إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

سينما التحرير

          فيلم اليوم .. فريد شوقي ومحمود المليجي.

          شغفتنا هذه الجملة حد الهوس!.

          هكذا كان يكتبها صاحب المقهى الوحيد بقريتنا بخط بدائي على لوحة صغيرة دون ذكر اسم الفيلم.

          كنا نبعث رسولا منا يوميا ليتأكد أنه علقها على الباب.

          وقبل الموعد بوقت طويل نحتل أماكننا ونترقب لمبات التلفزيون تضيء الشاشة ببطء ، ونلعن "القهوجي" اللجوج ، فلم يكن يتردد في طرد أصحاب الجيوب الخاوية، وكنا ندبر القروش بكل الحيل لنجلس براحتنا كبقية الزبائن، ونصفق بفرح لفريد شوقي وهو يكيل اللكمات لمحمود المليجي جاحظ العينين الذي كرهناه من قلوبنا، وفي المساءات نعيد تمثيل المشاهد ، وكثيرا ما أفسدت اللكمات الطائشة مرحنا لاندماجنا في التقليد.

          وذات يوم لا ينسى أخبرنا أحدهم أن "سينما التحرير بدكرنس " تعرض الأفلام على شاشة عملاقة ، تظهر " ملك الترسو" بحجم هائل .. وجن جنوننا. لم يك أحدنا فارق القرية ، و " صف الشجر في نهاية الحقول " كان آخر الدنيا في أنظارنا.

          وفي أول عيد اعتلينا سطح القطار، وقلوبنا مفعمة بالرهبة والفرح.

          حشود أمام مبنى السينما القديم ، شباب من سائر القرى يزاحمون باستماتة ليشاهدوا " سواق نص الليل " و" الأسطى حسن" و" الريس خميس" لعله يريح قلوبهم ، وأجسادهم التي هدها شقاء الحقول.

          كانت دكك السينما متداعية لا تكف عن " الأزيز"، بها نتوءات، ومسامير، وفواصل تقرص الجلد كلما تحركت، وخيزرانات الفتوات تصفر في الهواء تضرب الجميع، وكنا ننسى كل هذا في الظلام، ورعدات الحماس تضرب أجسادنا حين يحكم البطل قبضته، ويكيل للأشرار لكماته، نتوحد فيه، ويطفر الدمع بعيوننا لفرط التأثر، وتسقط الدكك على أرجلنا الصغيرة، ولكن غيبوبة الفرح تلهينا عن الألم.

          رأينا تلفزيون المقهى بعد ذلك ضئيلا، ولم نعد نلتفت لنداءات "القهوجي" كلما مررنا عليه.

          وكان الفلاحون مذهولين جميعا بضربات ثورة يوليو للإقطاع، لا يصدقون انهيار عالم "الوسايا" أمام عيونهم، وآن لهم أن يلكموا من جلدوا ظهورهم بالسياط، وأنابوا فريد شوقي في ضربهم فانتصر لهم، ونعموا بعقود الأرض التي وزعها عليهم "جمال عبد الناصر".

          وانفتح الأفق على لانهائية التلقي في "سينمات" المنصورة، وأذهلتنا أفلام هوليودد وفهمنا. بحياء . أن "فريد شوقي" "ممثل على قده" لكنه ظل صاحب الفضل في جرنا من وراء " صف الشجر في نهاية الحقول".

          وأحببنا "محمد أبو سويلم" في فيلم "الأرض" قدر ما كرهناه سابقا، وحزنا على شاربه الذي حلقته السلطة، وهزنا وهو يقول بصدق آسر"..لأننا كنا رجالة ووقفنا وقفة رجاله..".

          وبعد سنوات طويلة. في سينما التحرير بالدقي كانت الوجوه لامعة ، والملابس نظيفة، والكراسي مريحة، لكن الفيلم كان .."إسماعيلية رايح جاي" والأغنية كمننا"! والفلاحون الذين عشقوا "وحش الشاشة" يجرجرون إلى مراكز الشرطة و"الأرض" تتنزع منهم مرة ثانية بالقوة.

          عاد الأشرار بقوة، لكن "فريد شوقي" مات، و"سينما التحرير بدكرنس" تحولت إلى "قاعة أفراح" فيها دي جي شنيع، يصم الآذان، ويبدد "الأفراح القديمة".

 

أسامة الرحيمي