ملف: الشعر العربي المعاصر: الغربة والحنين في شعر بدوي الجبل

ملف: الشعر العربي المعاصر: الغربة والحنين في شعر بدوي الجبل

بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) واحد من أعلام الشعر العربي البارزين في العصر الحديث، ترك وراءه ديوانًا كبيرًا على قدر كبير من التفرد والإبداع، وكان أحد ثلاثة أبدعوا في الشعر وهم بدوي الجبل وعمر أبوريشة ونزار قباني، وقد اعتبرهم النقاد المحدثون من أساطين الشعر في سورية.

ناضل بدوي الجبل الاستعمار الفرنسي، ونفي وشرد وسجن وعذب من أجل تحرير سورية من نير المستعمر، وقد سجل في شعره كثيرًا من القصائد التي تعبر عن غربته القسرية وحنينه إلى وطنه، ويعتبر الحنين إلى الوطن أولى بوادر الوطنية في شعره، وكان دائما في تغزله بدمشق والشام يذكر زعماءها السياسيين الذين قادوا الثورة مثل شكري القوتلي وسعدالله الجابري والدكتور عبدالرحمن الشهبندر، فقد ألمح إليه في قصيدة ألقاها في قاعة المجمع العربي بدمشق معبرًا عن دوره في الحراك السياسي، والعمل الوطني لإنقاذ سورية من الاحتلال.

كبرت الشام في قلب شاعرنا، ونمت مع نموه، فراح يسكب ألحانه الشجية في التغني بها وبحبها وهو بعيد عنها، يعيش في بلاد العالم بائسًا فقيرًا مشردًا، عاش مغتربًا في فيينا وإسطنبول وبيروت:

تغرَّبَ عن مخضوضل الدوح بلبلٌ
فشرّق في الدنيا وحيدًا وغرّبا

وإن لنا في الحنين إلى الوطن في أثناء غربته عنه، وكانت غربته قسرية في كل الأحوال، شعرًا غزيرًا مبدعًا عبّر فيه عن وطنيته الصادقة، وانتمائه للشام، وارتباطه بأرضه وقومه، وقد تألق في وصف الشام وغوطتها وفي الحنين إلى أماكنها وأهلها، وهذا الشعر الذي جاد به البدوي من أروع الأشعار أسلوبًا وعاطفة، بلّل قصائد الغربة بدموعه وضمنها أفكاره ورؤاه وفلسفته في الحياة:

أنا والربيع مشردان
وللشذا معنا ذهابُ
دنيا بقلبي لا تحد ولا
تُــردُّ ولا تـجـاب
والنور يسأل والخمائل
والجمالُ: متى الإياب؟

والبدوي وهو بعيد عن وطنه يتنزى ألمًا، والألم أقوى ملهمات الشاعر، أثرى ديوان الشعر العربي بهذا الفن القديم الحديث، ونجد له من روائعه «البلبل الغريب» وقد نظمها في فيينا وبث فيها حنانه وشوقه لأهله وذويه.

ويدل هذا الحنين إلى وطنه عند اغترابه عنه على وفائه للوطن، فقد كان يمكنه وقد عاش سنوات في البلاد الأوربية - أن يحيا فيها حياة سعيدة كآلاف ممن تركوا وطنهم وعاشوا في سعادة في مغتربهم متناسين وطنهم وأهلهم بكل يسر لما توفره لهم أجواؤها من حرية مطلقة في الحياة والآراء ورفاه العيش، ولكن المنتمي إلى وطنه لا يفكر إلا فيه، كالطائر الذي يعود إلى عشه ويحلم بوطنه إذا هاجر منه. وقصائده تمتلئ بالحرقة والشوق، وتنضح بالحنين، ونجد في هذا الشعر الأسلوب العربي الجزل والعاطفة الصادقة المشبوبة، والصور الفنية التي تشير إلى اقتدار الشاعر في صياغتها ورسمها، وقد صورحياة البؤس والتشرد وشظف العيش والتشرد والضياع. يروي زهير المارديني في كتابه عن البدوي «حكاية شاعر» على لسان البدوي هذه القصة التي تدل على حياة الضنك التي عاشها في بيروت «أيام احتجازي في قلعة (كسب) كان والدي مازال حيًا، فعاشت عائلتي في كنفه تحت ظل رايته، أما تشردنا الأخير في بيروت عام 1956 هربًا من بطش عبدالحميد السراج واتهاماته وتنكيله فقد كلفنا كل أبيض احتفظنا به للسود من الأيام، وهل هناك أكثر من أيام بعدنا عن بلادنا ظلامًا وأقسى منه ظلمًا وأمرّ وقعًا في نفوسنا؟!

عانينا الحرمان، وشظف العيش، وزوجتي باعت حليها، وكل نفيس وغال لديها».

ثم غادر لبنان إلى تركيا فأقام فيها سنتين ثم انتقل إلى فيينا بقي فيها تسعة أشهر ثم سافر إلى روما حيث بقي فيها وفي جنيف سنتين، وفي روما وجنيف أنشد في الغربة ثلاث قصائد من روائع شعره.

