قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية أصوات شابة في القصة العربية

اختارها وعلق عليها: د. سليمان الشطي

          قصة همس لخالد حسين عاشور، تتوغل القصة في ثنايا سطوة وأثر القمع في أشد المناطق حساسية، وهو قمع مركب: قمع النوع - المرأة، وقمع الطبيعة - غريزة الجنس، وقمع اجتماعي - وسط مسحوق اجتماعيًا: الطبقة الدنيا التي تعيش في القاع. لقد تجلت مقدرة الكاتب في صهره هذه القضايا وتقديمها من خلال بنية قصصية محكمة تشي بقدرته على الإمساك بفنية القص واختياره لنموذج مجسد لهذا القمع الثلاثي من خلال أبرز وأهم المقموعين في عصرنا: المرأة، وقد عمّق هذا الاختيار بوضع يده على ملمح دال ومعبّر عن حال ملازمة لهذا الانكسار، تمثلت في كبح أداة التعبير عن النفس فكرًا وشعورًا! الصوت، فثمة إرث متحكم فينا يتجه إلى تحسين إخفاء صوت المرأة، فالهمس منها مرغوب مطلوب مفروض.

***

          قصة دراما الأسير لعبدالعزيز بركة ساكن تقدم المشهد القصصي عى أساس غرائبي انسجم مع عالم افتقد المنطقية، فعالم حروب الفتن، وهنا الحرب في إقليم دارفور، التي انتشرت في عقدنا هذا تفتح الباب واسعًا للخيال القصصي المهيأ لها، ففي عالم الموت اللامعقول ينهض رجل ميت ويكسر عنق قاتله ليعود إلى الموت مرة أخرى، إنه انتقام الأموات من القتلة.

***

          قصة الوجه الغريب لفاضل عباس الموسوي، حظيت فيها المقابلة بين تشويه الشكل وجمال الروح بأكثر من التفاتة من الكتاب، نذكر منها أحدب نوتردام وصورة دوريان جري. وتدخل هذه القصة - الوجه الغريب - الحيز نفسه، بتوظيفها الخاص لحادثة التشويه الخارجي، فتمنحه جدة، وتنفذ من خلال آثاره إلى أكثر من معنى، فيمكن الربط بينه وبين حالة التشويه المنتشرة في الحياة من حولنا، فالوجه الإنساني المشوّه مظهر خارجي يمكن أن يتوارى ويغيب عندما تنفتح مجالات الجمال الأخرى الساكنة في الطبيعة، فحينما بحث صاحب هذا الوجه المشوّه في التراب، حرث الأرض وحمل الماء إليها، اخضرّت وزهت الطبيعة، فاختفى التشويه.

***

          تستحضر قصة وادي الذنوب باقتدار نسيج القص الحكائي المتوارث والساكن مستقرًا في المخيلة الشعبية، حيث تتجمع خيوط أحداث الحكاية لتقدم ما يشبه أمثولة موحية دالة على فكرة عامة تفضي إلى رسالة مضمرة. فهي تستحضر نجاح حكايات المخيلة المتوارثة حين خرجت من حيز الأحداث الواقعية المألوفة إلى صنع حدث آخر مواز ومشابه لها، ولكنه يخرج من الإطار الحرفي إلى شكل يقترب من الحدث الأسطوري المجازي. نجح الكاتب في توظيف هذا الشكل الحكائي المتوارث، فاستخدم تلك البنية مسبغًا عليها توازنات ومحققًا إسقاطات على حاضر قائم، فثمة نسج أساسي قائم على خلق علاقة متناسبة بين الذهب والذنوب، الثروة والممارسة، وهي ممارسة، بل مسابقة في الدناءة، أو نفي القيم، لتكتمل الحلقة، ويتحقق الضياع الكبير، الخيانة العامة الشاملة، وفيها تمثلت قضية حاضرة معاصرة، فساد الرءوس.

همس...
خالد عاشور - مصر

          البيت حجرة، بالضبط حجرة، تحت السلم تستقر، نعم تحت السلم، الصاعد والهابط يمر عليها، والليل يجيء، دائمًا يجيء، وإذا جاء لا يجيء بمفرده، أبدًا لا يجيء بمفرده، فمعه يجيء الصمت، ذلك الصمت الممل، الصمت القاتل، وحين يسود الصمت تسكن الأنفاس، ولكن بلا توقف، فقط تسكن، ويأتي دورها لتمارس نفس الطقوس اليومية..!!

