إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

تحويل الفن إلى "شاورما"

قالت لي فنانة تشكيلية كويتية شهيرة إنها لا تحب أن تشاهد الأفلام التي تعرضها دور السينما في الكويت لأنها عبارة عن "شاورما" من كثرة ما فيها من حذف وتقطيع, وحتى لا نظلم دور العرض الكويتية فإنها تشترك في ذلك مع بقية زميلاتها في باقي الدول العربية, وهي لا تمارس هذا الفعل بنفسها, ولكن يقوم بذلك جهاز متخصص في تقطيع الأوصال نطلق عليه من باب الأدب والخشية "جهاز الرقابة" وما أدراك ما الرقابة, إنه جهاز يفترض فيك السذاجة المركبة, ذلك النوع الذي يقترب من درجة البلاهة بحيث لا يجعلك تميز ما تراه, ولا تعرف ماذا يمكن أن يفيدك أو يضرّك, وقد كنت شخصياً أؤمن بذلك, وأشكر الله أن خلق لنا جهاز الرقابة للحفاظ على عقولنا الضعيفة وأخلاقنا الهشّة حتى رأيتها وهي تتدخل بقسوة لتبتر مشهداً رقيقاً يجمع عاشقين بينما تترك المجال مفتوحاً أمام مشاهد لا تحتوي إلا على مشاهد من العنف السادي وأنهار من الدم كافية لتلطيخ مدن بأكملها, وكان المثير في الدهشة هو ذلك الاستفزاز الذي تشعر به هذه الأجهزة أمام كل ما يمكن أن يخاطب العقل, وتركها المجال لكل ما عدا ذلك, وهي على إيمانها بمدى الدنس والإثم اللذين يمكن أن يتولدا عن غريزة الجنس تترك المدى على اتساعه أمام بقية الغرائز المدمّرة من كراهية وعدوانية وبغضاء معتبرة إياها من الفضائل البشرية.

وإذا تركنا مجال الأفلام ونظرنا إلى موضوع الرقابة بشكل عام, لاحترنا في معرفة من اخترع جهاز الرقابة هذا?, هل هو "جوبلز" وزير الدعاية في ألمانيا النازية الذي كان يتحسس مسدسه كلما ذكرت كلمة ثقافة?, أم هو الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي كانت رقابته تمتد إلى ما يتناوله الناس من أطعمة فيمنع عنهم بعض الأنواع ويجيز البعض الآخر?, أم إلى جنود فرعون القدامى الذين كانوا يقتحمون البيوت بحثاً عن كل مولود ذكر? ما أوقن منه تماماً أنه كلما كانت الأنظمة شديدة القمع, كانت الرقابة هي سلاحها الأول, أي أنه جهاز مهمته الأولى أن يمنعك من التفكير حتى لا يقودك هذا الدرب من النشاط الذهني إلى موارد التهلكة, وأنا أدرك أنه يجب أن يكون هناك نوع ما من الرقابة حتى لا تنفلت الأمور وتخرج من عقالها, ولكن هذا النوع من الوصاية الرقابية الآن كفيل بتجفيف كل ما في النفس من منابع الإبداع, إنني أفهم أن تكون هناك رقابة أخلاقية يحاول بها المجتمع المحافظة على القيم التي يؤمن بها, ولكني لا أفهم أن يعتقد بعض الناس أنهم يمتلكون الحق في فرض قيمهم على الآخرين, كما أفهم أن تكون هناك رقابة من الدولة على أنشطتها العسكرية خاصة إذا كانت في حالة من العداء المستحكم, ولكن لا أفهم أن يستغل هذا حجة في اتهام الناس والتدخل في حياتهم, كما لا أفهم أيضاً أن تتم الرقابة على ما يمكن أن يفكر فيه الفرد أو يعتقده أو يؤمن به مادام لا يؤذي الآخرين أو يحاول فرض الرأي عليهم, وأعود لرقابة السينما التي كانت بداية حديثي, وأقول إن الأمر لا يحتاج إلى تلك الكمية من الحذف والبتر بقدر ما يحتاج إلى تنظيم عملية دخول دور العرض وتحديد العمر المناسب لكل فيلم, وكذلك توقيت عرض هذه الأفلام بحيث تبعد عن مواعيد الصغار الذين لا نريد أن تتفتح أعينهم على "حقائق الحياة" في وقت مبكّر, ودعونا بعد ذلك نستمتع بتلك النماذج من الفن الرفيع دون أن نحوّلها إلى "شاورما".

 

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات