للتصــرّف مثل حق العودة للوطن.

ولكن المزاعم الإسرائيلية (ومزاعم الموالين لها) ضد عودة اللاجئين زائفة ولا أساس لها, ثم يظهر الكتاب أن العودة عملية وممكنة وأنها هي التي تجلب السلام الدائم ثانياً.

كيف تم التطهير العرقي?

كان التخلص من سكان فلسطين الأصليين ركيزة العقيدة الصهيونية منذ زمن طويل, وقد كشف عنها علنا الصهيوني (يوسف فايتز) رئيس لجنة الترحيل وعمليات مصادرة الأراضي مع مطلع الأربعينيات حين اقترح خطة للترحيل العرقي جاء فيها (الحل الوحيد هو ترحيل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة, ولا يجب الإبقاء على قرية واحدة أو قبيلة واحدة).

وقبل أن تبدأ حرب 1948 رسمياً ببضعة أشهر أعد الصهاينة خططاً لتوطين مليون ونصف مليون مهاجر جديد يضافون إلى 600 ألف يهودي كانوا موجودين في فلسطين, جاء 400 ألف منهم في سنوات الاحتلال البريطاني لفلسطين.

وتم تشريد أكثر من نصف عدد اللاجئين الفلسطينيين بواسطة الهجمات العسكرية اليهودية التي تلت قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في نوفمبر 1947, وقبل انتهاء الاحتلال البريطاني. وقادت هذه الهجمات العسكرية وكالات الاستيطان, وعلى رأسها الصندوق القومي اليهودي للحصول على أراضي قرى الجليل التي تم تدميرها للاستيلاء على أراضيها. ورافقت كل ثلاث عمليات عسكرية مذبحة واحدة تقريباً للمدنيين, وهناك تقارير عن ما لا يقل عن 35 مذبحة, ونصفها حدث قبل أن يضع أي جندي عربي قدمه في فلسطين. ولم ينحصر قتل المدنيين في زمن الحرب, بل امتد حتى بعد توقف القتال,

هذه الهجمات العسكرية كان يتبعها مباشرة نهب الممتلكات وتدميرها, كما حدث في مدن مثل حيفا ويافا واللد والقدس بخاصة.

وتنوع النهابون. ومنهم سكان المستعمرات القريبة التي تدعى الكيبوتزات, وقوات الجيش الإسرائيلي, وقادة الألوية وشخصيات حزب العمل الحاكم السياسية, وجاءت بعد ذلك حملة تدمير واسعة استمرت لأكثر من خمسة عشر عاماً, تم خلالها تدمير 53% من 418 قرية, وما دمّر منها جزئياً تبلغ نسبته 44.5%, وكان هدف التدمير الواضح هو منع عودة اللاجئين.

ويتضح هذا الهدف من مجرى السلوك الإسرائيلي تجاه عودة اللاجئين, فقد أعلنت الحكومة المؤقتة مباشرة وبعد إعلان الدولة في 14 مايو 1948, وعلى أثر احتجاج وسيط الأمم المتحدة الكونت (فولك برنادوت) على اقتلاع حوالي 500 ألف لاجئ في شهر يونيو (حزيران) وحده, أنها لن تسمح بعودة أي لاجئ قبل توقيع معاهدة سلام, محتجة بأن هؤلاء قد يكونون تهديداً للأمن, ولكن حتى بعد توقف القتال رفضت إسرائيل الاعتراف, مجرد الاعتراف بوجود اللاجئين, وحافظت على موقفها هذا في الساحة الدولية حتى اليوم, رغم أن دخول إسرائيل الأمم المتحدة في مايو 1949 كان مشروطاً بعودة اللاجئين وفق قرار 194, والانسحاب إلى حدود التقسيم التي وضعها قرار رقم 181, ومن جانب آخر عملت إسرائيل على تنشيط برنامج واسع لاستيراد المهاجرين اليهود بعد اجتياح القرى الفلسطينية مباشرة, وذلك بإرسال عملاء جهاز الموساد للعمل على نقل العرب اليهود إلى إسرائيل بالاقناع أحياناً وبالعمليات الإرهابية ضد المترددين منهم بإلقاء القنابل على بيوتهم ومعابدهم. وفي الفترة ما بين عامي 1949 و1952 وصل إلى فلسطين المحتلة حوالي 700 ألف مهاجر لم يكن الكثيرون منهم سعداء بالتمييز الذي واجههم, ولايزال امتعاضهم قوياً حتى اليوم.

