عزيزي القارئ

عزيزي القارئ

بين عالمين

عزيزي القارئ...

في هذا العدد, مادتان تمثل كل منهما عالماً مفارقاً تماماً للآخر, أحدهما يشير إلىه استطلاع عن وكالة (ناسا) لأبحاث الفضاء, والآخر يتناوله استطلاع عن (موريتانيا), عالمان من الغنى الباذخ, والفقر المدقع, فهما على طرفي نقيض. أولهما وصل بفوائضه على الأرض- بغض النظر مؤقتاً عن مصدر هذه الفوائض- إلى جموح التطلع لارتياد الفضاء, والهبوط على القمر, والتحديق في المريخ, والتفكير في استثمار ذلك كله. أما العالم (الآخر), فقد أدى به عوزه على الأرض- بغض النظر مؤقتاً أيضاً عن أسباب هذا العوز القدرية والتي من فعل البشر- إلى مزيد من الزحف المضني في سفوح الأرض.

عالمان كلاهما في كوكب واحد, هو الأرض, التي لم تقطع مسابر الفضاء, ولا تنبؤات العرّافين بوجود كوكب آخر صالح لحياة البشر, لا في مجموعتنا الشمسية, ولا خارجها- في حدود ما نعلم وما نستطيع أن نصل إليه. فهل يمكن أن يظل هذا التناقض الصارخ صالحاً للاستمرار على هذا الكوكب دون تفاعلات سلبية تصيب كل الأطراف? حتى الطرف الأقوى الذي نظن أنه في منعة من التأثير?

إن إمعان النظر من زاوية واحدة, واحدة فقط, هي زاوية البيئة, تنبئنا أن ما يحدث من تدهور في مكان ما من الأرض, لا يعني نجاة الأماكن الأخرى من التأثر. فجغرافية الجوع تأتي بردّ فعل عكسي لزيادة التناسل, ومن ثم فائض بشري يكون عبئاً إضافياً على ندرة أو شح الموارد, وهكذا تتواصل أطراف الدائرة الشريرة: أسباب للتدهور تقود إلى إنتاج مزيد من الأسباب لتدهور جديد, وهكذا. تتسع الأراضي القاحلة, وتضطرب دورات المناخ, وهنا لا يأمن كبير أو صغير من أمم الأرض من عصف كوارث المناخ وتقلبات الطبيعة.

التطلع إلى الفضاء حق مشروع- إلى حد ما في إطار السلم والعلم- للأمم التي حققت شيئاً ملموساً من الكفاية على الأرض, لكن النظر إلى الجيران من سكان الكوكب ذاته الذي نعيش فيه, هو ضرورة ليست أخلاقية فقط, بل نفعية أيضاً.

فالعطاء هنا هو حنوّ بشري على إخوة في البشرية, وهو حماية للذات على المدى الأبعد بمنطق الاقتصاد والسياسة, والمدى الأقرب بمنطق الطبيعة والبيئة.

إنجازات الفضاء كما نعرف, وكما يشير استطلاع هذا العدد داخل وكالة (ناسا), ليست مجرد مخططات لحرب النجوم أو عسكرة القمر, لكنها إنجازات تقنية رفيعة في مجالات يمكن أن تغمر الأرض بخير كثير, ابتداء من رفع كفاءة التنبؤ الجوي, مروراً بتقرير حال البيئة, وقرع ما يلزم من أجراس للإنذار, وصولاً إلى اكتشافات في الطب والصناعة والزراعة يمكن أن تعم بفائدتها سائر البشر.

كيف يدفعنا هذا التناقض على الأرض إلى إدراك ضرورة فتح قنوات خيّرة بين أطرافه المتباعدة, واقعاً وموقعاً, لا سعياً إلى تحقيق وحدة مستحيلة, لكن على الأقل لردم الهوّة بين سكان الكوكب الواحد, دفاعاً عن الآخر, وعن الذات في آن.

وإلى لقاء متجدد.

 

المحرر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات