مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

منابع الكتابة

للذاكرة مفاتيح يمكن الدخول منها إلى عالم المرء للتعرف إلى صفاته وكشف أسراره، أو للحديث عن رغباته وأحلامه أو عن مخاوفه وجراحاته.

وفيما أنا أقف الآن, على هذا المرفأ الرمزي, مرفأ الذاكرة, كما أريد لي, يَحسُن عندي أن أتحدّث عن علاقتي بمهنتي في بعض أسرارها ومصادرها ومحطاتها, من خلال تجاربي وممارساتي فيما أكتبه أو أنتجه من الأعمال الفكرية.

وأجدني أعترف بداية أنه لا معرفة من غير تجربة, ولا حرف مما نخطّه وإلا وهو ثمرة الجهد والمراس أو الدربة. والكتابة التي لا تقف وراءها خبرات غنية أو تجارب عميقة وواسعة هي أشبه بالعبارات الخاوية, أو على الأقل تكون مفتقرة إلى الجدّة والأصالة.

ومع ذلك, فالتجربة علّمتني أن الكتابات لا تخلو من أفكار خصبة وخلاّقة تشتعل في الذهن على شكل حدوس وإلهامات هي التي تقف وراء المنتجات والمشاريع الثقافية, الأمر الذي يتيح القول بأن العمل الفكري هو ثمرة النشاط العقلي والجهد النظري بقدر ما هو ثمرة انبثاقات حيّة وفيوضات كيانية ووجودية.

وهذا شأن العلاقة بين الكاتب ومهنته: إنها ليست خياراً عقلياً يتخذه المرء بمحض إرادته, بقدر ما هي شيء يولد بعد مخاض طويل أو حدث ينفجر من غير حساب أو تخطيط.

هذا ما حدث لي بالذات, عندما باشرت الكتابة, لأول مرة, ذات يوم من شهر نيسان (أبريل) عام 1979, أي منذ عشرين عاماً على وجه التحديد, قبل ذلك لم أكن أحسب أنني سأزاول مهنتي ككاتب أو كمشتغل في حقل التفكير, ولكن ثمة شعوراً قد اجتاحني واستولى عليّ في لحظة فاصلة, فوجدت نفسي مندفعاً لكي أكتب, بعد قراءتي مقالاً لكاتب أثارتني أطروحته التي تتحدث عن الفلسفة بوصفها نتاجاً فكرياً عرفته كل الأمم والشعوب, هكذا دونما تمييز لزمان حدوثها ومكان تشكّلها, في حين أنني كنت, وماأزال, مع القائلين بأن الفلسفة هي حقل مميز قد نشأ وانتظم لأول مرة لدى اليونان القدماء, وأن لهذا الحقل, كسواه من حقول المعرفة, لغته ومنطقه, كما له قضاياه ومشكلاته, فضلاً عن رأسماله الخاص ورهاناته المتعلقة بعالم الفكر وصيغ العقل وخرائط الفهم.

لعبتي ونصيبي

وكانت تلك التجربة الأولى بداية الاستدراج والانخراط في سلك الكتابة. وهأنا الآن في طوري الحالي, صرت كاتباً محترفاً, إذ يندر أن يمرّ عليّ يوم من غير أن أمسك بالقلم والورقة. أستيقظ في السادسة صباحاً لكي أكتب حتى التاسعة, فتكون تلك جولة أولى. ثم أراجع ما كتبته عند عودتي إلى البيت, قبيل تناولي الغداء, بشيء من التعديل والتنقيح. كذلك أكتب ما يتيسّر لي عند العصر, أي بعد الانتهاء من فترة القيلولة والمطالعة.

ولهذا, أمست الكتابة شاغلي الأوّل ونصيبي الذي أرضى به, مع أن ما أكتبه لا يُغني ولا يُسمن.

صحيح أنه يعود عليّ بمردود رمزي هو هذه الشهرة التي أفوز بها, ولكن من حيث المردود المادي, فإن كل ما أحصّله من كتبي ومقالاتي لا يكفي لشراء ما أشتهي قراءته أو اقتناءه من الكتب الأجنبية, مع أنني أعمل في اليوم أكثر من عشر ساعات.