بعد ذلك يقدم المؤلف شرحاً موجزاً مدعوماً بالوقائع للكيفية التي تم بها اقتلاع الفلسطينيين وبالخرائط الإيضاحية التي تظهر مراحل هذا الاقتلاع المخطّط الذي انتهى الفصل الأول منه بتشريد أكثر من 800 ألف لاجئ فلسطيني اقتلعوا من 531 مدينة وقرية, بالإضافة إلى 130 ألفاً اقتلعوا من 662 قرية صغيرة. وأصبح اليهود الذين لا يمتلكون أكثر من 1682 كيلومترا مربعا يحتلون ما مجموعه 20323 كيلومترا مربعا أطلقوا عليه اسم (إسرائيل) وهو ما يعني أن نسبة 92% مما يدعى (إسرائيل) هو أرض للفلسطينيين.

هذا الاحتلال الواسع لم يقتصر على الوسائل العسكرية فقط, بل رافقته وتلته سلسلة من الإجراءات والتشريعات المزعوم أنها قانونية لتمويه عملية النهب غير الشرعي للأرض. فمع إطلاق العمليات العسكرية الإسرائيلية الواسعة في مارس 1948 أنشأت عصابة الهاغاناه (نواة الجيش الإسرائيلي) لجنة للاستيلاء على ملكية الفلسطينيين في القرى, ونشأت لجنة مماثلة بعد احتلال مدن حيفا ويافا وصفد وطبريا في أبريل ومايو 1948. وفي نوفمبر من العام نفسه استكملت إسرائيل احتلال معظم أراضي فلسطين الخصبة الآهلة بالسكان. وفي ديسمبر من العام نفسه, وهو الشهر الذي دعا فيه قرار الأمم المتحدة الشهير رقم 194 إلى عودة اللاجئين, وصدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, ردت إسرائيل بإصدار (قوانين الطوارئ المتعلقة بأملاك الغائبين), وبعد ذلك مباشرة أصدر الكنيست (قانون وضع اليد على أملاك الغائبين) الذي اعتبر كل اللاجئين (غائبين) ونقل ملكية أراضيهم وبيوتهم إلى (وصي) يقرر ما إذا كان العربي غائباً لتتم مصادرة أملاكه. ولم يطبّق هذا (القانون) العجيب على اللاجئين الذين تم تشريدهم خارج وطنهم فقط, بل وعلى الفلسطينيين الذين ظلوا في وطنهم تحت الاحتلال. فأطلق عليهم لقب (الغائبين), ولكن بما أنهم أصبحوا وفق منطق (دولة إسرائيل) مواطنين, فقد أصبح يطلق عليهم لقب (الغائبين - الحاضرين)! وفي العام 1950 وسعت إسرائيل تطبيق هذا القانون ليشمل الأوقاف الإسلامية, ولم ينفع الاحتجاج بأن (الله) حاضر وليس غائباً, وتمت مصادرة الأملاك الموقوفة. ولم يسمح باستخدام كل المساجد والمقابر المهجورة ولا بإصلاحها حتى اليوم. وأعادت إسرائيل العمل بأنظمة الطوارئ البريطانية للعام 1945 التي وضعتها سلطات الاحتلال البريطاني بهدف إخماد ثورة الفلسطينيين, فصارت مصادرة الأراضي تتم وفق رغبات حكام المناطق العسكريين. الأراضي المصادرة وفق هذه الشبكة القانونية الزائفة (أراضي للاجئين + أراضي الباقين على أرضهم) تبلغ 18.291.000 دونم أي 90% مما يطلق عليه (إسرائيل) حالياً.

لجنة التوفيق الدولية التي أنشأها قرار الأمم المتحدة رقم 194, عملت على حصر أراضي الفلسطينيين التي وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي, وأكملت هذه اللجنة عملها في العام 1964 استناداً إلى سجلات الأراضي العائدة للاحتلال البريطاني, وبالتشاور مع الحكومات المعنية, وبلغت مساحة هذه الأراضي وفق سجلات لجنة التوفيق 5.194.091 دونما, ولكن فواتك جارفس رئيس اللجنة لاحظ أنه تم استثناء أراضي رام الله والقدس وكل أراضي منطقة بير سبع, فإذا أضفنا هذه المناطق فسيصبح الرقم 18.271.091 دونما تقريباً.

