الفكر الغربي وإشكالية «الصورة» في الإسلام

الفكر الغربي وإشكالية «الصورة» في الإسلام
        

          مثّل الإسلام، دينا وحضارة، مركز جذب واهتمام من قبل مفكري الغرب منذ أمد بعيد، والأمر الذي لايمكن أن يخفيه دوي الاصطدام التاريخي والحضاري بين الإسلام والغرب وتجلياته العنيفة البادية في أساليب الاتهام وردود الأفعال والإقصاء والعنف هو أن هناك ثلة من الباحثين والمفكرين الغربيين يسعون إلى دراسة الإسلام وفهم حضارته، معتمدين في ذلك وسائل غير سياسية أو أيديولوجية. وقد لايتفق الفكر الإسلامي مع النتائج التي يتوصل إليها هؤلاء، ولكن العدل يقتضي الشهادة بأن طريق البحث العلمي الرزين هو الطريق الأمثل للفهم والحوار، حتى وإن جاءت النتائج متباينة في بعض المناسبات والمواقف.

          وتعتبر الفنون في الحضارة الإسلامية أخصب الموضوعات المهيمنة على اهتمام مفكري الغرب ودارسيه، وأوفر الميادين التي عرفت إنجاز أبحاث من قبل المستشرقين وغيرهم. ولعل محاولة استقصاء إنتاج هؤلاء في دراساتهم عن الفنون الإسلامية يشكل، وحده، موضوعا خصبا لبحث أكاديمي، من مثل جهود «كونل أرنست» و«مارسيه جورج» و«جاك بيرك» و»م.س. ديماند» و«ت.و. أرنولد» و«وليم مارسيه» و«أوليغ كرابار» وغيرهم كثير.

          وتمثل دراسة الباحثة «سيلفيا نييف» «Silvia Naef»، الأستاذة المساعدة في وحدة العربية بجامعة جنيف، التي نعرض لها نموذجا للدراسات المنهجية في موضوع الإسلام والفن، وهي دراسة تعتمد القراءة التاريخية والإشكالية للموضوع الذي مازال الباحثون والعلماء في دائرة الفكر الإسلامي يتجاذبون الاجتهاد فيه ما بين محرم ومنكر ومبيح بتقييد أو بإطلاق.

          تنطلق الباحثة من واقعة إقدام حركة طالبان على تدمير تماثيل«Bouddhas de Bamyan» سنة 2001 بأمر من الملا عمر، وهي واقعة تؤكد، في نظر الرأي العام العالمي، أن الإسلام معاد للصورة، لأن الفتوى الطالبانية تعلل الإقدام على التحطيم بكون تلك التماثيل تمثل رمزا للشرك والكفر، ولامعبود، بحق، إلا الله.

          والمفارقة التي تثير انتباه الباحثة أنه رغم هذا النزوع نحو التحريم، فإن أي زيارة إلى بلاد المسلمين تضعك إزاء واقع آخر، واقع مليء بالصور.. صور نجوم السينما والأغنية ورؤساء الدول، وصور دينية شعبية، وإعلانات مثيرة للسينما والإشهار. وفي بيوت الناس، تنتشر صور العائلة في كل مكان، والتلفزيون لا يتوقف طوال اليوم، والناس يحتفظون بصور لحفلات الختان والزواج، ويسجلونها على أشرطة الفيديو ليشاهدها الضيوف والزوار.

          تمثل هذه المفارقة الصارخة والعنيفة نقطة الانطلاق للبحث في موضوع الصورة في الإسلام، وقد خصصت الباحثة الفصل الأول لتحليل النصوص الدينية الأصلية، نصوص القرآن والحديث النبوي. أما الفصل الثاني، فهو نظرة موجزة في إنتاج الصورة في ثلاث مناطق من العالم الإسلامي، في المنطقة العربية وإيران وتركيا، وذلك من أجل معرفة أين وكيف أخذت الصورة تظهر في هذه الحضارة؟

          أما الفصل الثالث، فهو مخصص لمعالجة ظاهرة تعدد الصور وتكاثرها في المرحلة الحديثة والمعاصرة.

          وفي ثنايا هذه الفصول، تسعى الباحثة إلى أن تثير مجموعة من القضايا والإشكالات، بعضها يرتبط بفهم النصوص، وبعضها يتصل برد فعل العلماء تجاه انتشار الصورة وتعدد تجلياتها. وذلك كله من أجل أن تصل إلى «حقائق» فرعية تصب جميعها في اتجاه تأكيد حقيقة جوهرية، وهي أن الوضعية الجديدة المتمثلة في اكتساح الصورة لمختلف جوانب حياة المسلمين، وضعت العلماء في انزياح عن تطور المجتمع، وهو ما يفسر، بنظرها، «وجود اتجاه نحو إعادة تأويل النصوص الأصلية في الموضوع، إعادة تأويل يذهب من حدود القبول المشروط أو الكلي للصورة إلى حدود المنع المطلق».

