ملف: الشعر العربي المعاصر: الأساس اللغوي والثيولوجي لقصيدة «أنشودة المطر» للشاعر بدر شاكر السيّاب

ملف: الشعر العربي المعاصر: الأساس اللغوي والثيولوجي لقصيدة «أنشودة المطر» للشاعر بدر شاكر السيّاب

يطوِّف هذا الملف في أعمال أربعة شعراء يمثلون اتجاهات مختلفة لكنهم جميعًا يعززون مكانة الشعر في تجدده الدائم بين أصوات التأسيس والتجريب إلى فلسفة الشعر وإبداعه.

-------------------------------------------------

الأساس اللغوي والثيولوجي لقصيدة «أنشودة المطر»
للشاعر بدر شاكر السيّاب

«أنشودة المطر» من أبرز قصائد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، قد لا تكون هي الأهم في شعره، وهو ما نرجحه، لكنها تشكّل عتبة من عتبات هذا الشاعر المؤسس.

كتبها في الكويت، حيث كان هاربًا من نظام نوري السعيد، ونشرها لأول مرة في مجلة «الآداب» البيروتية، عدد يونيو 1954، مرّت القصيدة دون أن ينتبه لها أو يعلّق عليها في العدد التالي للمجلة ناقد العدد، وكان عبداللطيف شرارة، الذي أخذته إذ ذاك الدهشة بقصيدة نازك الملائكة المنشورة مع قصيدة السيّاب بعنوان «إلى وردة بيضاء» ويظهر السياب من خلال رسالة كان أرفقها بالقصيدة إلى الدكتور سهيل إدريس، مؤرخة في 25 / 3 / 1954، أنه شديد التودد، شديد الانكسار والاعتذار، وذلك على كل حال، من سمات شخصيته القلقة.

يقول فيها: «إني لخجول جدًا من أن قصيدتي هذه، ستشغل في مجلة الآداب حيّزًا قد يكون من الأولى ملؤه بما هو خير من قصيدتي وأجدى». لكنّ صاحب مجلة الآداب، بيقظته المعهودة سارع لنشر القصيدة، في حين أنها لم تترك أي صدى أو دهشة أو رعشة في قلم شرارة.

ولعل من أقدار الشعراء، على امتداد العصور، ألا يجدوا الكفّ الحقيقية التي تصافح قصائدهم، إلاّ بعد مسافة في الزمن والمكان والقراءة. فلا بد من أن يعثر النص الإبداعي الخصب، على قارئ يجدد حياة النص ويبتعثه من ركوده. فالقارئ المراوغ (hypocrite)، بتعبير بودلير، وهو شبيه الشاعر وأخوه، كما قال، هو أيضًا شريكه في تجديد النص. وأساس كلتا العمليتين هو الخصوبة وفي النص وفي قارئه.

كتب من بعد ذلك نقّاد وقراء في شعر بدر شاكر السياب، فقد كتب فيه الناقد الدكتور إحسان عباس كتابًا بعنوان «بدر شاكر السياب. دراسة في حياته وشعره»، وصدر في طبعته الأولى عن دار الثقافة في بيروت في العام 1929، وتوالت بعد ذلك قراءات الشاعر، وقصيدته المؤسسة «أنشودة المطر»، بالعربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية، بعد أن ترجمت إلى هذه اللغات الأجنبية، من أحدث القراءات الأجنبية لقصيدة السيّاب، قراءة الإيطالية «تيري دي يانغ» كتبتها بالإيطالية ثم ترجمت للإنجليزية بعنوان:

Terrri De young A new reading of Badr Shakir al-sayyab "Hymm of the rain"

وقد نقلتها عن الإنجليزية للعربية، الكاتبة العراقية سحر أحمد، بعنوان «قراءة جديدة لأنشودة المطر» عن شركة الغدير للطباعة والنشر، البصرة، 2011، عدد النسخ 250 نسخة في 33 صفحة (الدراسة بذاتها في 27 صفحة يليها نصّ القصيدة، بأبيات مرقّمة).

