ملف: الشعر العربي المعاصر: رمزانيّة الأداء الشعري في ديوان فاروق شوشة

 ملف: الشعر العربي المعاصر: رمزانيّة الأداء الشعري في ديوان فاروق شوشة

رومنطيقي الصوت والوجه والجنّان،
عربيّ الديباجة وفصاحة اللسان،
ملتزمٌ بقضايا الأمة والشعوب، بكثير من الرقة والحنان،
متوهّج مع كلّ بارقة جمال تلوح في الأفق..،
ذاك هو فاروق شوشة، أحد كبار شعراء العربية في العصر الحديث..

لئن شخصتُ إليه شخوصًا رمزانيًا، فلأنني فوجئت بهذه البقع الضوئية التي طفت على أديم صنعته الشعرية في المجلد الأول من «أعماله الشعرية» التي طغى عليها الطابع الغنائي الوجداني في الغالبية العظمى من قصائده، ومع ذلك فقد رشح منها ما شدّني إليه وأمسك بأهدابي أكثر من غيره، عنيت بذلك المشيج الرمزي المندس بين تضاعيف القصائد وأضاميمها، مخلّفا وراءه سحبًا من العبير والانتشاء المغيّبي الموغل في رهافته ونقاوته.

ومما زاد في تناغمي الذاتي مع ما وسمته من نتاجه، أنني بعد استكمال قراءة المجموعة، ووضع كل النقاط والتعليقات الهامشية، متهيئًا لتحبير مقالي، طالعني مجدّدًا النص الأدبي الذي افتتح به مجموعته الشعرية، وهو للشاعر الفرنسي بودلير، أبو الرمزانية في الشعر الفرنسي، وهذا يعني تأثّر شاعرنا به وبنسيجه الشعري الذي، إن لم يسلك دربه، ولم يقتف أثره في التوجه والمضمون، فقد علق به وبقلمه الشعري الكثير من الغنّات المخبوءة في تفاريج الخلجان والثغور، فظهرت في أشعاره ظهورًا عفويًا لم يقصد إليها ولم يتكلّفها، ولم تغيّر في أسلوبه وانتمائه الشعري العام.

أي أن ما أسطّره في هذه الدراسة، لا يجعل من فاروق شوشة شاعرًا رمزانيًا كعدد كبير من شعراء المهجر وبخاصة اللبنانيين، أو بعض شعراء الموجة الأولى من الشعر العربي المعاصر كسعيد عقل، وصلاح لبكي، ومحمد عبدالمعطي الهمشري، وأمين نخلة، ورشحات من أشعار محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه.. وهذا لا يقلل من شأنه أو يرفع من قدر الرمزانيين.

فالشاعر العظيم كالأنهار العظيمة، تتحدّد عظمتها في جملة أمور:

أولها: الينابيع الدائمة الانفجار.
ثانيها: المجرى العميق، والمسير الطويل.
ثالثها: السّعة والهدير البعيد الأرجاء والأصداء، وما ينصبّ فيها أو يتفرع عنها من أنهار أصغر وبُرك وبحيرات..

وقد «انفجر» فاروق من قرية «الشعراء» نبعة زكية الدفق والأرومة لينداح بعد ذلك في محيط بحر النيل، ومنه إلى رحاب المتوسط، نهرًا شعريًا آخر ننعم بصفاء حضوره واخضرار خمائله منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان، ولايزال عرق الشعر فيه يتصبّب من دون هوادة.

وقبل ولوج أبهاء الروافد الرمزانية التي انبثقت أو انصبّت في نهر فاروق شوشة، أفتح كوّة صغيرة على الأدب الرمزاني، تبيانًا لمنطلقاته ومعالمه، من غير توسّع أو تبسّط، مبتدئا بالتسمية التي اعتمدتُها في رأس دراستي وهي «الرمزانية» لا «الرمزية».

فالأولى مذهب أدبي له أطره ولغته وغاياته.

أما الثانية فهي صفة لكل ما يقع تحت عنوان «الرمز» بعامة، وما يحمله من معانٍ وإشارات، ولا أظن أن أحدًا سبقني إلى تسميتي الأولى، وقد لا أعترض على التسمية الثانية، لغلبتها في الاستعمال وسيرورتها، واعتمادها من الدارسين من غير استثناء، مع العلم أن الآداب الأجنبية فرّقت بوضوح بين «الرمزية» التي هي صفة Symbolique, و«الرمزانية» التي هي المدرسة أو المذهب أو النظرية Symbolisme.