ما بقي بين أيدي المواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال يتراوح ما بين 1600 دونم و 350 ألف دونم. ويخضع لشتى القيود والقضم التدريجي. وهكذا فإن ما يقارب مليون فلسطيني لهم من أرضهم ما بين 2% إلى 3%, بينما يسيطر 5 ملايين يهودي على 97% من الأراضي التي هي ملك الفلسطينيين.

أراضي الفلسطينيين المصادرة تم تأجير بعضها للكيبوتزات والموشافات (وهي مزارع تعاونية) لمدة 49 عاما, وأمسكت الدولة ببعضها لأغراض عسكرية ولاحتوائها على موارد طبيعية ولإبقائها من أجل التوسع المستقبلي وإسكان مهاجرين جدد. إن أراضي الفلسطينيين التي يسمّونها (أراضي دولة) تحصر وتؤجر لاستخدام الأفراد اليهود أو الهيئات اليهودية فقط.

لماذا لا يعودون?

سيظهر التحليل اللاحق أن العوائق التي تقيمها إسرائيل ضد حق العودة مصطنعة ولا تقوم على أساس واقعي, وأن جهود إسرائيل التي تركزت على اقتلاع الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم لاتزال متواصلة للتخلص من اللاجئين أنفسهم, لأن كل ما قام على الأرض من وقائع لم يستطع ملء فلسطين التي أخليت من سكانها, ولا تخلى اللاجئون عن حقهم وقتالهم من أجل العودة.

اليوم يعيش 88% من اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين وحولها: يعيش حوالي 46% منهم في فلسطين التاريخية, ويعيش 42% في الأردن وسوريا ولبنان على بعد مائة ميل من أرضهم, ولا تقيم في مناطق أبعد (بلدان عربية وأجنبية) إلا نسبة 12% منهم. ويبلغ عددهم الإجمالي وفق إحصائيات العام 1998 حوالي 4.9 مليون نسمة, المسجل منهم في سجلات الأونروا 3.6 مليون نسمة. وبهذا يكون أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني لاجئاً. ويفسر تصميمهم على العودة إلى الوطن محاولات إسرائيل المحمومة لجلب أكبر عدد ممكن من المهاجرين, من روسيا وأثيوبيا, حتى وإن لم يكونوا يهوداً كما ثبت, لا لشيء إلا لملء الأراضي الفلسطينية (ويمكن أن تدخل في إطار هذه الجهود إقامة ما تسمى إدارة الحكم الذاتي الفلسطينية وفق اتفاقات أوسلو التي تشترط لإقامتها والاعتراف بها إلغاء حق عودة ثلثي الشعب الفلسطيني إلى أرضه), وهنالك بالإضافة إلى هذا مئات المشاريع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم إلا وطنهم, وهي مشاريع تقف وراءها إسرائيل بالمطلق.

مشاريع التوطين هذه تستند إلى واحد أو أكثر من هذه الحجج: أن الفلسطينيين لا يشكلون (شعباً) وإنهم يمكن أن يعيشوا, بل ويجب أن يعيشوا في أي مكان, وأنه ليس لديهم حق يؤهلهم للعودة, وأن عودتهم ليست ممكنة عملياً, وأن عودتهم غير مرغوب بها لأنها ستهدد (نقاء الشخصية اليهودية), لإسرائيل!

آخر هذه الخطط هي خطة وضعها (دونا آرتز) تتلبس اللباس الإنساني, إلا أنها جوهرياً استمرار لخطة الإبادة والتشريد العرقي التي نفذها بن غوريون وإريل شارون, وتدعو هذه الخطة إلى إبعاد 1.5 مليون لاجئ فلسطيني إلى شتى أنحاء العالم. ونفي بضعة ملايين أخرى نفياً إجبارياً بالتهديد والرشوة, بالترهيب والترغيب.