يلاحظ دقة المترجمة في كتابة الشواهد الشعرية العربية المختلفة، من شعر جاهلي أو من قصيدة «أنشودة المطر» بذاتها، بشكل صحيح، والدقة في نقل بعض الآيات القرآنية التي أوردتها الكاتبة، مع ذكر مرجعياتها في الآيات، كذلك الأمر فيما يتعلق بشواهد توراتية وإنجيلية من العهدين القديم والجديد، ومقطع بكامله من قصيدة «الأرض اليباب» لـ «ت.س.إليوت» وشواهد من كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر»، وترجمة سحر أحمد، زادت غنى ببعض ما أوردته من ملاحظات وهوامش متعلقة بظروف نشر القصيدة لأول مرة، واطلاعها الشخصي على كتاب «الغصن الذهبي» في نسخته التي كان يمتلكها السياب، وقد رأتها عند ابنة الشاعر «آلاء»، ولاحظت أن هذه النسخة تظهر وكأن السياب لم يقرأها أو يمسسها، ما يترك علامة من الشك حول تأثره بأساطيرها التموزية في الخصب.

هي بكل حال ملاحظات واحتمالات مهمة، ولكن المحور هو في دراسة الإيطالية «تيري دي يانغ» نظرًا لخصوصيتها وجدّتها.

المطر: الكلمة المشعّة في القصيدة

المطر في هذه القصيدة، هو بشكل أو بآخر، عراقي. نستطيع أن نلاحظ أن السياب، ابن قرية «جيكور» في جنوبي العراق، حيث الأهوار والأمطار والفلاحون، قد تعامل مع «المطر» كما تعامل مع «جيكور» تعاملا مزدوجًا. فهي في اندثارها رمز للموات، وفي اخضرارها رمز للحياة. كذلك حال المطر في القصيدة، فهو اثنان: مطر رحيم هو عنوان الحياة، ومطر رجيم هو عنوان السخط والموت.

لا نستطيع أن نفصل ذلك عن الإيقاع، أو النقر الإيقاعي للكلمة، لاسيما حين يستعملها السيّاب في أكثر من موقع من القصيدة، على صورة نواة صوتية مكرّرة (نوتة بالتعبير الموسيقي) حاذفًا منها «الـ» التعريف:

مَطرْ
مَطرْ
مَطرْ

فكأنه يصغي لحبات المطر وهي تنقر على السطوح أو في الأزقة أو المستنقعات، أو على سعف النخيل.

وفي كل الأحوال، فإن لجوء الشاعر للرمز والأسطورة، أنقذه من الهجاء السياسي أو الخطابة السياسية التي كانت رائجة في الشعر السياسي في خمسينيات القرن المنصرم (العشرين) في العراق.

إن كلمة «المطر» هي الكلمة المشعّة في القصيدة. وهي أيضًا الكلمة المشعة في بحث «تيري دي يانغ». وهي لُقية نقدية في دراستها. فالسياب استعمل كلمة «المطر» و«مطر» في قصيدته، ببعدين متعارضين: بُعد تدميري هو بُعد السيول والعواصف الماطرة، وبعد إحيائي انبعاثي هو بعد الخصب، والبعدان يتماوجان في القصيدة على امتداد أسطرها الـ 133.. فتارة يقول: «سيعشب العراق بالمطر»، وطورًا يقول: «مطر/مطر/ مطر/.. وفي العراق جوع».