هدف الرمزانية هو الجمال واحتضانه بلغة لا تمتّ بصلة إلى الواقع والتفكير المنظم، وإنما هي نتاج مناخ نفسي مثقل بالرؤى والأحاسيس الجامحة، تغدو فيه النفس حجر الزاوية في العمل الشعري، وتتحول اللغة، أو قوالب التعبير، من أدوات نقل وترجمة، إلى غاية في ذاتها.

ويمكن تلخيص مقوّمات الأدب الرمزاني في النقاط الآتية التي يشكّل كل عنوان فيها ركنًا رئيسًا من أركان هذا الأدب: الغموض، الإيحاء، العناية الكبرى بموسيقى الشعر، تراسل الحواس، العقلانية اللامنظمة، قد تتوافر جميعها في نص واحد وبخاصة لدى كبار شعراء الرمزانية في فرنسا، وبعض مَن تأثّر بهم مباشرة، كما هي حال الشاعر اللبناني سعيد عقل الذي اتخذ من نظريات بول فاليري إطارًا عامًا لنظريته الرمزانية التي حاول أن يطبقها في شعره، فنجح حينًا وأخفق حينًا آخر، وقد يُهيمن جانب على آخر، المهم أن يثير النص الشعري في المتلقي إيحاءات لا حدود لها.

ولننظر الآن في ديوان فاروق شوشة، ونستجل فيه معالم الحضور الرمزاني، ودرجة أصالته، وعمقه، وحسن انتمائه إلى مثاله الأعلى في الآداب الأجنبية.

لقد وقعت، في ديوان شوشة، على نصوص شتى بعضها مطعّم برياحين الرمزانية، وبعض ثان مغمّس بمدادها، وآخر مشبع بمناخها ودوارها، فلا تكاد تميّزه عن أي نص لكبار شعرائها.

وسأتناول هذه النصوص وفق تسلسل ورودها في المجموعة الكاملة، بوقفات متفاوتة المدى والعناية، بحسب بعد تأثيرها وإيحاءاتها في النفس.

  • وقعتُ، في إحدى قصائده القديمة المنشورة في ديوانه الأول: «إلى مسافرة» على مقاطع أصيلة الانتماء إلى الشعر الرمزي، لما تضمنته من إيحاءات غامضة:

مازال صوتُك النديُّ في دمي
شيئًا أثيريًا.. أضمُّه وأحتمي
رنّاته تدقّ أيامي.. تصبّ في غدي
تدفق من أعماق نبع دافئ القرار

تحوّل الصوت الأنثوي، إلى حديقة نديّة الأزهار، وتحوّلت هي بدورها إلى رافد دموي يسري في الشرايين، وينداح صدى اندفاقه في الأثير، فيغدو نهرًا فسيح الأمواه المنصبّة في محيط الزمن القادم:

وكدتُ ألمسُ النداءَ باليدِ
وأُوْدع الليلَ حديثَ مطلعِ النهار

رائعة هذه اللمسة الدافئة، تحتضن فيها اليد الصوت/النداء، كأنما هي جناح طائر لم يكتمل زَغَبُه..

وحبذا لو ظل الشاعر في دائرة الدغشة الليلية، ولا أقول: «الظلمة» بدلاً من «مطلع النهار»:

وهمسُكِ الرطيبُ مايزال في فمي
شلال تاريخٍ صنعناهُ بألف موعدِ

لا حدود لتمثّل هذه الصورة الشعرية، كل لفظة فيها، «حبةٌ أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة»..

صار الهمسُ/الصوتُ هيئة سويّة، كاملة التقاسيم والعناصر.

  • وقرأت له، من قصيدة «اعتراف» مقطعًا يحدّث فيه ذاته التي غادرها الرفيق «في نهاية الطريق»:

قِفْ..
لم يَعُدْ سواكَ يَنْثُر المحَارْ
في قاعِ وهْمِهِ المغلّف القرارْ
ولم تزَلَ يداك عند كل بابْ
تُعانقان شوقك البعيد للإيابْ
ورعدة باردةً كأنها تَذكارْ
وظلّك الذي استطال ساعةً على الجدارْ
أراه من حول السنين يرتجفْ!

المحارُ، والأغوار، (والوهم المغلّف القرار)، ورعدةُ التذكار، والظلُّ المرتجف... موانئ ومحطاتُ انطلاقٍ نحْو رؤى شفيفة التقاسيم، لكنها مطليّة بغسق العشيات، مغمّسة بمداد لازورديّ، مخضوب المعالم والتجليات.

