ملف: الشعر العربي المعاصر: في الذكرى الثلاثين لرحيله: خليل حاوي الشاعر - الناقد - الفيلسوف

ملف: الشعر العربي المعاصر: في الذكرى الثلاثين لرحيله: خليل حاوي الشاعر - الناقد - الفيلسوف

في مساء السادس من يونيو 1982، وفيما كانت الدبابات الإسرائيلية تجتاح بيروت لتحتلّ أول عاصمة عربية منذ إنشاء الكيان الصهيوني، وقف شاعر عربي كبير على شرفة منزله ليطلق صيحة احتجاج ورعب وألم. كان المشهد غير محتمل لشاعر نذر نفسه لتجسيد إيمانه بالنهضة العربية وللدعوة للقومية العربية. لم يطق خليل حاوي رؤية حلمه القومي يتقوّض، فكانت طلقة بندقية الصيد التي فجّرها بين عينيه صرخة مدوّية في ضمير كل عربي مخلص، لا من أبناء جيله فحسب بل من الأجيال العربية التالية له، تلك الأجيال التي بناها «من السمر الطوال» ومدّ أضلعه لها جسرًا لتعبر عليه إلى مستقبل عربي كريم.

مرت عقود ثلاثة على رحيل خليل حاوي، ويبقى نتاجه الشعري حجر الزاوية في بنية الإبداع العربي في هذا العصر ويظلّ علامة مميّزة في تراثنا العربي الحديث. فقد استطاع حاوي بالتزامه برؤية الانبعاث المنشود للحضارة العربية وبإخلاصه لفنه الشعري، أن يعيد للشعر دوره الحيوي في الثقافة العربية، وأن يضعه في موقعه المستحق في الحضارة الإنسانية. وكان صاحب ثورة شعرية أعادت بناء القصيدة العربية وبدّلت الحساسية الشعرية العربية، وبلغت بالإبداع الشعري العربي آفاقًا جديدة، أسعفت حاوي على تحقيقها موهبة نادرة وثقافة واسعة رفدهما فكر فلسفي ووعي نقدي قادر على اصطفاء العناصر الثابتة في التراث القومي والإنساني للانطلاق منها والتأسيس عليها.

ويشهد تاريخ الأدب أن كل شاعر كبير ينطوي على ناقد يُغربل ويُصفّي ويَصوغ ويُعيد، إلى أن تستوي القصيدة عملًا فنيًا يرتضيه. بهذا المعنى كان خليل حاوي الشاعر الفذّ ناقدًا متميّزًا، يشرب من «مرارات الدروب» ويعاني من «العرق الصبيب» لتخصب على شفتيه العبارة وتعصف، كما يقول في قصيدته «الناي والريح: في صومعة كيمبردج».

غير أنّ حاوي لم يكن ناقدًا بالمعنى الذي يشترك فيه كبار الشعراء فحسب، بل إنّه يمكن أن يُعدّ تجسيدًا لما يُدعى بظاهرة «الشاعر-الناقد». وتبرز هذه الظاهرة عند المنعطفات التي تتحوّل فيها الحساسية الفنيّة لدى المبدع والمتلقي على حدّ سواء، فتتراجع الأنماط الشعرية التقليدية، ويتجه الشعر إلى التجديد: ففي القرن العشرين تميّزت حركة الحداثة الشعريّة في الغرب بالجمع بين الشعر والنقد، وقد نهض بهذه الحركة شعراء - نقّاد أمثال تي. إي. هيوم (T.E. Hulme) وعزرا باوند (Ezra Pound) وتي. إس. إليوت (T.S. Eliot)، أسهمت كتاباتهم النقديّة في بلورة المبادئ التي ارتكزت عليها حركة الحداثة الشعريّة. يذهب لورنس لبكنغ (Lawrence Lipking) في مقالته «الشعراء - النقاد» في تاريخ كيمبردج للنقد الأدبي إلى القول بأنّ المرحلة المبكرة للحداثة هي عصر الشعراء - النقاد. فعند منقلب القرن العشرين، وفيما انطلقت المدارس والحركات الجديدة في أوربا، أطلق الشعراء الذين أبدعوها ثورة نقديّة أيضًا. ففي أزمنة كهذه يتّحد الناقد بالفنّان. بهذا التداخل بين النقد والشعر وبذلك التأثير المتبادل بينهما، تُعرّف المرحلة المبكرة للحداثة.