ولكنها لعبة الكتابة التي لا أتقن سواها, تستهويني وتستبدّ بي, حتى صرت أشعر بالنقص والفقد, عندما يحول مانع خارجي بيني وبين ما أريد كتابته, أو عندما أتعثّر في معالجة مسألة معينة, أو عندما لا أجد موضوعاً أطرقه. هذا مع أنني أشعر الآن بأن لديّ دوماً فائضاً من الأفكار تنتظر إخراجها من غياهب الذهن إلى عالم النص, وبأن ما ينقصني بالدرجة الأولى هو أن الأنا الجسمانية عندي لا تلبّي حاجة الأنا الفكرية, إذ الأولى يعتريها الوهن والقصور, جرّاء ما يصيب اليد والرأس والجسم كله من الكلل والتعب والألم, بعد يوم كامل من القراءة والكتابة, إضافة إلى الجدل والمناقشة مع الزملاء والأنداد.

لاشك في أن تلك المقالة الأولى التي كتبتها, كانت حدثاً بالنسبة إليّ, أعني أن أقرأ اسمي يتصدّر مقالتي منشورة في إحدى كبريات الصحف في بيروت, تحت عنوان عريض وجذّاب هو: جلالة الفلسفة, على ما آثر المحرّر يومئذ اختيار العنوان, فكان ذلك عندي مصدر حُبور لا يوصف. غير أن إرادة الكتابة لم تأت من فراغ ولم تكن مجرد صدفة, وإنما كانت نهاية سيرورة, تفاعلت فيها عناصر كثيرة ومتشابكة, منها, الحلم والأمل, ومنها الحرب والجدل, فضلاً عن القراءة والتدريس.

المعرفة والخوف

ولا مراء أن القراءة هي من أهم العوامل عند من يكتب وينتج, إنها مصنع الكتّاب, إذ لا كاتب يثمر ما لم يكن قارئاً من الدرجة الأولى, من هنا يقال بأن الكتاب الذي يؤلفه أحدنا يستبطن كل المؤلفات التي أتيح له الاطلاع عليها, تماماً كما يجرّ الشخص وراءه تواريخه, وكما يطوي العصر ما سبقه من العصور. بهذا المعنى ليست الكتابة سوى استثمار ناجع للنصوص التي يتغذى منها الكاتب, والتي هي رءوس أمواله التي يشتغل بها ويحسن صرفها واستغلالها في مختبره اللغوي أو في مصنعه الفكري, ولعل هذا ما صنعته في بعض كتبي أمثال (نقد النص) أو (نقد الحقيقة). بالطبع, ثمة فرق بين قراءة وأخرى: هناك قراءة خصبة تعد بالنماء والثراء, هي ما نقرؤه بشغف والتذاذ. هذه حالي- على سبيل المثال- مع كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي. لقد تمرّست بقراءة هذا الأثر الخارق, بقدر ما التهمت عباراته واستدخلت مقولاته, عبر قراءته غير مرة, لكل قراءة منها تعليقاتها على هامش النص بخط مختلف, واحدة بالأسود ,وأخرى بالأزرق, وثالثة بالأحمر, فكانت الثمرة أن خرجت عليه منه بالذات, بقدر ما قرأته قراءة حيّة, وأقمت معه علاقة جديدة وراهنة.

ويحلو لي أن أضرب مثالاً آخر هو علاقتي بكتاب (المراقبة والعقاب) للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو, لقد قرأته, وأنا المشهور بين معارفي بالجبن والخوف, على دويّ المدافع التي كانت تتبادل القصف بين حيّين من أحياء بيروت في شتاء عام 1976. إنه نص استثنائي جعلني أنسى الحرب الدائرة في الخارج من فرط فرادته وجدّته وروعته.

وفي ذلك شاهد على أن إرادة المعرفة أو الرغبة في الشهرة, كانت تتغلّب عندي في بعض الأحيان على مشاعر الخوف, فتدفعني إلى الخروج من البيت, وسط المخاطر, إما لشراء كتاب جديد أو لنشر مقالة في جريدة.

ولأن الشيء يذكّر بالشيء, أعترف بأن الفضل في شراء كتاب فوكو, يعود إلى زوجتي فاتنة عبدالله, ذلك أن النسخ التي وصلت منه إلى بيروت, من باريس, كانت على عدد أصابع اليد, وقد خفتُ على نفادها قبل الحصول على واحدة منها, فكان أن باعت زوجتي خاتمها, إذ كنّا ساعتئذ صفر اليدين.