          ككل يوم قبل أن يأتي تستعد لمجيئه، لأنه حين يجيء تكون الدنيا ظلاما، وفي الظلام يبحث عنها، ككل يوم يبحث عنها، يعرف مكانها وماذا سيفعل بالضبط دون صوت..!! فالليل سكون، وفي السكون يكون للهمس صدى وهي تخشى أن يسمعها أحد حتى تلك الأيام التي تأتيها دورتها الشهرية، حتى تلك الفترة لا تتكلم وتقول إنها أتتها، فقط في همس تفهمه، فقط في همس، وكأن الهمس أصبح عادة، وكأنه تلك اللغة التي لا تعرف غيرها.. همس.. همس.. همس...

          مرات قلة راودتها الفكرة، في البدء كانت مجرد نبتة بداخلها ما لبثت بعدها أن نمت حتى صارت ماردًا، والفكرة قد تكون بسيطة بالنسبة لها، غير أن الهمس الدائم يعود فيخبرها بأنها مستحيلة، الفكرة سؤال، والسؤال: لماذا لا تتكلم وتصارحه ذات مرة أنها ملت ذلك الصمت؟ لماذا هي محرومة من أن تبوح بآهاتها وأناتها؟ أكتب عليها الهمس؟ في الحجرة همس؟ وحين يسافران إلى أهله أو أهلها همس؟! في كل مكان أصبح الهمس هو السائد، ولكنها في كل مرة تعجز عن أن تتكلم وتلوذ أخيرا بالهمس والصمت، وكأن الهمس خلق معها حين خلقت وكتب عليها..!! ومع الأيام تموت الفكرة غير أنها أحيانا تطل عليها من قبرها لتراودها قليلا وتعود إليه، غير أن الفكرة ذاتها عادت للحياة حين جاء..!! هو شاب.. في الثانية والثلاثين، له شارب كث، وبشرة سمراء، طويل القامة كفنار، يمر عليها مرتين، مرة في الصباح والأخرى وهو عائد في المساء، يسكن بالدور الثالث، كثيراً ما يبعث في طلبها لكي تبتاع له حاجياته، كثيراً ما نفذت نظراته إلى داخلها، سُمعته في العام الذي قضاه تصلها تفصيلاً من زوجها، الصاعدات والهابطات إليه لا يمتن إليه بصلة، برغم صغرهن جميلات ممتلئات بالأنوثة، برغم صغرهن بعيونهن تبرز آلاف الرجال، من النظرة الأولى لهن كانت تشعر بأنهن عاهرات، من النظرة الأولى تحسدهن على ممارسة حقوقهن بصوت يخلو من الهمس الذي تحيا فيه، وهي المحرومة برغم أنها أنجبت طفلين أحدهما في السادسة والآخر في الرابعة، الهمس أصبح بالنسبة لها قاعدة، أما ما عداه فهو شاذ، لا تتخيل حين تخلو إلى نفسها أن هناك نساء يمارسن ذلك بلا صوت.

          غصة راودتها يوم دعاها ساكن الدور الثالث، مصدر الغصة أنه طلب منها تنظيف الشقة، شقته دائماً نظيفة، رأتها أكثر من مرة في صعودها وهبوطها بينما يكون الباب مواربًا، إذن لما تكون الدعوة؟ وما هو سببها؟ تخشى نظراته وتحس بأنوثتها أنها نظرات ملوثة، تعلم تمام العلم أنه يريدها، الأغرب أنها بالنظرات أصبحت ترتاح إليه، فقط ترتاح إليه، غير أن الغصة التي زارتها ذلك اليوم لأنه لم يكتف بطلبه تنظيف الشقة فحسب، أبدًا لم يكتف، بل عبر عن إعجابه بأنها «وردة ترفل في الطين» وأنها لو كانت زوجته لجعل لها قصرًا تسكن فيه ولألبسها أفخر الثياب، ساعتها لم تفرح بأن قيمتها قصر وثياب فاخرة، مبعث فرحها أنها تخيلت نفسها والهمس بعيد عنها، غير أنها لم ترد عليه بالإيجاب وانسحبت تهبط درجات السلم في سرعة لتدخل حجرتها التي تستقر تحت السلم وتغلق بابها عليها ليعود الهمس يرفرف بجناحيه في سماء الحجرة.