وهنالك مشاريع تدعو إلى عودة اللاجئين, ليس إلى بيوتهم بل إلى دولة فلسطينية جديدة لاتزال سيادتها ومناطقها لغزاً, وإن كان شرط قيامها كما علم أخيراً إلغاء حق عودة اللاجئين وقرار رقم 194 الصادر عن الأمم المتحدة, وتقترح هذه المشاريع التي تسرب شيء منها (تبادل أراض) يتم بموجبها مبادلة مناطق يسكنها الفلسطينيون في (إسرائيل) أو صحارى مستخدمة كمدافن للنفايات الكيماوية, بأراض خصبة في الضفة الغربية يحتلها المستوطنون وتقوم إسرائيل بضمها.

إذا جئنا إلى هذه الحجج والمشاريع, نجد أنها تخلط خلطاً متعمّداً بين قضية السيادة التي تطبق على منطقة تستطيع دولة من الدول وضع قوانين فيها لإلحاق مواطنين بها, وبين قضية العودة إلى البيوت التي اقتلع منها اللاجئون, وهو حق لا يقبل التصرف. كلتا القضيتين لا تعلق لإحداهما بالأخرى, فاللاجئ يظل لاجئاً إلى أن يعود إلى بيته الأصلي, وقد ورد بهذا الصدد نص في المذكرة التفسيرية للقرار رقم 194 يقول بأن (تغيير عنوان مخيم اللاجئ لا يجعله عائداً, أو يحرمه من حقوقه. يجب أن يعود اللاجئ إلى بيته, بصرف النظر عن النظام السائد الذي يقع بيته في نطاق سيادته).

تفصيل حق العودة

يرى المؤلف أن حق العودة مشروع شرعية تامة وفق القانون الدولي, وقد أكدت المجموعة الدولية على القرار رقم (194) 135 مرة في الفترة ما بين 1948-2000 في سابقة لا مثيل لها في تاريخ الأمم المتحدة. ويرفع هذا الاجماع المتواصل طيلة أكثر من نصف قرن هذا القرار من مستوى (التوصية) إلى مستوى التعبير عن الإرادة الجازمة للإرادة الدولية. ويمنع القانون الدولي أيضاً نزع مواطنية شعب إذا حدث تداول للسيادة على الأرض التي يقيم عليها. ولهذا فإن اللاجئين الفلسطينيين مؤهلون للعودة إلى بيوتهم التي فقدوها واستعادة مواطنيتهم أيضاً. ويدعم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, والعديد من التشريعات الإقليمية القائمة عليهم حق العودة, ويستمد هذا الحق سنداً إضافياً عن حرمة الملكية الخاصة التي لا يلغيها لا تغير السيادة ولا الاحتلال ولا التقادم. وهذا الحق يتساوى في ملكيته اللاجئون الفلسطينيون جميعاً, سواء اللاجئ من قرية (افرت) الذي يعتبر مواطناً إسرائيلياً, أم اللاجئ من اللد الذي يعتبر مواطناً أردنياً, أم اللاجئ من حيفا الذي لا يحمل جنسية بلد في سوريا ولبنان والعراق ودول الخليج العربية, أم اللاجئ من يافا الذي يعتبر مواطناً أمريكياً.

ولا يوجد سبب مقبول يمنع ممارسة هذا الحق, سوى المعارضة الإسرائيلية التي تزعم أن هذه العودة ستلوّث (نقاء الشخصية اليهودية للدولة) وتسبب هجرة اليهود إلى الخارج, وتزعم أن العودة أمر محال لأن قرى اللاجئين تم تدميرها وضاعت حدود ملكية الأراضي. ويناقش الكاتب هذه المزاعم, فيدحض مقولة النقاء الديني, إذ ليس هناك من دولة, في عالم تستخدم هذا الأساس لهوية سياسية وقانونية إلا دولة الاحتلال الإسرائيلي, ولا يعد تعبير (الشعب اليهودي) مفهوماً من مفاهيم القانون الدولي حتى في رأي وزارة الخارجية الأمريكية. وقد أصبح معروفاً الآن على نطاق دولي واسع أن هذا التعبير هو ترجمة لما كان سائداً في جنوبي إفريقيا من نظام عزل عنصري.