والأرجح، على ما نرى، أن استعمال الشاعر كلمة «مطر» بوجهيها المذكورين، أو بوجوهها الكثيرة، لم يكن استعمال اختيار لغوي أو قصد لغوي على وعي بالفرق بين «مطر» و«مطر»، بل كان صدى لحال من التعارض الذي لاحظه السياب، بين مطر كان يعتبره على امتداد النص مصدر خير الأرض وانبعاثها بالماء من موتها، وبين موت الناس في العراق، جوعًا، وهم محاطون بالمطر.. حيث يذهب خير مطر العراق للجراد والغربان:

مطر
مطر
مطر
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشوّان والحجر
رحى تدور في الحقول
حولها بشر

الفهم اللغوي والثيولوجي للقصيدة

ما وقعت عليه الدارسة «تيري دي يانغ» من معنيين متعارضين لمفردة «المطر» في القصيدة، وقعت عليه بدقّة فهمها اللغوي، وإحاطتها بالمفاهيم التاريخية والدينية (اليهودية والمسيحية والإسلامية) لمفاهيم العاصفة والمطر المصحوب بالرياح، وهو مطر مدمّر.. بل هو مطر العقوبة الإلهية من خلال مظهر من مظاهر الطبيعة. ولذلك إشارات في الكتب المقدّسة للديانات الثلاث، يقابله المطر المحيي أو مطر الخصب وعودة الحياة إلى الأرض بعد موتها.. إنه مطر الأساطير التموزية بامتياز.

نرجّح أن الوعي اللغوي والتاريخي للباحثة، هو الذي كشف عن أبعاد المطر كمفردة مشعّة في قصيدة السيّاب، ولا نحسب أن الشاعر كان على وعي مسبق ودقيق بهذه الفروق، لكنّ حدسه هو الذي قاده إلى المفارقة والتعارض، لكي يعانق اللغة والميثولوجيا عناقًا إبداعيًا.. فيلتحم لا وعيه بوعي اللغة والتاريخ.

إن وعي الناقدة غاص على حدس الشاعر والتقطه كما يلتقط الصيّاد لؤلؤة. والعدة المعرفية التي تمتلكها حملتها في اتجاهين مهمين في تحليل أبعاد المطر، فهي تشير بجدارة إلى المعنى التدميري الذي يحمله مقرونًا بالعاصفة، من خلال آيات في القرآن الكريم، لاسيما في سورتي «هود» و«الحاقة»، ففي الآية 67 من «هود»، أخذ للذين ظلموا بالصيحة، وفي سورة الحاقة الآية 6 وما بعدها حتى الآية 11، وصف لهلاك «ثمود» بريح صرصر عاتية، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (الآية 7) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (الآية 11).

أما لناحية لمطر واهب الحياة، وإحدى عطايا الله، فثمة ذكر له في الآية 11 من سورة نوح يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وفي الآية 68 من سورة «الواقعة» أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ وقوله تعالى لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (الآية 70)، حيث تتجلى قدرة الله في آيتين متقاربتين، في جعل الماء عذبًا محييا وأجاجًا مالحًا، مميتًا أوغير صالح للحياة.

والحال أن اللفتة اللغوية الدقيقة للباحثة، للمطر بوجهيه نجد صداها في معاجم العربية، كتاج العروس للفيروز آبادي، ولسان العرب لابن منظور. ففي «ابن منظور» تغلب المعاني التدميرية للمطر كعقوبة إلهية، بصفته وليد العاصفة أو الزوبعة على معاني الرحمة، فيشير إلى أن الماء حين يكون «رحمة» ويكون مطرًا تسميه العربية «الغيث».. أما المطر، فهو للوهلة الأولى نذير عقاب إلهي.

وتشير الباحثة إلى أن السيّاب، ربما يكون قد انتبه للمطر كوليد للعاصفة المدمّرة، الوارد في كتاب «أيوب» من «التوراة»: «حيث يتكلم الرب من الزوبعة»، أو العاصفة الرؤيوية كما وردت في النصوص المقدّسة، في الإنجيل بعهديه القديم والجديد، فضلاً عن القرآن، لاسيما أن الشاعر عرف عنه أنه غرف من رؤى ونصوص إنجيلية كما في قصيدة «المسيح بعد الصلب».. لكن التوغل في الحفريات اللغوية والثيولوجية للباحثة، يقودها إلى فكرة أخرى جوهرية تتعلق بربط تفترضه قائمًا بين العاصفة على الخليج في مطر السيّاب، والعواصف التي وصفها بعض شعراء الجاهلية في معلقاتهم، مثل معلقة امرئ القيس ومعلقة لبيد، فإن امرأ القيس في الأبيات الأخيرة من معلقته اللاميّة، يصف ما يشبه السيل بسبب غزارة الأمطار، ويستعمل فعل «يسحّ» للمطر، ويصوّر جذوع النخيل وهي غارقة في الماء.. واللفتة الذكية هنا تقوم بالربط بين عاصفة السيّاب في مطريته، وعاصفة امرئ القيس في خاتمة معلقته، لاسيما أنّ لفظة «تسحّ» ترد في آن واحد، في المعلقة القديمة والقصيدة الحديثة. فهل زوبعة المطر الجاهلي هي التي هبّت على قصيدة السيّاب لاسيما أن صورة النخيل هنا وهناك، تكاد تكون واحدة؟