          يومًا وهو عائد أنبها لأنها لم تلب طلبه في تنظيف الشقة، تأنيب آخر في اليوم الذي تلاه، غير أنها في اليوم التالي لذلك اليوم وهو يغادر باب العمارة استوقفته، طلبت منه مفتاح الشقة لتنظيفها في غيبته..

          صعدت هي بعد أن خرج، فتحت باب الشقة، الشقة فخمة، تنعم في الثراء، قطع من ملابس داخلية أنثوية ملقاة في كل ركن من أركان الشقة، أمسكت إحداها، تشممت العطر المنبعث منها، أزكم أنفها لشدته فراحت تسرح في صاحبته، أتكون مثلها تمارس حقها بالهمس؟!

          حين عادت إلى حجرتها شعرت بأن هناك نشوة ما بداخلها، فرحا ما يشع من جنباتها، مات الهمس وها هي للمرة الأولى تجرب بلا همس...

          في الأيام التالية للقاء الذي تم كانت تتحاشى رؤيته وهو هابط أو صاعد...

          لم تتحمل العودة إلى الهمس فصعدت بإرادتها لتعلن بداخلها نهاية الهمس بلا رجعة، أكثر ما كان يريحها ليست قوته، كل الذي كان يريحها أنها تمارس معه الشيء ذاته بلا همس.

          بالليل حين جاء زوجها بحث عنها في ظلام الحجرة، هنا كان يعود الهمس الكئيب، نفس الفحيح القديم يعود، في همس يطلبها، هذه المرة لم يطوق جسدها كعادته، هذه المرة طوق رقبتها.. همس تلو همس وهو مازال مطبقا على رقبتها بأصابعه، تشتد قبضته أكثر فأكثر، تتحشرج أنفاسها، وفي همس أيضًا أخذت تدور بها الدنيا، الهمس يعلو حولها ويأتيها بهمسات الماضي، أمها وأبيها وهما يهمسان، في همس تسمع صوت ساكن الدور الثالث يصل أذنيها، تتذكره وتتذكر كسرها للهمس بين يديه..!!

          للمرة الأولى بينها وبين زوجها تخرج عن الهمس حين أطبق على رقبتها، للمرة الأولى تأخذ في الصراخ، يخرج صراخها مبحوحاً ضعيفاً تتبعه آهات وصرخات مستغيثة هذه المرة، غير أن صرخاتها وآهاتها تضعف حتى تتحول إلى همس كلما اشتد بقبضته أكثر، وفي همس أيضًا تسكن أنفاسها وتتوقف، فقط في همس.

دراما الأسير
عبد العزيز بركة ساكن - السودان

          لقد رأيت ذلك بأم عيني، ولولا أن رأيت لما صدقت، فسوء الظن في ما يحكى فضيلة: أنا أؤمن بقول هذا القائل.

          انتم الآن سوف لا تصدقون، لكم الحق في ذلك ولا جناح عليكم إذا أنكرتم، ولكن ما سوف أقصه عليكم حدث بالفعل وأمام عشرين رجلاً بكامل أهليتهم، عدول، وسيدتين راشدتين، وكثير من الجرحي وعدد لا يستهان به من القتلى، نعم القتلى ولسوف تعلمون لماذا أشهد القتلى أيضًا.

          انتهت المعركة الصغيرة التي أيضًا أمنحها بكرم لقب التافهة، حيث خضناها ضد المسلحين المتمردين غرب جبل مرة بإقليم دارفور، تحت سلسلة جبلية بغيضة لا ماء فيها، لا ظل ولا حتى هواء يحرّك عناد أشعة الشمس الحارقة المرابطة على مركز رءوسنا، العنيدة الماكرة، مازالت رائحة البارود تعلق في الهواء، أنين الجرحى، وصرخات المصابين تتردد في الفراغ مربكة سخونة الهواء الساكن الثقيل الذي يبدو كأنه في حداد أبدي لموت كل شيء في المكان، هذا المكان الذي كان جنة حقيقية قبل الحرب، كنا مرهقين وخائفين من كل شيء، حتى من نصرنا السريع غير المتوقع واللامفهوم، حيث كنا نتوقع الهزيمة أو النصر الصعب، حيث إننا كنا محاصرين ولاخيار لدينا: إما الموت البطيء وإما الحرب، حيث كادت أن تنفد ذخائرنا ووقود عرباتنا، نفد ماؤنا وطعامنا، ولم يستطع الطيران فك الحصار المضروب علينا من قبل محاربين يعرفون المكان أكثر من ثعابينه وذئابه، نسمع أصواتهم وضحكهم، تصيبنا رصاصاتهم ولا نراهم، وفي أول هجوم يائس منا عليهم، انتصرنا، وهاهي جثث موتاهم، وهاهم جرحاهم يصرخون، ولكن أين بقية المحاربين؟