وزوجتي التي وفّرت لي أجواء مثالية يحتاج إليها الكاتب, وإن لم تكن معروفة في الأوساط الثقافية, هي مجازة في الآداب, وذات شخصية مشهود لها بالذكاء والحضور في وسطها الاجتماعي.

ولعله من حسن حظّها أنها لم تندمج في المجتمع الثقافي الذي هو من أسوأ العوالم الاجتماعية من حيث صراعات الكتّاب, بعضهم ضد بعض, أي من حيث حروبهم الرمزية من أجل نيل الشهرة واكتساب المواقع. وتلك هي ضريبة المنازع النرجسية والنخبوية التي تتجسّد, لدى المثقفين, في ممارستهم الوصاية على القيم العامة, وادّعائهم أنهم أهل تنوير وإبداع, وحدهم من دون سواهم من الناس.

الجدل والأثر

والكلام على الصراع يقودني إلى مصدر آخر من مصادر الكتابة, يتعلق بالجدالات التي كنت أشارك فيها سواء بنقدي للغير أو بردّي على الانتقادات التي توجّه لي. وقد بدأت الكتابة بمقالة سجالية على ما ذكرت. ولاشك أن الجدل دليل على حيوية التفكير على الساحة الفكرية وفي فضاء المجتمع عامة, فهو كالشرر يوقد الفكر ويحرّك الأسئلة عبر احتكاك الآراء وتضارب الأطروحات.

وكانت بيروت, قبل الحرب, خارقة واستثنائية في منابرها الإعلامية الحرّة وأجوائها السجالية الخصبة وساحاتها النضالية المفتوحة, إذ كانت بؤرة تصطرع فيها المدارس الأدبية والتيارات الفكرية والمذاهب السياسية, وخاصة المشاريع الأيديولوجية الرامية إلى قلب الأوضاع وتغيير الواقع بواسطة الكتب والنظريات.

وقد انخرطت في تلك الفترة في أحد التنظيمات السياسية التي كانت تمتاز بثقافتها النظرية النقدية, كما تتميز بأخذها بالأحدث من الأفكار السياسية والشعارات الثورية.

هذه الاهتمامات والانخراطات والتوتّرات, مضافاً إليها انشغالي بتدريس الفلسفة, قد شكّلت معطيات فكرية ووجدانية, غنية, كنت أتفاعل معها وأتأثر بها, فكانت تعتمل في اللاوعي بقدر ما تختمر مع الوقت, لكي تنتج ذلك التحوّل الذي انتقلت معه من طور إلى طور آخر تكشّفت لديّ فيه مقدرات فكرية وإمكانات تعبيرية, على نحو فوجئت به, وأنا الذي أذكر بأنني كنت في المرحلة المتوسطة من دراستي أقوى ما يكون في الرياضيات, وأضعف ما يكون في التعبير والإنشاء.

وفي ذلك شاهد على أن علاقة المرء بإمكانيته الوجودية ليست علاقة مساواة ومطابقة, بقدر ما هي علاقة تخيّل وابتكار أو خلق وتحويل.

ومع ذلك, لكل شيء وجهه الآخر, فالجدل الذي هو دليل على حرية التفكير وحيويته, قد يتحوّل إلى مماحكات عقيمة, وقد يُمسي محبطاً ومقيتاً, عندما تتحكم بأطرافه علاقات التحاسد والتباغض, أو عندما تتغلب على إرادة المعرفة شهوة التفوّق والانتصار على حلبة المنافسة. ولذا فأنا الآن, مع اشتغالي بالنقد, بتّ أميل إلى تجنّب المناظرات والمواجهات المباشرة أو الشخصية, لكي أهتم بمتابعة ما تتركه كتاباتي من المفاعيل والأصداء على الساحة الثقافية.

فالأثر الفكري ليس هو الذي يقول لنا الحقيقة, بل هو الذي يخلق مجالاً للتداول أو يشكّل إمكاناً للفهم وإعادة التفكير.

الحرب والتنوير

وأنتقل من الحروب الرمزية المتمثلة في الجدالات الكلامية إلى مصدر ثالث للكتابة, وأعني به الحروب الفعلية التي عصفت بلبنان لسنوات طويلة. والحرب هي من الأحداث الخطيرة والمهمة التي تفعل فعلها وتترك أثرها في العقول والأجسام كما في الكلمات والأشياء. وهذا الأثر يتفاوت بين شخص وآخر: هناك أناس لم تزحزح الحرب عندهم قناعة, بل زادتهم الوقائع والمعارك تشبّثاً بمواقفهم وتعصّباً لآرائهم.