وشعره في الغربة والحنين جزء من عمله الوطني والنضالي والسياسي، الذي مارسه بدوي الجبل، لأن هذا الشعر كان أثرًا من آثار النضال ضد الفرنسيين ونتيجة عمله النضالي، فلم يكن بدوي ليغادر بلاده بإرادته ولكنه ارتحل عنها واغترب هربًا من ملاحقة سياسية وخوفا من بطش وأذى، فقد أمضى سنوات من عمره وهو في المغترب من أجل وطنه وبلاده، وقد تدفق شعر الغربة غزيرًا رائعًا يعبر فيه عن همومه الوجدانية وعن هموم أمته ووطنه، فقصيدة الغربة لم يكتف فيها بذكر مشاعر الشوق ولكنها أصبحت على يد بدوي ملحمة وطنية وسياسية وقومية، تقص أسباب نزوحه عن أرضه، وتحكي تداعياته وتجلياته، وتسترسل في ذكر أولاده وأحفاده وأصدقائه من زعماء سورية السياسيين:

تطوحني الأسفار شرقًا ومغربًا
ولكن قلبي بالشآم مقيم
وأسمع نجواها على غير رؤية
كأني على طور الجلال (كليمُ)
وما نال من إيماني السمح أنني
أصلي لها في غربتي وأصوم

وفي القصيدة نفسها يرد على قصيدة للشاعر السوري الكبير شفيق جبري، الذي أرسل إليه قصيدة وهو في منفاه في فيينا مطلعها:

لا الغوطتان ولا الشبابْ
أدعو هواي فلا أجابْ
العندليب على البحيرة
والجوانح في اضطراب
ملّ المقامَ وما يملّ
مقامه فمتى الإيابْ؟

ويرد البدوي على قصيدة جبري بقصيدة فيها خلاصة تجربته في التشرد والضياع، وفيها تصوير عميق لحالات نفسية مرّ بها في غربته، وتضم كل ما يعتري البعيد عن دياره من هموم وذكريات وتداعيات:

وفاء كمزن الغوطتين كريمُ
ورحب كنعماءِ الشآم قديمُ
وشعر كآفاق السماء تبرجَتْ
شموسٌ على أنغامه ونجومُ
يلمّ (شفيق) كوكبًا بعد كوكبٍ
ونسّق منها العقد فهو نظيمُ

وقصيدة الغربة والحنين عند بدوي الجبل من سماتها الفنية أنها لا تتقيد بموضوع واحد ولا بمضمون معين، وإنما تسبح في فضاءات وسماءات مختلفة، وتحلق في عالم التصوف والفكر والفلسفة، فهي كالبلبل تتنقل من فنن إلى فنن ومن دوح إلى دوح، ويطير من سماء إلى سماء، وهي ذات ألوان وطيوب وأنغام، وذات دروب ومسالك وعرة، فمرّة تنساب كأنها الجدول الرقراق، ومرة تتهادى فوق سنام، ومرة ثالثة تقوم أمامها صعوبات في الفهم والإدراك، لأنها تدخل في فلسفات مختلفة، ولكن أروع الأبيات تلك التي تتراءى لنا فيها أماكن السحر والجمال ومرابع الهوى والغرام، وتتجلى فيها الشام بمحاسنها وهو يقف عند البحيرة:

تبادهني عند البحيرة دمّر
وروضٌ على أفيائها وشميمُ
ووُرْقٌ على شط البحيرة حوّم
وورق على قلب الغريب تحومٌُ
خيال جلالي الشام حتى إذا انطوى
تنازع قلبي عبرة ووجوم
وحيّت من الروح الشآمي نفحة
ولوع بأشتات الطيوب لموم
ولاح صغاري كالفراخ وأمهم
حنون كورقاء الغصون رؤوم

ويعزف بدوي الجبل على هذا الوتر، ويصدح بأجمل الأغاني في الشوق والحنين وتصوير شدّة اللوعة والأسى في بعاده عن الوطن الذي أحبه وغالى في حبه وتقديره إلى درجة التقديس، وعزف على قيثارة الغربة أعذب الأناشيد في جمال الشام وطبيعتها الخلابة، وهذا يدل على هيامه بها، وقد أغرق في حبها وهواها حتى خرج عن الطور:

حلفت بالشام هذا القلب ما همدا
عندي بقايا من الجمرالذي اتقدا
لثمت فيها الأديم السمح فالتهبت
مراشف الحور من حصبائها حسدا
ألملم الجمرات الخضر من كبدي
وأسترد الصبا والحب والكبدا

ولا يقول هذا الشعر إلا من تمرغ قلبه بنار الحب والهوى، ووهب حياته ودنياه لمن أحب، وأفنى عمره يكافح من أجله.
--------------------------
* أكاديمي من الكويت.

-----------------------------------------

أعاذلَ قُومي فاعذلي الآنَ أوْ ذَري
فلستُ وإنْ أقصرتِ عنّي بمقصرِ
أعاذِلَ لا واللهِ ما منْ سلامة ٍ
وَلَوْ أشفقتْ نَفْسُ الشّحيحِ المُثمِّرِ
أقي العِرْضَ بالمَالِ التِّلادِ وأشْتَري
بهِ الحَمدَ إنَّ الطّالبَ الحمدَ مُشترِي
وكَمْ مُشترٍ من مالِهِ حُسنَ صِيِتهِ
لأيّامِهِ في كُلِّ مَبْدًى ومَحْضَرِ
أُباهي بهِ الأكفاءَ في كلِّ مَوْطِنٍ
وأقضي فُرُوضَ الصَّالحينَ وَأقْتَرِي

لبيد

 

 

عبدالهادي عبدالعليم صافي