          قمنا بوضع الجرحى تحت صخرة كبيرة تلتوي في شكل كهف صغير، ولكنه يمتد عميقًا في الجبل، ربما استخدمته بعض الوحوش وجرا، أيام أن كانت هنالك وحوش ومخلوقات برية، تركنا الموتى يستأنسون بالغياب والشمس، رددنا لتأوّهات جرحاهم وندائهم ببعض الشتائم القلقة المتوترة وربما الركلات، ولو أن موسى أو ما نسميه بموسى الرحيم، قام بإسعاف كل الجرحى دون استثناء بمهارة وسرعة إتقان، ومسئولية ورحمة معهودة فيه ووحده، تعلم ذلك من منظمة الصليب الأحمر الدولية، هكذا كان يقول دائمًا، وكل شيء كان سيمضي على كل حال، لولا أن الجاويش مهدي أصرّ على قتل أحد الجرحى الأسرى، قال إنه يستحق الموت، لسبب يعرفه هو وحده، وسوف لا يخبر به زول.

          قيل فيما بعد إن الأسير الجريح أشار إلى المرحوم مهدي بالأصبع الوسطى.

          كالعادة تصدى له موسى الرحيم، حيث إنه الشخص الوحيد الذي يتبنى كل الأفكار التي تحرم الإساءة للأسرى، قتلهم أو تعذيبهم أو تركهم للموت بعدم إسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه وبلسانه وبيده أيضًا بدا بمشادة كلامية حادة، ثم تدافعا بالأيدي، ثم استخدم الجاويش مهدي دبشك بندقيته، وبركلة بهلوانية ألقي موسى الرحيم على الأرض، وعندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحيفين الطويلين اللذين هما من كتيبة واحدة، تدخلنا الستة عشر رجلا وامرأتان لفضها، والفصل بينهما، كان مهدي قد حمل بندقيته معمرة، وفي وضع إطلاق النار واتخذ موضعًا حربيًا دفاعيًا، هجوميًا خطيرًا بالقرب من صخرة الجرحى، الذين نسوا آلامهم في الحال، توقفوا عن التأوه، والصراخ وطلب الماء وتبادل الوصايا، وأخذوا يحملقون بعيون زائغة مفتوحة إلى آخرها: فينا، طلب المرحوم مهدي من الجميع الجلوس وإلا: لحستكم كلكم واحد واحد.

          جلسنا، أمرنا بأن نضع أيادينا على رءوسنا، وأن ننظر في اتجاه الشمال مقابلين إياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك: زي الهواء. فعلنا، هددنا، بأنه إذا تحرك أي منا، أي حركة مريبة كانت أم صديقة لأي اتجاه كانت، فسوف: أشربه.

          أومأنا برءوسنا أن: فهمنا وأطعنا. عندما سمعنا صوت الرصاص، بالرغم من كل التهديد والوعيد، اتجهنا جميعًا في لحظة واحدة نحوه، كان يدوس برجله على الأسير الجريح الذي يرقد ميممًا وجهه شطر الأرض ورأسه غارق في الرمل الأصفر الحارق، تحت ثقل بوت وجسد المرحوم مهدي، وفي اتجاه القلب كان يطلق الرصاص: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ... ست رصاصات، قاتلات نافذات من كلاشنكوفه، وقد صمت الأسير الجريح نهائيًا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية وحقيقية، ولاشك فيها مطلقًا.

