اللغة حياة

اللغة حياة
        

المعنى الصرفيّ والمعنى اللغويّ

          ليس للصيغ الصرفيّة والتصريفيّة معان لغويّة قائمة بذاتها، بل لها ما يمكن تسميته معاني صرفيّة مجرّدة، وشاملة لكل ما يقع تحتها؛ وتلك الصيغ، في الواقع، حركات افتراضيّة قصيرة وطويلة (ممدودة) لا تتحقّق إلاّ بالكلمات؛ وقد سمّوها الأفاعيل، مثل: فَعَلَ واستفعل وفاعِل ومفعول، إلخ. وتلك الأفاعيل تطبيق للصيغ على حالة رمزيّة واحدة هي جذر (فعل)، من غير أن تدلّ، بالضرورة، على الفعل بمعنى العمل، ولاسيّما إذا وُزنت بها الأسماء الجامدة مثل: صَخْر، وهو على وزن فَعْل. ولئن كانت الكتابة تجريداً للّغة، فإن الأفاعيل تجريد للتجريد.

          والمعاني الصرفيّة ترسم حدود المعاني اللغويّة: المعنى الأصليّ، أو ذاك المعنى وما يوسّع به أو يضيّق، وطريقة حدوث الفعل، ومقادير الأشياء؛ فزنة فاعَلَ، مثلاً، إنّما هي فتحة طويلة (ألف)، ففتحتان قصيرتان، ويكتبها أهل العروض هكذا: o - - فإذا جعلنا هذه الحركات على جذر «كتب» مثلاً، حصلنا على «كاتَبَ»، وهي صيغة تحتفظ بمعنى الكتابة، وتوسّعه، بالألف الزائدة، فتجعل الكتابة مشاركة بين طرفين أو أكثر. وإذا جعلنا جذر «حمل» على وزن تفعّل، حصلنا على تحمّل؛ وهي صيغة تحتفظ بمعنى الحمل، وتوسّعه، بزيادة التاء البادئة وتضعيف عين الفعل، فتجعل الكتابة متكلّفة. ومن التوسيع المبالغة، ومن التضييق التصغير أو التحقير. وأمّا المقادير فالإفراد والتثنية والجمع والكثرة والقلّة، إلخ.

          تلك مقدمة أردنا بها التمهيد للكلام على صيغة «فُعالة» بضم الفاء، التي أكّد مجمع اللغة العربية في القاهرة أنّها تدلّ على «نُفاية الشيء وبقاياه وما تناثر منه بعد الفعل» وأجاز إنشاء إلفاظ جديدة على زنتها للتعبير عن تلك المعاني.

          ويستدعي هذا القرار عدة ملحوظات، هي:

          1- أنّ لفُعالة معنىً صرفيّاً، كما سبق، وللنُفاية والبقية والنثار معان لغويّة، ولا يحسن إلباس الصرفيّ باللغويّ.

          2- أنّ تعريف الشيء لا يجوز أن يكون بأفراد من جنسه؛ فنحن حين نفسر صرفيّاً كلمة استقدم مثلاً، بمقتضى وزن «استفعل»، نعرف أو نستنتج ابتداء أنّ من المعاني العامة لهذا الوزن معنى طَلب الفعل؛ فنقول إنّ الاستقدام هو طلب القدوم، ولا نقول إنّ الاستفعال يدل على الاستقدام والاسترجاع والاستعلام، الخ. ذلك لأنّ التعريف ينبغي أن يكون جامعاً مانعاً، كما يقول المناطقة، وتعريف الصيغة بثلاث كلمات بنيت عليها تعريف ناقص وغير منطقيّ.

          وماذا لو زاد المجمع نقطة على فاء «نُفاية» واستعمل كلمة «نُقاية» بالقاف، وهي ضدّ معنى النُفاية، لأنّها تدلّ على خيار الشيء؟ وماذا يقول في الأُمامة (وهي ثلاث مئة ناقة)، والخُرافة، والفُجاءة، والبُداهة، والبُغاية (وهي المطلب)؟ وماذا لو حاولنا تنفيذ قرار المجمع بتطبيقه على فعل «سَبَك» مثلاً، فاشتققنا منه كلمة «سُباكة» فأين سنجد النُفاية والبقيّة والنثار؟ إننا سنحصل على معنى السبيكة التي لا نثار فيها، ولا تدلّ على النُفاية، ولاسيّما إذا كانت من معدن ثمين، كما لا تدلّ بحال على البقيّة.