إلى هذا الربط بين الشعر العربي في الجاهلية، وقصيدة السيّاب، تضيف الباحثة سؤالاً وتعتبره بمنزلة لُقيَة، فلماذا بدأ الشاعر العراقي الحديث في أنشودة المطر، بما نسمّيه «النسيب» وهو الغزَل، مخاطبًا امرأة بقوله:

عيناكِ غابتا نخيلٍ
ساعة السَحَر
أو شرفتانِ راح ينأى عنهما القمرُ

فهل اتبع الشاعر من جديد، وفي إطار الحداثة، نهجًا جاهليًا، أو تقليدًا عربيًا قديمًا بابتداء القصيدة عامة بالنسيب أو الغزل؟ وتتوغل لتنتهي إلى أنّ مطر النسيب (الغزل) الذي يبدأ به الشاعر، وهو مطر النعمة، لا يمكث على حاله في تالي أقسام القصيدة، ومقاطعها، إذ إنه لا يلبث أن يتحوّل إلى ماء عاصفة مدمّرة، تغرق النخيل والحقول والبيوت، أو إلى ماء مالح هو الدمع، فالربط بين المطر والدمع يرد في أكثر من موقع من القصيدة:

«فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء»
«.. الغيوم ماتزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ»
...«.. وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر»
...«أسمع القرى تئنّ والمهاجرون
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج والرعود منشدين:
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
ثم اعتللنا خوف أن نلامَ بالمطر
في كل قطرةٍ من المطر
وكل دمعة من الجياعِ والعُراة..»

إذنْ ثمة نقلات متكررة يقوم بها السيّاب على امتداد القصيدة، من المطر إلى الخصب، ومن المطر إلى الدمار، ومن المطر إلى الدمع، ومن الموت إلى الحياة، ومن الحياة إلى الموت، وهكذا فإننا لا نعرف في النتيجة، أي مطر قصد إليه الشاعر؟ أهو المطر النعمة؟ أم المطر النقمة؟ ولماذا هو حائر ومتردد بين المطرين؟

تصل الباحثة في دورانها التحليلي الإبداعي لأنشودة المطر، إلى مطر ثالث يضاف إلى ما ذكرنا، وهو الذي تشير إليه في خاتمة القصيدة، في المقطع التالي:

«مطر
مطر
مطر
في كل قطرةٍ من المطر
حمراء أو صفراء من أجنّة الزهَرْ
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار موسم جديد
أو حلمة تورّدت على فم الوليد
في عالم الغد الفتيّ واهب الحياة
ويهطل المطر»

إنّ هذه الخاتمة، لأول وهلة، تبدو كأنها تميل بالشاعر إلى الحياة والغد الفتيّ، في مقابل الدم والجوع والعري، فلربما حسم الشاعر اختياره في النهاية، بعد تردده المرير ولعثمته تجاه ما يجعل الحياة ممتلئة بوعود المطر، هذا التردد الذي نجد صداه في حذف مفردة من سياق لا يتكرر حرفيًا، بل يأتي به الشاعر عامدًا حين يكرر المقطع أمام الخليج، حاذفًا منه في المرة الثانية لفظة «اللؤلؤ» التي توحي بالأمل.