          وعندما رفع مهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت، نهض الأسير الجريح الميت، أغبر، أشعث، طويلاً مرعبًا وصامتًا، وقف مهدي مندهشًا، فاغرًا فاه في بلادة بينة بئيسة، صرع الأسير الجريح الميت مهدي بلكمة واحدة قوية، فأرداه على الأرض، بحركة أخرى جيدة، قام بقلبه على وجهه، وبحركة بطيئة وضع رجله اليمنى على ظهر مهدي، أمسك رأسه، بكفيه الكبيرتين، أداره ناحية اليمين في رفق وعناية فائقة، ثم بذات الرفق والعناية الفائقتين، أدار الرأس ناحية الشمال، ثم في سرعة البرق، وبمهارة شيطان رجيم، حني الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلى فرقعة عظام الرقبة، وهي تتحطم مصحوبة بأنين مهدي البائس، بينما كانت بعض أطيار الكلجكلج تصيح عابرة السماء العارية نحو الشرق، رقد الرجل الأسير الجريح الميت، تمطى في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ: ثم مات مرة أخرى.

الوجه الغريب
فاضل عباس الموسوي - العراق

          لم أنظر الى وجهي سنوات طويلة، ربما تجاوزت السنوات العشر. دافع عميق في ذاتي المحطمة جعلني أهجر الترف الذي رماني على حدود المدينة، في وديان كانت قاحلة قبل أن أنصب خيمتي المرقعة. أول وتد دخل الأرض الموحشة كان وتدي، أرض بكر طاهرة استقبلتني بمودة. قالوا لي وأنا صغير إنها أرض أجدادي، إنها كنز عظيم لا حدود لها غير الأفق والسماء. إرث أزلي للآتين. بقيت أبحث في التراب، أنام على التراب، أحيانا يدثرني، أشم رائحته، يخنقني عندما يكون قاسيًا، يؤذيني ويبكيني، وعندما ترشه السماء بقطرات باردة يذكي أنفاسي بضوعه. حرثت الأرض عشر سنوات، حملت لها الماء على ظهري وظهور الحمير التائهة هناك. اخضرت هنا وازدهرت هناك أراقبها كل يوم بشغف وشوق، لم أكن مجنونًا وإنما كرهت الضجيج، لم أكره الضجيج لأني رقيق العواطف ولكني أصدرت أمرًا بعقل حكيم واثق.

          لم أر وجهي سنوات طويلة، شغلتني الأرض الخضراء. أدهشتني السماء ليلاً بصفائها وبريق نجومها وإشراق القمر بدرًا يرسم مساحات فضية على سفوح التلال وكل تكور مكشوف. وأنا راقد في ليلة، شممت العشب الذي ارتدته الأرض في يوم ربيعي، بعدها بدأت عواصف ضجيج وصخب تفزعني. يحدث هذا كل ربيع. تبدأ الحياة بصخب جميل وكل عام يرتجف قلبي وتثور أنغام الحب في جسدي الأسمر الخشن. أرى الصبايا الجميلات يركضن كالغزلان تداعب الريح أجسادهن الرقيقة، إنهن رمز الحيوية، من دونهن لا قافلة تسير ولا عطر يباع. نصبت الخيام وبدأت الحياة ماعاد للصمت وجود. إنها قوافل تبحث عن العشب والأرض الخضراء أكرمتهم وضيفتهم.

          في صباح باكر، حملت واحدة من تلك الصبايا الراكضات الهائمات في البرية إناء من حليب طازج. وضعت الإناء على الأرض وهربت مرعوبة. شاهدت وجهي ذلك الصباح في عيني تلك الأنثى النافرة. لم أكن قبيحًا في الزمان الغابر. كنت أتباهى بوجهي بين أصحابي. تغزلت بي جارتي الجميلة، كما كنت أتغزل بعينيها وسقطنا في لجة الحب وعذاباته. استطعت أن أثبت فروسيتي يوم غصت عميقًا في حريق داهم منزلها الصغير ولكنها كانت بين يدي ذابلة مثل وردة حرقتها سموم قيظ لاهب. حينها أفزعني الصراخ وهرب الصغار وهم يشيحون بأنظارهم برعب عن وجهي. وضعت جسدها المحترق على الأرض وبكيت، تألمت من وجع على خديَ. حرقت دموعي جروحي. لمست وجهي، لم أجد وجهي ولكني أشم لحمًا مشويًا.

          الآن أرى كل شيء أمامي جميلا، لم أكن عجوزًا في داخلي، شاب امتص نقاوة ذلك العراء وتشبع عقله بصفاء الكون وعناصره الباهرة، وضعت لثامًا على وجهي وانطلقت راكضًا وأمسكت بخروف ابتعد عن القطيع. حملته على كتفي بسهولة ومازلت أركض، استقبلني شيخ طاعن في السن تلقفه مني كتلقفه ديكًا هاربًا، دهشت لقوته وصلابة ذراعيه وقال: «أنت فتى قوي وشهم».