حركة التجديد

وفي تاريخ أدبنا العربيّ الحديث أثارت حركة التجديد في الشعر التي بدأت تتبلور منذ أوائل النصف الثاني من القرن العشرين، قضايا فنيّة وفكريّة عديدة، وطرحت أسئلة نقديّة وجماليّة كان على الشعراء الروّادأن يجيبوا عنها، ليرسّخوا بتلك الإجابات المبادئ النظريّة، وليضعوا القواعد الفنيّة للشعر الجديد، وليؤسّسوا الفلسفة الجماليّة للحداثة الشعريّة العربيّة. وكان خليل حاوي - أحد روّاد هذه الحركة - أبرز من أرسى تلك المبادئ، لما امتلك من ثقافة فلسفيّة ونقديّة يسّرت له تمثّل التراث الأدبي والفكري العربي والإحاطة بجوانب واسعة من التراث العالمي. يقول في حوار صحفي عام 1979: «... ولمّا كانت تلك المرحلة تفتقر إلى فكر فلسفّي يتّصف بالأصالة عمقًا وشمولًا، ويقدّم للعاملين في المجالات المختلفة من الحضارة العربيّة أُسسًا راسخة، وجدتُ أنّ على الشاعر أن يخرج، إلى حدّ ما، عن مجال الشعر ليكون فيلسوف نفسه وفيلسوف الحركة الشعريّة إجمالًا».

تميّز خليل حاوي بثقافة واسعة، وامتلك وضوح رؤية في قضايا الأدب والنقد والفلسفة، وقدرة استثنائيّة على التعبير المنهجي الدقيق، غير أنّه رغم ذلك، ورغم كونه أستاذَ النقدِ الأدبيّ والفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت منذ أواخر الخمسينيات حتى عام رحيله الاختياريّ سنة 1982، فإنّ كتاباته النقديّة والفلسفيّة لم تتجاوز بضع مقالات متفرّقة وضعها بشكل محاضرات، بدأ كتابة الأولى منها لإلقائها عام 1964 في معهد البحوث والدراسات العربيّة بالقاهرة، وشكّلت مادّة دروسه في الجامعة الأميركية في بيروت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، ونشر عددًا منها في مجلة الآداب. وقدجمعت هذه الباحثة أعماله النقديّة والفكريّة ونشرتها محررة في كتاب خليل حاوي: «فلسفة الشعر والحضارة» الصادر ببيروت عام 2002. ولم يؤلّف حاوي كتابًا في النقد الأدبيّ أو الفكر الفلسفيّ، ما عدا الأطروحتين الجامعيّتين اللّتين وضعهما لنيل شهادتي الماجستير والدكتوراه: أعدّ الأولى في الجامعة الأميركية في بيروت وعنوانها «العقل والإيمان بين ابن رشد والغزالي» عام 1956، ولم تنشر، وأنجز الثانية في جامعة كيمبردج البريطانية عام 1959 باللغة الإنجليزيّة حول جبران خليل جبران وحركة النهضة العربيّة في لبنان ونشرت بالإنجليزية ومترجمة إلى اللغة العربية. ذلك أنّ حاوي لم يكن ناقدًا محترفًا إلى جانب كونه شاعرًا؛ لكنّه كان «شاعرًا - ناقدًا». والشاعر-الناقد هو من تندمج في عمله وتنعكس العلاقات المتحوّلة ما بين الشعر والنقد، في ممارسة فنّ ما ونظريته،على حدّ قول لبكنغ.وتكون النظريّة هنا بالضرورة مرتبطةً بالتجربة الشعريّة وبالإبداع الشعريّ للشاعر - الناقد.

تراث حواري

لكنّ حاوي خلّف تراثًا نقديًّا وفكريًّا حول قضايا الشعر والثقافة والعصر، في صيغة حوارات بينه وبين عدد من المثقّفين والصحفيين، نُشرت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات في الصحف والمجلات الصادرة في لبنان وفي عدد من الدول العربيّة. وإذا كان بعض تلك الحوارات إجابات شفهيّة وتلقائيّة عن أسئلة كانت تُطرح عليه، فإنّ جانبًا كبيرًا منها كان إجابات مكتوبة عن أسئلة كان يضع بعضها بنفسه، كأنه يحاور ذاته؛ وكان ذاك أسلوبه المفضّل في عرض آرائه ومواقفه. وقد أسهمت تلك الحوارات في رسم معالم الحياة الأدبيّة العربيّة حينذاك، وشكّلت عناصرُها بيان حركة الحداثة الشعريّة العربيّة في مطلع انطلاقتها.

