مساحة ود

في انتظار زيارته القادمة

انطلقت الزغاريد لتحتوي المكان كله وترتفع أصوات الموسيقى وتتناثر قبلات التهاني، وأنا كالتائهة.. تتسمر عيناي على وحيدي وهو يتهادى مع عروسه تحت أقواس المشاعل والزهور. تعلو أصوات الدفوف، ومعها تعلو دقات قلبي.. ها هو يرتدي حلته البيضاء الأنيقة. تتعلق عروسه بذراعه. تجرجر ذيل ثوبها الأبيض الجميل وكأنهما أمامي شلالات من نور.. وبداخلي تتماوج شتى الأحاسيس..

لأول مرة لن يعود معي إلى البيت.. لن أجهز له عشاءه.. لن يتبادل معي أحاديث وأحداث يومه... لن ينام هذا المساء في غرفته.. لن يقبلني قبلة الصباح.. إنني أتأرجح بين الفرحة وبين شيء آخر غامض لا أدرك كنهه.

وحيدي الذي لم ينفصل عني منذ كان جنينا في أحشائي أغذيه من دمي وحنا عليه قلبي قبل أن تحنو عليه عيناي.. الذي علمني أن أرعى صحتي ليصبح مكتملا صحيحا... علمني أن أحب كل طفل أراه بل علم قلبي أن يتسع لكل أطفال الدنيا...

وتتحول عيناي من فترينات ملابس النساء إلى فترينات اللعب وملابس وكتيبات الأطفال.. وتتحول متعتي إلى أشياء أخرى لم أكن أعرفها يوم ذهب إلى حضانة الأطفال.. يوم تعلم كيف يمسك بالقلم.. كيف ينمو عقله الصغير بشتى أنواع المعرفة. كيف بدأ يلهو بالبالونات والطائرات الورقية، ثم بدراجته الصغيرة حتى أصبح يقود سيارته ويصحبني معه.. كيف كنت أتتبع خطاه متعايشة معه في كل مرحلة من مراحل دراسته حتى الجامعة. أقابل مدرساته وأساتذته وأمتلئ فخرا وأنا أرى الحب يتناثر حوله.. كيف كان الهلع يعصف بي حينما يناوشه مرض أو بعض ألم.. وكيف كان القلق يحتويني إذا ما وجدته مهموما وهو يتفتح على مشكلات الحياة.. وتنير الدنيا كلها أمامي حينما يبتسم ويضحك ويلقي إلى ببعض نكاته..ها هو صغيري الآن.. يزف مع عروسه. يجلسان بين باقات الزهور والورد. وأحنو عليه بكل كياني وعيناي متسمرتان عليه تحتضنانه، وأقبله مع عروسه وأتقبل التهاني والسعادة تغمرني ولكن شيئا آخر غامضا معها... أداوي معاناة الفطام داخلي..

هدأ كل شيء وخفتت الأصوات. والكل يغادر المكان. أوصلت وحيدي إلى بيته الجديد. عدت أنا وزوجي فقط.. عدنا، كل منا يلتصق بالآخر، ندعو الله أن يحقق له السعادة. وقبل أن أنام أذهب إلى حجرته وأرتب سريره في انتظار زيارته القادمة، وأنا أقاوم أحاسيس الحنين إليه.