ثم يخصص الجزء الأكبر من كتابه لبسط قضية إمكانية العودة, ويعرضها بالشكل التالي:

من الممكن تقسيم المناطق الست والأربعين التي تقوم عليها دولة إسرائيل إلى ثلاث مجموعات: مجموعة (أ) بمساحة 1628 كيلومترا مربعا يسكنها عدد من اليهود يقارب 3 ملايين نسمة (76% من إجمالي اليهود في فلسطين), وهذه المساحة التي استطاع اليهود امتلاكها بشتى الأساليب خلال فترة الاحتلال البريطاني, وتتمركز معظم المستعمرات اليهودية التي قامت بعد إنشاء إسرائيل في هذه المساحة.

ثانياً: مجموعة (ب) وتقدر مساحتها بـ 1508 كيلومترات مربعة, وهي تعادل تقريباً حجم, ولكن ليس موقع الأرض التي يمتلكها الفلسطينيون الذين ظلوا تحت الاحتلال بعد حرب 1948.

وكانت إسرائيل قد صادرت منذ ذلك اليوم 2/3 ملكية هؤلاء الفلسطينيين. في هذه المجموعة يقيم 436 ألف يهودي أي 9.6% من مجموع اليهود في فلسطين إلى جانب 192 ألف مواطن فلسطيني. وبهذا يتبين أن 77% من اليهود يعيشون على 15% من مساحة فلسطين المحتلة عام 1948, وهذا يترك أراضي مجموعة (ج) التي تقارب مساحتها 17381 كم مربعا, وتقع على شكل كتلتين كبيرتين في الشمال والجنوب. وهذه الأرض هي ميراث حوالي 5 ملايين لاجئ طردوا من بيوتهم في العام 1948 وميراث المتحدرين منهم. ويعيش في هذه المنطقة (ج) حوالي مليون يهودي, ولكن 80% منهم إما أنهم يعيشون في المدن التي هي فلسطينية أصلاً وأصبحت مختلطة السكان الآن, وإما في عدد من مدن صغيرة نشأت حديثاً, وهي مدن يسكنها بكثافة اليهود الشرقيون أو المزراحي, وبدأ يتوافد عليها الروس منذ فترة قريبة, وطابعها الافقار العام وارتفاع معدلات البطالة, وتدني مستوى الدخول فيها. وهذه الوضعية تترك لحوالي 200 ألف يهودي ريفي استغلال المساحات الشاسعة من أراضي اللاجئين, بالإضافة إلى الأراضي المستخدمة لأغراض عسكرية وأغراض التشجير. وغالبية هؤلاء (160 ألفاً) تقيم في التعاونيات التي فشلت كتجربة, ولم يبق من هؤلاء الريفيين المصطنعين اصطناعاً سوى 8600 فرد يتعيشون على الزراعة ويستخدمون في زراعة الأرض عشرات الآلاف من العمال المأجورين من تايلند...! وهكذا فإن حقوق خمسة ملايين لاجئ فلسطيني في أرضهم يتم التنكر لها لصالح 8600 من سكان الكيبوتزات وعمّالهم التايلنديين...!

سيناريو الحل

يقول المؤلف إنه حين يعود اللاجئون المسجلون في لبنان (362.000) إلى بيوتهم في الجليل الذي لايزال عربياً في معظمه, وحين يعود اللاجئون المسجلون في غزة (759.000) إلى بيوتهم في القسم الجنوبي (ومعظمه خال الآن) حيث نصيب كل 6 أفراد يهود يبلغ كيلومتراً مربعاً واحداً, مقارنة بعدد يصل إلى 5500 فرد للكيلومتر المربع في غزة, فإن هذه العودة لن تترك تأثيراً يؤبه له على الكثافة اليهودية في مجموعة (أ), وسيظل اليهود أغلبية عددية في مجموعات (أ) و (ب) و (ج). واللافت للنظر أن عدد المهاجرين الروس الذين تم الاتيان بهم إلى فلسطين المحتلة في التسعينيات يعادل عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وغزة معاً.

فلو لم يهاجر الروس, وسمح للمليون لاجئ هؤلاء بالعودة إلى وطنهم فسيجدون لهم مكاناً بسهولة, وستحتفظ إسرائيل بكثافتها التي تحافظ عليها. وهكذا يصل الكاتب إلى إزاحة خرافة أن لا مكان للاجئين.