يُعرِّف حاوي طبيعة العلاقة الخاصّة التي تربط ما بين صفتي الشاعر والناقد المجتمعتين في ذات واحدة، في أحد حواراته فيقول: «ممّا يَرِد عادة في تاريخ الأدب والنقد، أنّ الشاعر ينطوي ضمنًا على ناقد. وأهمّ ما في هذا الأمر طبيعة الصلة التي تقوم بين الشاعر والناقد، فقد يتغلّب الشاعر على الناقد غلبة مطلقة في المراحل البدائيّة. أمّا في مراحل التعقيد الحضاريّ فلا بدّ أن يتعاون الناقد والشاعر تعاونًا وثيقًا على إدراك طبيعة العصر، وما تنطوي عليه من تعقيد فلسفيّ وفنّي». وقد أدرك حاوي ما تتصف به الثقافة في العصر الحديث من تعقيد، بما امتلك من موهبة شعريّة متميّزة رفدها وعي حضاريّ ولّدته معاناة قضيّة الذات الفرديّة والقوميّة والإنسانيّة في مواجهتها للحاضر ببعديه التاريخي والمستقبلي، وثقافة قادرة على التعامل مع التراث القومي والإنساني بنظرة نقديّة تصطفي ما ثبت عبر الزمن ورغمًا عنه، حيًّا وإنسانيًّا وأبديًّا، فكان شاعرًا - ناقدًا، استطاع أن يجد المعادلة الصحيحة بين وجهي ذاته المبدعة.

هذا الوعي الحضاري المتوهج وذلك الإدراك العميق لواقع العصر الحديث جعلا من خليل حاوي نموذجًا للارتباط الحتمي بين الشعر والنقد. والنقد بالمعنى الذي يرمي إليه حاوي لا يمكن فصله عن الفكر الفلسفيّ. وإذ إنه رأى أن أدبنا الحديث يفتقر إلى التفاعل بين الفكر الأصيل والمذاهب النقديّة الأصيلة، فقد آمن أن أفضل النقّاد هم الفلاسفة، وأكد أنّه لا بد من ربط كلّ مذهب نقديّ بنظريّة في الوجود والمعرفة. يقول في مقالته «النقد الأدبيّ بين المنهجين العلميّ والتأثري»، إنّ «أخطر الآفات التي يُبتلى بها النقد التطبيقيّ الذي يستهدف تحليل النصوص ومقارنتها، افتقاره إلى مبادئ نظريّة سليمة يرفدها فكر فلسفيّ يستقرّ على نظريّة في الوجود وطبيعة المعرفة». ولطالما أكّد بقوله هذا إيمانه بأنه لا فصل بين النقد والإبداع الشعريّ، وبين الفكر والفلسفة التي تحيط بالوجود وتسبر أعماق المعرفة لتكتنه طبيعتها.

كان خليل حاوي في سعيه لإرساء قواعد نهضة شعريّة، شاعرًا - ناقدًا - فيلسوفا يرسم خارطة التجديد في الشعر العربيّ الحديث، ويحدّد معالم القصيدة العربيّة الحديثة. وإذا كان المبدأ الأوّل للكثير من الشعراء - النقّاد المحدثين ليس وصف الشعر بقدر ما هو تغييره، فإنّ مبدأهم الثاني يلحّ على أنّ كلّ تغيير كبير لا بدّ أن يُؤكَّد بثورة محدّدة في الأسلوب على حدّ تعبير لبكنغ. ويقتضي إحداثُ ذاك التغيير وإطلاق الثورة في الأسلوب الشعريّ إزاحةَ «رموز» المذاهب الشعريّة السابقة، ورفض ما اعتمدته من أساليب شعريّة وما ارتبط بها من نظريّات نقديّة، ليحلّ محلّها ما يُدعى إليه من شعر جديد ونظريّة شعريّة جديدة. وهذا ما سعى إليه خليل حاوي، وقد حمل لواء تجديد القصيدة العربيّة.