يقول:

«أصيح بالخليج يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
يا خليجْ
يا واهب المحار والردى».

فلماذا أسقط الشاعر اللؤلؤ؟ لاسيّما أن ثمة أسطورة شعبية قريبة من شعوب الأبيض المتوسط، تقول إنه في أبريل من كل عام، حين تنحسر الأمطار، وتهبّ العواصف، يخرج المحار من أعماق البحر إلى السطح، حيث تفتح المحارة صدفتها، وحالما تسقط في جوفها حبة المطر، تعود إلى القاع حيث تكبر القطرة وتصير لؤلؤة.

لماذا حذف السيّاب اللؤلؤ وأبقى المحار الفارغ؟

ثم لماذا يستعمل فعلاً غير يقيني هو «أكاد»، حين يتحدث عن وعود المطر؟ «أكاد أسمع العراق يذخر الرعود..» .

في ذلك ميل، على الأرجح، إلى رؤية سوداء للقصيدة. في هذه الرؤية السوداء تسبح مفردة المطر السيّابي.

وتبحث الباحثة عن أبعاد وأعماق كل لفظة في القصيدة أو جملة أو سكوت.. وتربط بين المفردة وبعدِها اللغوي وذاكرتها التاريخية أو الثيولوجية أو الميثولوجية. لا تترك كلمة على سجيتها. هي تبحث، مثلاً، في كلمة «المهاجرين»، التي وردت في المقطع التالي:

«أكاد أسمع القرى تئنُّ والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج والرعود منشدين..»،

فتربط بين هجرة الفقراء العراقيين المهاجرين في الخليج العربي، والهاربين من الجوع والاضطهاد، وهجرة المسلمين الأوائل من مكة إلى المدينة هربًا من عُتاة قريش. وتبتكر في قلب أنشودة المطر، أنشودة أخرى تسميها «أنشودة المهاجرين»، تتتبعها بالرصد والتحليل. تجعل من «أنشودة المهاجرين» صوتًا للجماعة، في مقابل صوت المتكلم الشاعر الفرد، وتجري مقارنة بين الصوتين، فصوت السيّاب غالبًا فردي ذاتي حزين خفيض في حين أنّ صوت الجماعة إنشادي عالٍ، والصوتان يتجاوران، لكنهما لا يتقاطعان، على ما ترى، فصوت المتكلم الناطق في القصيدة، هو أقرب ما يكون للواقف على الأطلال، بكّاء ويائس، في حين أن صوت الجماعة هو الذي أملى نهاية القصيدة، حيث تتجمّع من قهر هذه الجماعة وأحزانها شُبهة أمل.

هي لا تحسب أنّ نهاية القصيدة تنطوي على الأمل، وتعتقد أن الصوت الأخير أو الثالث للمطر هو صوت غامض وملتبس، بل لعله حيادي، لا يمدّنا بشعور بالفرح بمقدار ما هو القهر، ولا بالأمل بمقدار ما هو الريبة.. إذ إن الشاعر لا يتخلى عن المعنى المتقلّب الرجراج لمفتاح قصيدته «المطر».. فأي مطر هو الذي يهطل. وكيف؟.
--------------------------------
* شاعر وكاتب من لبنان.

-----------------------------------------

قُضِيَ الأُمورُ وأُنْجِزَ المَوعودُ
واللهُ ربّي ماجدٌ محمودُ
ولهُ الفواضلُ والنوافلُ والعلا
ولَهُ أثيثُ الخَيرِ والمَعْدُودُ
ولقد بلتْ إرمٌ وعادٌ كيدهُ
ولقد بلتهُ بعدَ ذاكَ ثمودُ
خَلُّوا ثِيابَهُمُ على عَوْراتِهِمْ
فهُمُ بأفنِيَةِ البُيُوتِ هُمُودُ
ولقد سئمتُ منَ الحياةِ وطولِها
وسؤالِ هذا الناسِ كيفَ لبيدُ

لبيد

 

محمد علي شمس الدين*