  • وحطّت عيناي على مقطع حالم، في قصيدة «تحت سماء رمادية» طاول فيها الشاعر النظر إلى النجوم، فجنح هناك إلى سكينة سرابية:

عيني على نجم بآخر السماء
في هدأة السكون جاسي برهةً وغابْ
لو يستطيعُ! مَدَّ لي شعاعتيْنْ
وأغرقَ العيون بالضياءْ
لو أستطيعُ! لو خطوتُ خطوَتَينْ
إذنْ لبدَّدتْ خطايَ قبضةَ السحابْ
وفرَّ من أصابعي السرابْ

صورة يانعة الترحال إلى أصقاعٍ جليدية الأماسي، زعفرانية الأديم والرواسي.

أيُّ سراب هذا الذي كان جاثمًا بين الأصابع؟
وأية أصابع هذه التي احتضنتْ ذاك السراب؟

  • وفي قصيدة «أحزان الفقراء» التي نظمها في رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، احترق في وجدان الشاعر أغمارٌ معتّقة من أعواد الحزن الوجودي، فغاض الفكر وهاجت أسارير، وتهدّجت المشاعر، فكان مطلع القصيدة الآتي:

وانحنتْ صفصافة كانت على النهر تصلّي
وانثنتْ صَبّارةٌ تغمس في الشطّ المُدمَّى راحتَيْها
وهي تبكي..
تلثمُ الأرضَ التي ضمَّتْكَ عودًا فارغًا كالسنديان..

مطلعٌ رمزاني وجداني، اتّحدت فيه الرؤى واللظى المحرورة في الأعماق، وتشظّى القلمُ خيوطًا من شآبيب الرخام..

لقد فجَّر الحدثُ التاريخي كوامن الإبداعِ، فاغتسل القلب بأنداء الزمن المرتحل صوب التخوم، حيث الابتهال والتبتّل الصاعدان فوق شرفةٍ تطلّ على الآخرة.

  • وفي قصيدة «كان.. وكان» من ديوانه الرابع: «في انتظار ما لا يجيء» الصادر عام 1979، ترحالٌ شجنيٌّ يسلكه الشاعر ههنا، مترنحًا بين قوافل الحزن المتضوّر في الأعماق، وتُقلع أشرعة التأمل المتسربل بالجوى الدفين، ينعصر مع كل قطرةِ شُرود وانسراح خلف الوجه المخضوب بأوراد الشفق المهاجر، ترحال الأفول نحو آصال بعيدة، لا تغيب فيها نجمةٌ، ولا ينخسف قمر:

كان الشجر السَّاجي في عينيها يبكي
تَسَّاقطُ أمطار الشَّجو،
وتخضلُّ جراحٌ وُئدتْ خلف السَّمْت المتماسك،
عمرًا طال،
الشجر الباكي يرحلُ، يَسْحب أستارًا كانت

في القصيدة الأولى «لا مفر» من ديوانه الخامس، «الدائرة المحكمة» يقف الشاعر مشدوهًا أمام نفسه وقد برَّح به الفاصل الزمني والجغرافي بينه وبين المرأة التي كان يبحث في دائرة الزحام عن وجهها بعد نصبه المزمن من زيف المواسم وهشاشة النبض العاطفي، ثم «صحا فجأة ذات صباح»:

كانت ستائرُ الأصوات غير ما عرفتُ من أحزانْ
(...) أدركتُ - يالروعة اللقاء، والإصغاءْ
لمقلتيكِ - حين أجفلَ الصباحُ في المساء
أني سقطتُ في بحيرتَيْن من صفاءْ
وأنني أسيرُ في السماءْ
وأنّ أيامًا خلَتْ من رحلتي هباءْ
قبل اكتمال العمر بالضياء

يغرف فاروق، في هذا المقطع، من سلاف الديباجة الرمزية، ويغزل خيوطه من جناح الرؤيا الغامضة ذات الوشائج الحميمة مع الأثير والسفر بعيدًا في اللازمان. وأراني كالمستظل بأفياء حبور، متقطع الأنفاس، مبهور الأكناف.. تداخلت العناصر وانصهرت الأبعاد، لينفسح المجال لبعد واحد متعدد الارتدادات: بعضها في تلاقي الأضداد (الصباح والمساء) ثم المسير في السماء، والعمر الضوئي، ومن قبل: موسيقى المقل، وكله من تداعيات اللوحة الشعرية الرمزية.

وأصل إلى قصيدة «الدائرة المحكمة» التي سمي الديوان بها، فإذا أنا أمام قصيدة شبه نموذجية لأدب رمزي أصيل، نظمها الشاعر بقدر كبير من مجانبة الوعي، فلم يوضح ولم يشرح أو يفصّل، كعادته، بل انساق وراء تداعيات متداخلة الرؤى والأخيلة، فكانت لنا مقاطع شاحبة الأديم، موحشة النبرة، قاتمة التقاسيم، كقوله، في سياق القصيدة:

وأمضي، تلاحقني دمدمات انشطاري
ويصلبني في الميادين جوعي وعاري
وذلّ انتظاري
وأرجع مختنقًا بانكساري

وهناك مقاطع وسطور تداخل فيها القاتم بالمنسرح، على دروب مترعة الخطى والمواويل، من مثل قوله:

أجيئُك،
تحملني صهوات الرؤى المعلمة
(...) أمنت فجاءات هذا الزمان
عرفت اختلاط المسالك،
بلبلة المدلجين

لتنتهي القصيدة بانسداد الأفق على مشهد متقطع الأوصال، مخطوف الأنفاس، ازدحمت فيه التجاعيد، وارتاب الفؤاد جراء العتمة المدلهمة، والدائرة التي ضاقت فوّهتها أمام اتساع دوائر أخرى، وفجوات انفغرت فيها الأشداق واللحود، لالتهام الشخوص والهيئات المنقصفة تحت وابل الرجم والقهر والإجهاض:

وأين براءة حلم تقصّف،
خطو توقف،
عمر تجاعيده مبهمة،
وأسقط
تتسعين فمًا لازدرادي
ولحدًا عميق القرار
وفخًا،
ودائرة محكمة!

فاستحقت القصيدة أن أسميها بحق: «الدائرة المفتوحة» لكل تلاوين الرؤى والتداعيات الفكرية، والشعورية، والتصورية، من دون تقسيم أو تشكيل فني مقصود.

ويقتضي التوضيح، في هذا المقام، أن السّمة الرمزية التي رانت على القصيدة بصفة عامة، تنطبق فقط على الشواهد الشعرية التي تمثلت بها. وهناك مقاطع وسطور شعرية لم تنخرط في الإطار الرمزي، لجنوحها إلى النمط الشعري العام الذي سلكه الشاعر في معظم نتاجه الشعري، والقائم على الانفعال المباشر حيال الأحداث والمناسبات، وعلى الإحاطة الموضوعية بكثير من جزئيات المشهد وملامح الفكر والخيال.

إنّ ما قمت بدراسته وتبيانه هو هذه اللمع الشعرية التي قذف بها اللاوعي الشعري، بما يشبه الإفرازات النفسية التي لا تخضع لأي طاقة إبداعية نظمية، بل تفلت من المجرى العام، وتقفز من فوق الحدود والخطوط التي تشكل الفضاء الفني لتكوّن الشرانق الإبداعية وهيئات المعاني، وأحاسيس الذات، ولا أظن أن شاعرنا قصد إلى هذه اللمع أو ترسّم خيوطها وعني بمسراها الخفي في شرايين القصيدة ولو قصد إلى ذلك، لما كانت لنا هذه اللمع.

وتمثل القصيدة الأولى «بيت فوق شجرة» من ديوانه السادس والأخير في (الأعمال الشعرية) والموسوم: «لغة من دم العاشقين»، النسبة الرمزية الأعلى في نتاجه الشعري المنشور في المجلد الأول من المجموعة الكاملة، ذلك أنها منذ بدايتها حتى نهايتها، تسلك دروبًا غامضة، على غير عهده في معظم أشعاره.

والغموض، من أهم مقومات الأدب الرمزي، لا يفصح فيه الشاعر، ويعيِّن أو يعالج،لأنه - أي هذا الأدب - يخرج من عدة مسارب وينابيع، كل واحد منها له طبيعته ومداه ومناراته.

لا يقف الوحي الشعري فيها، عند حد أو ناحية معينة:

كانت شجرًا، ينمو فيّ، وأنبت فيه
تلتف الأغصان بروحي،
يفرخ طير بين حنايا القلب،
ويورق عمر،
يسقط ظل
تعشب أرض، كانت عطشى

ويستمر الغموض وما يؤدي إليه أو ينبثق منه، من تصاوير مخيلة، حتى قوله:

هزي جذعا،
إني أساقط،
إنّا نساقط رطبا وعناقيد

ونفترض أن الكلام يدور في فلك امرأة ملكت عليه شعاب قلبه، ومدرجات وجدانه وخياله.