فهم سياقي معتبر

          في سياق بسطها لموقف القرآن من الصورة، رصدت الباحثة موارد ورود كلمة «صورة» في الاستعمال القرآني، وتبين لها أن اللفظة ذكرت أربع مرات في القرآن للدلالة على عملية الخلق الإلهي للإنسان.

          وأشارت إلى أن القرآن الكريم استعمل مصطلحات دالة على صور متعينة في الوجود، مثل: «التماثيل» و«الأنصاب» و«الأوثان» و«الأصنام».

          واستحضرت السياق الديني والثقافي العربي قبل الإسلام، ممثلا في اتخاذ العرب وسائط يتقربون بها إلى الله، وهي وسائط مادية في شكل صور منحوتة، وانتهت إلى أنه يتعين استحضار هذا السياق بين يدي فهم الآيات فهما سليما. تقول: «يتعين وضع الآية التي يستشهد بها، عادة، للتدليل على تحريم الصور، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه   في سياق مجابهة القرآن للشرك ومظاهره في البيئة العربية».

          وإذا تأكد هذا الفهم السياقي، فإنه من الصعب، تقول الباحثة، إيجاد «نظرية للصورة»، أوعلى الأقل، وضعا محددا في الموضوع، والنتيجة هي أنه كيف يمكن للقرآن أن يحرم طقوس التصوير التي لم تكن، في جميع الاحتمالات، موجودة في البيئة العربية، بمفهوم الصورة المتعارف عليه اليوم؟

          والواقع أن هذه الالتفاتة من قبل الباحثة جديرة بأن تشكل محطة استبصار للفكر الإسلامي المعاصر، وذلك أن مختلف المفسرين القدماء استندوا إلى أقوال للصحابة في الموضوع، ربطوا فيها بين سياق القرآن وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام المفيدة للنهي عن اتخاذ الصورة أو ممارسة التصوير، مع أن سياق الآيات غير ذلك. وقد التفت علماء أجلاء في العصر الحديث إلى أن مذهب المفسرين في تحريم الصور بمقتضى الآيات الواردة في موضوع الأصنام والتماثيل إنما هو مذهب مرجوح (انظر كتابات الشيخ يوسف القرضاوي في الموضوع).

          لقد آن الأوان للقيام بمراجعة نقدية للأحكام المرتبطة بموقف الإسلام من التصوير والصورة، وخاصة الحكم الذي يذهب إلى أن الفن الإسلامي فن يستبعد التجسيم والتجسيد، ويلغي من ساحته أي محاولة لتمثل الجمال في بعده المادي المجسم، وذلك الحكم الذي يطمئن إلى أن الفن الإسلامي اختار أسلوب التجريد والرمز كي لايقع في مغبة مشاركة الذات الإلهية في صنعه وإبداعه، إيمانا من الفنان المسلم بأن التكوير والتصوير والخلق هو من اختصاص الله عزو جل، وأن التجسيم تذكير بالوثنيات، إذ هي أحكام تفتقد التعليل المقاصدي للظواهر، وتقف عند حدود المستفاد اللفظي من دلالة النصوص، بينما يوجد للنصوص آفاق دلالية ومقاصدية، وهو ما أشار إليه بعض العلماء المجيزين للصورة والتصوير. وقد نبهت عليه الباحثة بين يدي سردها للأحاديث في موضوع «الصورة»، فذكرت أن الخوف من الانشغال برؤية تلك الصور عن الخشوع في الصلاة هو علة النهي، وليس لأنها صور في حد ذاتها.

رصد وتحليل

          أنجزت الباحثة رحلة موجزة في واقع الصورة وتطورها بالعالم الإسلامي، سواء بالأماكن الخاصة أم الأماكن العامة، وفي مختلف تمظهراتها، في المخطوطات والمنمنمات والتماثيل والزخرفة. وفي الفصل الثالث، حاولت رصد مواقف العلماء المحدثين والمعاصرين من قضية «الصورة والتصوير»، رغبة منها في إيجاد تفسير لدواعي تلك المواقف وخلفياتها.