تناول حاوي بعض المفاهيم النقديّة والممارسات الشعريّة التي سادت المشهد الثقافي العربي المعاصر حينذاك، وقد دعاها «موجات غريبة اجتاحت هذه المرحلة... دخلت التراث العربي القوميّ، وبخاصّة في مجال الشعر، فزوّرته»، ليكشف سوء استخدامها من قبل شعراء ونقّاد لم يدركوا - في رأيه - ارتباط تلك المفاهيم النقديّة والإبداعات الشعريّة الغربيّة بالفكر والتوجّهات الفلسفيّة في الثقافة الغربيّة وفي إطارها التاريخي. وعدّ من تلك الموجات، الرمزيّة كما تمثلت في شعر سعيد عقل، والسرياليّة والرومنطيقيّة. كما عالج ما أسماه آفات أصابت شعر بعض روّاد القصيدة الحديثة، وحدّد منها، استقلال البراعة الذهنيّة بالشعر، وما وصفه بالتطوّر المفتعل المتمثل في التنقّل بين المذاهب، ومثّل عليها بشعر أدونيس.

ففي حوار في الستينيات رأى خليل حاوي أن مفهوم الرمزيّة الذي شاع بين الشعراء العرب في الجيل السابق، اللبنانيّين منهم خصوصًا، هو مفهوم مذهبيّ للرمزيّة الفرنسيّة كما حدّده فيرلين ومالارميه وفاليري، وقد داخله الكثير من عدم الدقّة في الاطّلاع وسوء الفهم في التعريف والتفسير.

مفتونون بالسريالية

والأمر نفسه يصحّ على من أسماهم حاوي بالشعراء الذين «فُتنوا بالسرياليّة»، إذ أخذوا بمظاهرها الخارجية وَفاتَهم إدراك النظرة السرياليّة إلى طبيعة النفس وطبيعة الوجود، المستندة إلى مذهب هرقليطس في الصيرورة المستمرّة، ومذهـب فرويد في إعلائه الغرائز على ملَكات النفس العليا. ورأى حاوي أن جيل الشعراء العرب الذي سبق روّاد الشعر العربي الحديث كانت رومنطيقيّته شاحبة زائفة، ولم يستثنِ من نتاجهم سوى ما أسماه بالمحاولات الأصيلة التي حققها جبران.

وتستوقفنا هنا صفة «الأصالة» التي عدّها حاوي نتيجة التطوّر الحتميّ في الفنون جميعًا، في نتاج كلّ شاعر فرد بذاته، وفي نتاج مرحلة حضاريّة محددة، وما دعاه بالحيوية المتفجّرة، وهي في رأيه أساس كل إبداع في المجالات جميعا، كما أنها المعيار الأساسيّ في الحكم على الشعر. وقد ذهب إلى أن انعدام تلك الحيويّة عند بعض الشعراء المعاصرين، ومثّل عليهم بأدونيس، أدّى إلى سيادة النزعة الذهنيّة في الشعر، وهي أخطر الآفات على حدّ تعبيره.

أمّا نظريّة خليل حاوي الشعريّة التي قال إنّه استمدها ممّا أسماه «بدائه الفنّ الشعريّ» متحاشيًا بذلك ما دعاه بالمذهبيّة المتطرّفة والنظريّات الجزئيّة المغالية، فقد استندت إلى تعريفه الشعر بأنّه «رؤية تنير تجربة، وفنّ قادر على تجسيدهما معًا». وليست الرؤية الشعريّة بالنسبة إليه «ضربًا من الوهم الضبابيّ الغامض الضائع المنفصل عن واقع الحياة... بل نفاذ عبر الواقع اليوميّ والحالات النفسيّة المرتبطة به إلى الأغوار، حيث تهجع المنازع الأصيلة في ذات الشاعر وذات الحضارة التي ينتمي إليها، وربّما استطاع أن يعبّر عمّا تضمره تلك الأغوار تعبيرًا لا يتيسّر للمناهج الفلسفيّة».