أما بالنسبة للادّعاء بأن كل آثار القرى الفلسطينية ضاعت وتم البناء فوقها, فهو أيضا, حتى لو كان صحيحاً, لا يقوض حق العودة, لأن سرقة ملكية الأرض لا تمنح السارق الحق في الأرض المسروقة, وتتوافر سجلات وخرائط كافية حافظ عليها المحتل البريطاني, وهي تكفل التعرف على حدود كل دونم من الأرض. ونشر المؤلف خرائط قائمة على أساس هذه السجلات وعليها مواقع 531 قرية ومدينة اقتلع الإسرائيليون سكانها في العام 1948.

وبمقارنة هذه المواقع بخطط البناء الإسرائيلية القائمة يظهر المؤلف نتيجة مثيرة, وهي أن مواقع الغالبية المطلقة لهذه القرى لاتزال خالية, في ضواحي صفد وعكا وطبريا والناصرة باستثناء واحدة في كل منطقة.

الكيبوتز: وارث لا حق له!

إذا عاد 5 ملايين إلى بيوتهم وفقاً للقانون الدولي وانتهى هذا النزاع التاريخي, فما ثمن هذا الإنجاز الكبير?

يجيب المؤلف أن مَن سيتأثر هم 160 ألفاً من سكان التعاونيات, قد يقررون البقاء واستئجار الأرض من المالك هذه المرة, وليس من الحكومة الإسرائيلية كما هو الوضع حالياً, بتغيير بسيط في عقد الإيجار, أو قد يقررون تغيير أماكن سكنهم, ومما يسهل الأمر أن حركة الكيبوتزات التعاونية التي استولى فيها اليهود المحتلون على اغتصاب أراضي الفلسطينيين بالقوة, وغالبيتهم جنرالات جيش وأعضاء كنيست, احتضرت تقريباً. ففي العام 1917ضمت هذه المزارع 90% من اليهود الوافدين على فلسطين, أما اليوم, فإن نسبة 3% فقط هي التي ظلت في هذه المزارع مع عمالها التايلنديين, ورغم محاولات الدولة إنعاش حركة المزارع هذه بتسديد ديونها التي تبلغ البلايين, وإعادة جدولة بعضها, فإنها بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة, وهنا اتخذت الحكومة الإسرائيلية سياسة جديدة تجاه أراضي اللاجئين هذه, كان بطلها أريل شارون حين كان وزيراً للبنية التحتية, فتقدم هو ووزير الزراعة رفائيل إيتان في أوائل التسعينيات بتشريعات جديدة تسمح بتحويل هذه الأراضي الزراعية إلى ملكية خاصة, بدل نظام تأجيرها من قبل ما تسمى (إدارة أراضي إسرائيل), وسيعوّض المستأجرون لقاء هذه الصفقة بـ 51% من قيمة بيع هذه الأراضي, لينتقلوا من مزارعين مفلسين إلى أثرياء يقبضون ثمن أراض لم تكن لهم في يوم من الأيام.

وهكذا بدأت إدارة الأراضي ببيع أراضي اللاجئين الفلسطينيين في العام 1997 لبناء وحدات سكنية وتجارية يسكنها مهاجرون جدد قادمون من كل أنحاء العالم.

الأمر المؤلم أن الاحتجاج الوحيد الذي صدر ضد هذه الجريمة لم يصدر عن أيّ طرف عربي أو فلسطيني, فهؤلاء كما يبدو لا يعرفون حتى الآن أن حقوق اللاجئين في أرضهم محفوظة, في كل التشريعات الدولية بغض النظر عن جنسية المحتل, بل صدر عن اليهود الشرقيين الفقراء الذين حرموا من المشاركة في تقاسم هذه الغنيمة التي ذهبت إلى أيدي سكان الكيبوتزات, فشكّلوا جماعة رفعت دعوى أمام المحكمة العليا, وجاء في الدعوى المرفوعة قول هذه الجماعة: (إن هذه الأرض المتنازع عليها صودر معظمها من الفلسطينيين, ولهذا فإن تحويل حقوق ملكيتها إلى سكان الجماعات الريفية يعني إلغاء حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى الأبد).

وهكذا كما يصف د. أبو ستة, تتم التضحية بحل النزاع التاريخي بعودة أصحاب الأرض لإثراء مجموعة محتضرة وحركة تعاونية, مفلسة هجرها حتى الإسرائيليون أنفسهم.

 

محمد الأسعد