          وهكذا، فقد أوردت آراء للشيخ محمد عبده الذي زار فرنسا وأعجب بمظاهرها العمرانية والجمالية. فقد قارن الشيخ بين الصورة المادية والصورة الشعرية، واعتبرها ضرورية في الحياة العملية، وبمقارنته تلك، فإنه، تقول الباحثة، يقبل بالصورة المادية باعتبارها مساعدة على التذوق الجمالي.

          وأشارت إلى رأي تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا الذي انطلق من قاعدة «رفع الحرج عن الأمة» ليؤكد قبول الإسلام للصورة في خمس حالات تدخل جميعها في سياق بيداغوجي تربوي أو في سياق عسكري أمني، ويعتبر الإسلام مانعا لكل ما هو مشين، أو بإمكانه أن يفضي إلى ما هو مشين.

          وقد كان رشيد رضا متشددا إزاء فن التماثيل، وذلك راجع إلى أنه عاصر استبداد مصطفى كمال أتاتورك الفكري والسياسي، هذا الأخير الذي أعلن، واستنادا إلى التجربة المصرية في إقامتها لتمثال مصطفى كمال، بأن كل أمة متحضرة يتعين عليها أن تشيد برجالاتها، وأنه من المخزي للمسلمين أن يتخيلوا إمكانية العودة إلى الشرك بعد ألف وثلاثمائة سنة من ظهور الإسلام.

          وقد رد عليه رشيد رضا بأن استناده إلى التجربة المصرية، بخصوص تمثال مصطفى كمال، لاأساس له من الشرعية، لأنها لم تستند إلى أقوال العلماء بالأزهر في الموضوع، ثم إنه من العبث أن يصار إلى رفع التماثيل التي تكلف إمكانات مادية على مستوى موادها وإنجازها في ظل فقر مخيم على الأمة. إن الأمر، بنظر رشيد رضا، لايعدو أن يكون سلوكا دخيلا وتقليدا للغرب.

          أما في البيئة الشيعية، فقد استدلت الباحثة بموقف الشيخ محمد حسين الكاشف الغطاء، الذي أقدم على نشر صورة شمسية له على ظهر غلاف مؤلفه، وقد علل ذلك بقوله إن الإسلام لم يحرم ذلك، وإنما حرم الصور ذات الأبعاد الثلاثية باليد، أما الصورة الشمسية، فإن الأدلة الشرعية التي يمكن أن تسوق إلى تحريمه غير مستقصية، ولاتعلق لها بموضوع «الصورة الشمسية». ومن ثم، يبقى هذا النوع الأخير على أصله من الإباحة.  وتستنتج الباحثة بأن هذا الموقف، وإن أباح الصورة الشمسية، فإنه يظل صارما إزاء الصورة المشخصة.  وعندما نصل إلى الحقبة المعاصرة، فإنها تستدل بآراء للدكتور يوسف القرضاوي وجاد الحق علي جاد الحق وسيد قطب ومحمد قطب وحسن الترابي، وهي آراء تظل موزعة بين تخصيص التحريم وتقييد الإباحة، مما يدل على استمرار الجدل الفقهي حول الموقف من التصوير والرسم والنحت.

          وتنتهي في خاتمة الدراسة إلى أن الموقف من الصورة لدى علماء الإسلام يتخذ حالتين: حالة متشددة ممثلة، على وجه الخصوص، لدى العلماء المتأثرين بالنزعة الوهابية، الذين يرفضون، بنظرها، جميع أشكال الصورة، بما فيها الصورة الشمسية، إلا أن التأثير الواقعي لهذا النزوع ضئيل جدا بالنظر إلى الانتشار الشعبي لمختلف أنماط الصورة وتجلياتها حتى في البلاد الخاضعة للرقابة. وحالة الاتجاه الواقعي الذي يبيح بعض أنواع الصورة مثل الصورة الشمسية لكونها لا تتوفر على نية الخلق من قبل الإنسان، أما التماثيل، فلا موقع لها إلا إذا كانت لها وظيفة بيداغوجية.

إشكالات

          لم تخل الدراسة من إثارة بعض الإشكالات، نجملها في العناصر الآتية:

          - يلاحظ شبه في الموقف من الصورة بين التعاليم الإسلامية والتعاليم اليهودية، وقد أثارت الباحثة هذا الموضوع معتبرة إياه فرصة علمية للبحث والدراسة، إذ يلاحظ أن اليهودية، مثل بعض النصوص والممارسات الإسلامية، لم تحتضن »الصورة» في المجال الديني، على خلاف المسيحية التي تعاملت، في الممارسة الواقعية، مع الصورة تعاملا قدسيا، ودمجتها في سياق الطقوس والعادات المقبولة.