ويبقى المسار الشعري على حاله من التراكم الرمزي المتعاظم رسومًا وتشكيلات تصل حد الوهم:

تداخلت الرؤيا..
نهرًا يتفجّر بالخصب
وشموسًا تسطع فوق حقول القمح
ودروبا تفضي، لمسالك تفضي، لمدى يمتد
ومدائن تعلو..
لا يدخلها إلا المختومون بوشم الحب

لنصل إلى مقطع متراص الكلام، مشحون بالأفكار والرؤي المتلاحقة، فإذا نحن في ذروة الحضور الرمزي وعمقه الضارب في مطاوي النفس ومحاريب التخييل الموغل في ابتعاث شوارد الأحاسيس التي زاغت عن فوهة الوعي، وشرفة البصيرة الشعرية.

ولا أرى حرجًا في إثبات المقطع المشار إليه بكامله، مختتمًا به اللمع الرمزية التي طافت على أديم المجموعة الكاملة لأعمال فاروق شوشة:

هذي خطواتي الأولى تمرق في الطين وتوشك أن
تتعثّر، أسقط، ثم أعاود، وجهي لا يفصح عن هدف،
ويداي معلقتان بغصن، آه.. مغللتان بوعد، يفلت مني،
لا ضير، تشبثت بآخر، عاودت الخطو، الطين يلاحقني
الطين بيوت وسراديب ووحشة ليل متكئة.
وأنا في الظلمة مشدود، لمصير مجهول أمضي، لنداء
ناء يتردد، لحقول تملأ أنفاسي بروائح ليل يتوالد،
أشباح تُقعي في المنعطف وفي الساحات تراوغ إذ
تتمطى، وهي تطول، تسد الأفق، ويصبح حجم الخوف
بحجم النخل، ولون الرعب بلون الليل، يشق عيونًا منطفئة!

لا بد لي، مع نص كهذا، من وقفة تجمع بين التحليل والترميز، والتكهن، والتأويل، كل بقدر، من غير أن يلزم وقوفي هذا أحدًا غيري.. ذاك هو الأدب الرمزي الذي لا يصور، ولا يعالج، ولا يحكي الواقع وغير ذلك مما درج عليه أدب المدارس الكلاسيكية والرومنطيقية والواقعية.. بل يومئ، ويوحي، ويوهم من غير عبثية أو هذيان، لأنه في العمق، ينقل معتريات النفس وكثيرًا من أحوالها المتشابكة في الأغوار، عبر سراديب الوعي، والتململ، والتصدع الفكري، إلى عالم الواقع، عالم الهنيهات التي تحيط بنا ونحن نقرأ ونتملى هذه الأصداء الطافية على السطح، المنبعثة من وراء التخوم.

كل ما في النص ينطق بصواب ما تراءى لي مما ذكرته أعلاه: «الإيماء، الوحي، معتريات النفس، التململ، التصدع، سراديب الوعي» وغير ذلك من مركوم التصور.

فالشاعر، حشد في نصه، هنا، جملة أحوال، وتعرّض لغير خضّة روحية وهي يكتبه وينقل ظلاله وأغواره إلينا، أو قل: إليه هو، ليطل منه على الهُوى (ج: هوّة) السحيقة التي تتلاطم فيها نوازعه وصبواته الدفينة، منطلقًا من أصل التكوين البشري: الطين الذي جعله مرمى خطواته، وجهادية تطوافه من العدم إلى الوجود فالحياة، ملمحا في الوقت عينه إلى أطوار الدرب الطويل والصراع المتجدد الذي لقيه في رحلة الحياة.

لنرقب جيدا مرموزات هذا الصراع، وتلك الأطوار، متدثرة بقوله العفوي، التلقائي:

«تتعثّر، أسقط، ثم أعاود.. ويداي معلقتان بغصن، آه.. مغللتان بوعد..».

كم كان وقع «معلقتان، ومغللتان» مؤثرًا وقد تعلقت الأولى بغصن، رمز الحياة والصبا، والثانية بآمال زاهرة وضفاف رغد ساطع.

وأختم كلامي فيما وسمته «رمزانية الأداء الشعري» بتكرار القول: إن فاروق شوشة، من خلال ما قدمته، ليس شاعرًا رمزانيًا. وما خطه القلم، ومضات رمزية رشحت من شلال شعره الوثير، التقطها قلمي، وصاغت ذائقتي أصداء ما وقع له في جنبات الذات.. وهكذا الشعراء الكبار لا يمكن أن ينضووا في بوتقة أسلوبية واحدة، فنجد في موائد شعرهم هذا الطعم وذاك، وتلك النكهة، وذلك المعلم الأدبي المزهوّ بفرداته، من غير تصميم مسبق مقصود.. كذلك هي مواسم الحقول البرية الشاسعة التي لا تحرثها سكة، ولا يعمرها ساعد.
---------------------------
* باحث من لبنان.

 

ياسين الأيوبي*