          3- يؤكّد المجمع رجوعه إلى عشرات الألفاظ المبنيّة على هذه الصيغة، ليحصر دلالتها بالمعاني الثلاثة التي قرّرها؛ والواقع أنّ ثمّة مئات الألفاظ الموافقة لصيغة «فُعالة»، وقد أحصى منها السيوطيّ في «المُزْهِر» ستة وسبعين، وأحصينا نحو مئتين وخمسين، منها نحو مئتين في «الصحاح» للجوهريّ، فكيف لو أحصينا ما في «لسان العرب» و«تاج العروس»؟ وحبذا لو أنّ المجمع استقصى، إذن لوجد أنّ كل الكلمات الدالّة، مع بعض الصعوبة، على المعاني الثلاثة التي اختارها أقل من ثلث ما أحصيناه، فهي لاتصلح أن تكون أصلاً لقاعدة، ولوجد أنّها مرتبطة بمعاني أفعالها نفسها، أو بمعاني الأسماء المشتقة منها، لا من معنى صيغة «فُعالة»؛ فإذا لم يكن في العمل ما يؤدّي إلى التفتيت، فلا نثار، وإذا لم يكن فيه أخذ لأكثر الشيء، فلا بقيّة، وإذا لم يكن فيه ما يُنفى ويُنبذ، فلا نُفاية.

          4- وهي على قلّتها النسبيّة متأثّر شرحُها بآراء اللغويّين القدماء، وليس بحقيقة معناها؛ وقد عوّل المجمع على تلك الآراء نفسها. ونحن نعرف لأولئك العظام فضلهم، ونعرف للمجمع خدماته الجلّى، لكنّ من العقوق للقدماء أن نظلّ نمتطي ركابهم، ونترك مركباتنا الحديثة، فنكافئ جهدهم بشيء من التواكل.

          5- والمجمع لا يعود إلى المصدر، بل إلى المرجع، أي أنّه يترك قول سيبويه: «مثل هذا ما يكون معناه نحو معنى الفُضالة» وضرْبه على ذلك سبعة أمثلة، قائلاً بتقارب المعاني عند وحدة البناء، واستدراكه غير المباشر، بعد ذلك، بمعان أخرى لفُعالة، منها معنى الجزاء في نحو: العُمالة، وهي أجر العامل، والخُباسة وهي الغنيمة، أي جزاء الفوز في الحرب، والظُلامة، وهي ما يؤخذ ظلماً ويطلب إلى القاضي ردّه أو التعويض منه. ويأخذ المجمع في المقابل من الفارابيّ في «ديوان الأدب»، ومن غيره ممن يفترض أن يكون متأخّراً عنه.

          6- ولا أدري ما إذا كان المجمع قد عاد إلى الفصول التي كتبها ابن سيده في «المخصّص» وتناول فيها صيغة «فُعالة»، ونسب إلى سيبويه ومحمد بن السَرِيّ أنّ ذلك الوزن يجيء «في ما كان فاضلاً من الشيء إذا أُخذ منه» من غير أن يجعل الفُضالة معنى محوريّاً تدور حوله كل المعاني، بل جعلها بين المعاني المتعدّدة لتلك الصيغة ، مستشهداً على كلامه بأمثلة كثيرة.

          7- والراجح أنّ سيبويه هو مصدر الاضطراب في شرح معاني «فُعالة»، وميل أصحاب المعاجم إلى التفكير آلياً بمعنى الفَضلة كلمّا عرضت لهم كلمة على تلك الزنة. فابن منظور مثلاً يضطرب في شرح كلمة «نُقاية» إذ يربطها ابتداء بمعنى النقاء أو الخلاص، فيراها دالّة على النظافة وخيار الشيء، مستشهداً في هذا بالجوهريّ؛ لكن حين تلحّ عليه صيغة «فُعالة» وما قاله سيبويه أو من تبعه فيها، لا يجد مخرجاً إلاّ في توفيقيّة غريبة يزعم فيها أنّ معنى النقاء بني على ضده أي «ما يسقط من فضلة الشيء»! فهو يترك معنى الجذر ويلتزم المعنى المزعوم لفُعالة.

          وللعدل، وطلباً لأدنى قرينة، سنفسر إجازة المجمع اعتماداً على قوله: «إنّ فُعالة يدلّ على فُضالة الشيء وما تحاتّ منه وبقي بعد الفعل»، وعلى أنّ المراد بالفعل هنا ما يدلّ على النبْذ، أو يؤدي إلى تناثر المادة، أو على ذهاب أكثر الشيء؛ فهذا يجعل الإجازة مقبولة، وإن ظلّت محلّ تحفّظ. وستكون لنا وقفة، على كلّ حال، عند ما نعتقده من معاني «فُعالة» في المقالة الآتية.

 

مصطفى الجوزو