من جهتي, كانت تجربتي مع الحرب مختلفة, إذ هي أحدثت انقلاباً في رؤيتي للناس والأشياء, بمعنى أنه كان لها أثرها التنويري في عقلي, مقابل أثرها التدميري على أرض الواقع. وما كان يحتاج إلى عشرات الدراسات والتحليلات أو إلى جولات مضنية من المجادلات والمناقشات, لكي يظهر وينكشف, كانت معركة واحدة تكفي لكي ينكشف لي ويغيّر قناعتي.

من هنا, فإن المشاريع العقائدية والسياسية التي كانت منطلق العمل ومادة النقاش, إبان الحرب, كانت تتساقط في نظري مع سقوط القذائف وأثرها العنيف على حواسي وجسمي. ذلك أن ما يجري في الميدان كان بعكس ما يُقال في الخطاب, ولأن الممارسات كانت باستمرار عبارة عن انتهاك للمبادئ والشعارات. وهكذا فقد أكسبتني المعارك وعياً جديد بذاتي وأحدثت انقلاباً في كثير من مفاهيمي, على ما بيّنت ذلك في كتابي (خطاب الهوية) الذي هو أثر من آثار الحرب.

الحلم والمستقبل

غير أن تلك العوامل التي ذكرتها لا تستنفد حقيقة التجربة, إذ لكل حياة صدفها الوجودية, كما لها أسرارها الخفية.

وربما كان للحلم دورٌ كبير في اختياري واشتغالاتي. وأنا لا أذكر, في صغري, أنني تمنيت أن أكون طبيباً أو محامياً أو تاجراً أو نائباً في البرلمان, وإنما حلمت أن أكون بين الأدباء والعلماء والفلاسفة, مثل هذه المفردات كان لها سحرها ووقعها في نفسي, نظراً لأن الناس في بيئتي الأولى, وفي عائلتي, كانوا يضعون أهل العلم والمعرفة في أعلى المراتب والدرجات.

ولكن الحلم توارى وانطوى في قرارتي لفترة من الزمن. حتى عندما تخرجت من الجامعة وتعاطيت تدريس الفلسفة, وحتى أيضاً عندما مارست الكتابة المغفلة من غير توقيع أثناء اشتغالي بالعمل السياسي, لم أكن مع ذلك أفكر في مزاولة حرفة الكتابة أو مهنة التفكير. كان عليّ أن أنتظر بعد, حتى يستفيق الحلم النائم في رأسي أو يستيقظ الشخص الآخر, أي الكاتب الذي كان غافياً بين جنباتي.

وفيما أنا في مورد التذكرة, لا أنسى ذكر والدي الذي كانت أسئلته وطلباته الملحاحة تشحن ذاكرتي, إذ كان دوماً يفاجئني بسؤاله: ما جدوى القراءات الكثيرة إذا لم تثمر?! أو بقوله لي: لا قيمة لما تحصّله من المعارف والعلوم إذا لم تكتب شيئاً يؤثر عنك, ولذا, عندما صدر كتابي الأول (التأويل والحقيقة), عام 1985, وكنت قد تخطيت سنّ الأربعين, كتبت على النسخة التي أهديتها له: إلى والدي الذي انتظر طويلاً هذا الكتاب, فهو بعضٌ من زرعه الذي أينع وحان قطافه.

في النهاية, وكي أختم الكلام على ذاكرة, تتسع خزائنها بقدر ما تتعدّد ثقوبها, يسعني القول بأن ما نكتبه يتغذى من الحياة بنشرها اليومي وتفاصيلها اللامتناهية, بمناطقها المستبعدة وعوالمها السفلية.

وما نخاله أحياناً خارج دائرة الكتابة, من الهوامش والتفاصيل, إنما هو مصدر الكتابة ومنبع الحياة. ولذا, فالكاتب يأتي إلينا من مكان لا نـتوقعه, ويرتاد بـنا آفاقاً تدهـشنا. وهو إذ يكتـب سفر تكوينه, إنما يجـعل الحـياة تغتـني وتتضاعف بحيوات جديدة وعوالم مبتكرة.

 

علي حرب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




علي حرب





الحب والفناء





خطاب الهوية





أوهام النخبة





التأويل والحقيقة





الماهية والعلاقة