          بفضول غريب مد يده وسحب لثامي، سقط الخروف من بين يديه وثاغ العجوز كشاة على وشك الذبح، أطلق ساقيه للريح موليا أدباره وهو يرتجف رعبًا. تسمرت في مكاني مفزوعًا، أشعر بالدم في عروقي قد تخثر. بهتت الألوان البرّاقة واجتاحتني رجفة برد قوضت كل جسدي وسألت بفزع ومرارة: ما الذي شاهده ذلك الرجل الصلب؟

          وضعت اللثام على وجهي وتقدمت نحو مخيمهم، شاهدني ذلك الرجل وصاح بأعلى صوته وهو يصّوب بندقيته نحوي: «بالله عليك يارجل لا تقترب. ستفزع الأطفال والصبايا».

          - أريد مرآة... أريد أن أرى وجهي، أرجوك.

          تقدم الرجل وناولني مرآة صغيرة. أعطيت ظهري له ونظرت لوجهي. هزني فزع عظيم، لم أر وجهي بل كان قناعًا مشوًها لوجه غريب. رميت المرآة وسرت أجر قدمي مهزومًا، ولكن مازال في داخلي ذلك الشاب القوي. رميت اللثام وانطلقت راكضًا نحو التلال، اعتليتها فانفتح أمامي أفق مفتوح للأبد. قوس زاه يحتضن سجادة خضراء واسعة ونسيت ألمي بعد أن احتضنت وحدتي وتأملاتي. أنتظر موعد مجيء أمي. عندما تأتي أراها في الأفق كحمامة طائرة تفرد جناحيها بشوق.

          شعرت آنذاك بأن أمي لم تعكس لي صورة وجهي القبيح. كل لقاء كانت تمرر أناملها الرقيقة على كتل اللحم المبعثرة وأشعر بخدر يدغدغ كل كياني وأسترسل في رقاد هادئ ورأسي الثقيل في حضنها أشم رائحة المسك والهيل والعنبر و«الديرم».

          عندما أفيق لا أجدها، تتركني لموعد آخر أعيش على ذكراه ويعزف لي وتر الأفق لحن الأزلية وبعدها أعيش الصمت والصخب والنهار والليل، الضوء والظلام، البرودة والحرارة والدفء، غروب الشمس وشروقها ولألأة النجوم وحركة الريح، الشمس والقمر صديقان أزليان... حبات الرمل. آه كم أنا محظوظ، كل هؤلاء أصدقاء لي، خير من أن أدفن نفسي في زقاق متعفن رطب تعيش فيه الصراصر القذرة والفئران. هنا أرى الذئاب والضباع والخنازير. أخاف منها وتخاف مني. ولكنْ هناك في زوايا المدينة ضباع وذئاب شرسة لا تخافك ولكنها تدمرك بأنياب من ورق. في الظلمة الدامسة أرى شهبا تشرق وتتلاشى.

وادي الذنوب
الصديق بو دوارة - ليبيا

          املأوه ذنوبًا.. كلما ارتكب أحدكم معصيةً فليخبر الوادي بها.. هكذا يمتلئ.. وعندما تصل ذنوبكم إلى فمه.. عندما يفيض بها سيرسل لكم علامة.. سيصبح واديًا من ذهب، عندها تنعمون برغد العيش.. تتوبون عن الذنب..، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له!!

          أخبرنا شيطان بلدتنا .. دليلنا إلى التهلكة.. وعرافنا الذي لا يُشق له غبار، صرنا نقترف المعاصي.. ما ظهر منها وما بطن.. أحيانًا على استحياء ومرة أخرى علانية.. لا تتسرعوا في الحكم علينا.. لسنا بلدةً من الفساق والعياذ بالله.. نحن بشر مثلكم.. بشرٌ طيبون.. ذنوب الواحد منا لا تتعدى النظر إلى جارته الحسناء بطرف عينه اليسرى.. أو الهمس بلسان سوءٍ في حق بعضهم.. ربما نجتمع على نار مواقد الفحم الشهية ونتبادل اسرار غيرنا.. بعض الأحيان نماطل في رد الديون إلى أصحابها ولكن ليس بسوء نية وانما للفقر المدقع .. قد نتساءل بخبث: من أين هبطت الثروة على رأس (نحناح) شيخنا المهيب؟.. نعرفه فقيرًا لا مال له.. وهل لذلك علاقة بتجارته المريبة مع (زيدون) تاجر الحشيش؟