بهذا رفع حاوي الشعر إلى مرتبة لا ينالها سواه من الإبداعات الإنسانيّة. فالرؤية الشعريّة - فيما يرى - تمكّن الشاعر من كشف الحقائق الكامنة في ضمير الوجود، وتمنحه القدرة على التوحيد بين الظاهر والباطن، وبين الكلّيّ والجزئيّ، وبين الحالات النفسيّة والظواهر الحسّية. وقد اشترط حاوي تولّد الرؤية عن تجربة كيانيّة تعانيها ذات الشاعر بكليّة عناصرها معاناة للوجود على مستوى الواقع وما فوق الواقع ودونه، حتّى لا تكون تهويمًا في فراغ، أو تحليقًا في عالم أثيريّ منقطع عن أرض الواقع، وكي لا تغدو نزوعًا مثاليًّا «إلى صفاء التجريد حيث تكاد تنعدم الحيويّة والحركة..... فكلّ فنّ عظيم مرتبط بالإنسان والأرض والواقع بكلّ تناقضاته»، كما قال في أحد حواراته. وكان اعتقاده راسخًا لا بحتميّة ارتباط الرؤية بواقع الشاعر وعصره فحسب، بل بالتحامها بجوهر إنسانيّة الإنسان عبر العصور؛ فالرؤية في رأيه - لا تنبع إلاّ من إخلاص الشاعر لواقعه الذاتيّ وللواقع القوميّ، وواقع الإنسانيّة في كلّ عصر وحضارة. وبسبب تلك الوحدة التي لا تنفصم بين الرؤية الشعريّة والواقع، لم يقف حاوي بتعريف الشعر عند حدود الرؤية، بل أضاف إليها عنصر التجربة، لأنّ شعر الرؤية المجردة «لا يفضّ أسرارًا ولا يكشف عن مجاهل النفس والوجود، وربما استحال إلى مجموعة من الصور البرّاقة شبيهة بالألعاب الناريّة».

أمّا التجربة الحياتيّة التي تنيرها الرؤيا، فإنها - في رأيه - نقيض الرؤيا، فهي مادّة ملبّدة يشترك في معاناتها الناس جميعًا، وينفرد الشاعر بما يمتلك من رؤية، بكشف ما تنطوي عليه. وتمتاز التجربة الشعريّة عن تجربة العاديّ من الناس - فيما ذهب إليه - كما تمتاز رؤية الشاعر، بأنّها تتخطى حياة الفرد إلى نبع التجربة الإنسانية الكلية.ويؤكد حاوي أنّ هذا التخطّي هو ما يُميّز الشعر العربيّ الحديث عمّا سبقه مباشرة من شعر شكّلت الحداثة الشعرية ثورة عليه؛ بل هو الميزة الأساسية للشعر الحديث، وليست ميزته تخلّ عن الأوزان، وما أسماه باستهداف الصور المدهشة والغريبة والتجارب المنحرفة. وقد حدّد حاوي التعبير الشعريّ بالتجسيد، وعدّ التجسيد سمة الفنّ وتعريفه. والفنّ كما الشعر، تجسيد للرؤية المتّحدة بالتجربة الذاتيّة-الإنسانيّة والحسّيّة-الكلّيّة، والواقعيّة - المطلقة. وكان اعتقاده راسخا بأن الرؤيا هي مصدر كل معرفة؛ أكانت علميّة أم فلسفيّة أم شعريّة، لذا فإنّها تتمثل أصفى تمثّل في الشعر الذي لا تضاهيه معرفة أخرى في الكشف عن حقيقة الوجود، واكتشاف المطلق والتعبير عنه بلغة مجازيّة يميّزها الإيقاع الموسيقيّ، وتغنيها الصور والرموز.

في هذا التعريف الدقيق للشعر وما قدّم من شروح نقديّة وفلسفيّة حوله في كتاباته ومحاضراته وأحاديثه، تبرز قدرة خليل حاوي على تحقيق المزاوجة بين تجربته الشعريّة المتميّزة وثقافته الفلسفيّة العميقة والواسعة. ولقد استنطق تجربته الشعريّة ما قرّره من مبادئ تشكّلت في فكره عبر قراءات وتأمل، ذاهبًا إلى القول بأن تجربته الشعريّة هي الأساس الذي ينطلق منه ليصوغ نظريّته الشعريّةالمتجذرة في تربة فلسفية خصبة.وبهذاكان خليل حاوي شاعرًا وناقدًا وفيلسوفًا، تفاعلت إبداعاته الشعرية والفكرية في علاقة جدلية مميزة، ليرسم بنتاجه معالم ما حلم بتحقيقه من نهضة ثقافية عربية.
-----------------------
* أكاديمية من لبنان.

--------------------------------------

لنْ تفنيَا خيراتِ أرْ
بدَ فابكِيَا حتّى يعودَا
قُولا هُوَ البَطَلُ المُحَا
مي حِينَ يُكْسَوْنَ الحَديدَا
وَيَصُدُّ عَنَّا الظّالِميـ
ـنَ إذا لَقِينَا القَوْمَ صِيدَا
فاعتاقهُ ريْبُ البريّـ
ـةِ إذْ رَأى أنْ لا خُلُودَا
فَثَوَى ولَم يُوجَعْ ، ولَمْ
يُوصَبْ ، وكانَ هُوَ الفَقِيدا

لبيد

 

ريتا عوض