          بل إن تيارات داخل الفكر المسيحي ترفض تقديس الصور، ففي عهد الإصلاح الديني ببريطانيا خلال القرن السادس عشر الميلادي، تعرضت نوافذ بعض الكنائس للتكسير من قبل معارضين لعبادة الصور وتقديسها.

          والإشكال يتخذ طابعا استفزازيا للعقل المسلم ولنظرية الفن الإسلامي حين يعلم بأنه إذا كانت النصوص القرآنية والحديثية احتمالية في دلالتها على تحريم «الصورة» و«التصوير»، فهل يمكن اعتبار قبول الثقافة الإسلامية والممارسة الحياتية منذ عهد الصحابة بنفي الصورة من المجال الإسلامي، إنما هو من تأثيرات الثقافة اليهودية؟

          يبقى هذا مجرد سؤال لم تجب عنه الباحثة، وما ينبغي لها ذلك، لأنه يحتاج إلى دراسات ومقارنات.

          - كيف يظل العلماء متمسكين بظواهر النصوص في واقع هيمنت فيه الصورة على مختلف المستويات والميادين، ودخلت مختلف الفضاءات باستثناء بيوت الله؟ (إذا لم نستحضر أجهزة نقل الدروس الدينية والمحاضرات من المساجد).

          - تذهب الباحثة إلى أن الخطاب الرائج حول منع الصورة إنما يهدف إلى تمرير خطابات أخرى لها تعلق برفض الرسالة التي يمررها التلفزيون، مثلا، أو الدعوة إلى القيام ضد السلطة السياسية القابعة خلف صور الزعماء السياسيين وما إلى ذلك. وبالمنطق نفسه، ألا يمكن القول إن الخطاب الرائج حول منع الصورة وتحريمها لايتعلق بمنعها باعتبارها «شأنًا ماديًا»، وإنما باعتبارها حاملة لرسالات ورموز ودلالات، وباعتبار ما يقبع خلفها من فلسفات وأفكار وتوجهات؟ بمعنى أنه لو كانت الصور حاملة لأبعاد إيجابية، وغير مستنبطة لفلسفات منحرفة، لربما خفت حدة المنع والتحريم!

          - وأخيرا، فإن أكبر إشكال تثيره الباحثة، بعد رحلة تحليلية للنصوص والآراء والفتاوى، هو: هل وجدت «إشكالية الصورة في الإسلام»؟ ألا يمكن الذهاب - تقول الباحثة - إلى أن السؤال حول » إشكالية الصورة في الإسلام «إنما هو ابتكار غربي بالدرجة الأولى؟ ابتكار ينتمي إلى الغرب الذي يريد تنميط الحضارات وفق رؤيته المركزية، ويتخذ من حضارته ميزانا في قراءته وتقويمه للحضارات الأخرى. ومادامت المسيحية قد احتفت بالصورة ورفعتها إلى طقوس التقديس، فلا بد أن يسير الإسلام على نهجها، وإلا اعتبرت المسألة إشكالية!

          ولايمكن لدارس كتاب «سيلفيا نييف» إلا أن يواصل إثارة الإشكالات، من مثل: إذا كانت «إشكالية الصورة في الإسلام» ابتكارا غربيا، أفلا يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، فنقول: إن موقف علماء الإسلام المتشدد من الصورة والتصوير والنحت إنما يرتد، في جزء كبير منه، إلى الحضور السلبي للصورة في الإبداع الغربي، ذلك الحضور الذي استعان بالتكنولوجيا المعاصرة ليفرض هيمنة مختلف أشكال المسخ في حق النوع الإنساني، فضلا عن ابتذال الجسد وتجاوز حدود القيم. ولو أن الغرب، أو التيار الغالب على الأقل، ظل يتعامل مع الصورة في بعدها الإيجابي، في المجلات والسينما والمسرح والتلفزيون والملصقات والإعلانات،فمن المحتمل أن تتسع دائرة المجيزين للصورة في الفقه الإسلامي المعاصر.

          إن كتاب «سيلفيا نييف» يمثل تحديا في وجه المنظرين للفن الإسلامي وفقهاء الأمة، تحديا يتجلى، أولا، في إعادة قراءة النصوص الواردة في الموضوع، ويظهر، ثانيا، في كيفية إخراج آحاد الأمة وجماعاتها والإنسانية جمعاء من إصر الاضطراب في الموضوع وأغلال الفتنة في التعامل مع الصورة المهيمنة في كل فضاء.

          إن العصر الحاضر والمستقبلي هو عصر الصورة بالإجماع، فهل يكون علماء الإسلام على استعداد لأن يبينوا للإنسانية مقاصد الإسلام في الموضوع؟.

 

سيلفيا نييف