          ربما استغرب بعضنا أشياء أخرى لا علاقة لها بالمال.. مثلاً بلدتنا الصغيرة، التي يزورها الموت بين الحين والآخر.. كيف لا يموت الأنذال؟ وكيف نفسر تلك المعجزة الصغيرة، التي لا تتوقف عن الحدوث؟.. منذ عشرين سنة لم يمت نذل واحد في البلدة.. بالرغم من أننا نملك منهم الكثير.. هذه بعض الذنوب.. لنا أيضًا ذنوب حلوة المذاق.. موعد مع حبيبة، أو قصيدة غزل، ربما تتطور الأمور إلى حد اختلاس قبلة، هذا كل شئ، لكن كان للشيطان رأى آخر:

          تلك الليلة غادرنا مجلس المختار، تركناه يجلس على نار موقد الفحم الشهي، أمامه الشيطان وبينهما تتمدد الأفكار الطازجة متأثرة بالحرارة حسب ما نصت عليه أحدث قوانين الفيزياء.

          صباح اليوم التالي كنا نستمع إليهم، أقصد إليه، كان مختارنا يملي علينا قائمة طويلة من المعاصي:

          - هذا لا يكفي.. افعلوا أي شيء، افهموني جيدًا، لا تتوقفوا عند حد، كونوا أنذالاً بمعنى الكلمة، تملكون الكثير من الأنذال، اسألوهم وسيخبرونكم، أريد أفعالاً يندى لها جبين الشيطان نفسه، لا تتوقفوا عند حد.. فى داخلكم الكثير من الدناءة.. ابحثوا عنها.. استخرجوها من أعماق صدوركم.. لا يخلو بشرٌ من الدناءة.. فقط المزيد من العمل وسيمتلئ الوادي.

          عند الظهر زاره وفدٌ يمثل أنذال البلدة، جلسوا على بساطه، تحدثوا معه، عرضوا عليه معاصيهم، نذالتهم وطبعهم الخسيس، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال:

          - مصيبة، إذا كانت هذه نذالتكم فما أجدركم بخيبة الرجاء، أنتم أنذال مبتدئون، وأنا أشعر الآن بخجلٍ لا مثيل له.

          تلك الليلة لم ينم أحد، إنه التحدى الكبير وعلينا أن ننجح الآن :

          -الوادي يستصرخكم ياشباب البلدة، شرفكم في خطر، عمّا قريب سيقبل الشيطان وعلينا أن نصنع الآن ما يليق.

          انتهى الأسبوع الحافل وقد تحوّلنا إلى سفلة حقيقيين، فقدنا براءتنا وهدمنا كل صرح للخير في صدورنا، هتكنا الأعراض وأصبحنا زناةً وشهدة زور وعبدة شيطان وحثالةً لا يُشق لنا غبار، امتهنا كرامة الأمهات وبعنا شرف النساء وقتلنا براءة الأطفال، وأقسمنا بكل مقدس كاذبين، كنا نصلى بلا روح، ونسبح لله بألسنة تمتهن النفاق.

          تعبنا من الذنوب، أنهكتنا المعاصى ولكن الخبر المؤلم فاجأنا:

          - لم نملأ سوى نصف الوادي فقط، نحتاج الى المزيد.

          استغرقنا فى النوم تلك الليلة وقد أكل اليأس أكبادنا وامتلأت أفواهنا بمرارة الهزيمة، لكن الصباح أقبل إلينا بمفاجأة لم تكن تخطر لنا على بال.

          كان الشيطان يقف مذهولاً يتطلع إلى الوادي المترع بالذنوب، فيما كان مختارنا يضحك ملء فيه، فقد اقترف ذنبًا لم يخطر لنا ببال:

          - الأمر سهل يا أبناء بلدتى، فعلتم كل ما بوسعكم ولم يمتلئ الوادي، فكرت طويلاً واكتشفت ذنبًا لم نقترفه بعد، لم تبق إلا الخيانة، لقد بعت البلدة بأسرها ومعها الوادي لجيراننا الأعداء، صحيح أننا لم نعد نمتلك شيئًا لكن هذا الوادي اللعين قد امتلأ أخيرًا، أليس كذلك أيها الشيطان؟!