بيروت.. لـمـحـات مـن ازدهـار النهضـة العـربيـة

 بيروت.. لـمـحـات مـن ازدهـار النهضـة العـربيـة

كانت بيروت مولداً شرعياً للنهضة العربية. حملت بذورها الأولى واكتسبت هويتها كمدينة من التأثيرات الخلاقة بين لبنان وجيرانها العرب.

من مواليد النهضة العربية مدينة بيروت, فإن هذه المدينة بوجهها الحضاري والأثر القوي لشارعها السياسي في حياة هذه المنطقة, لم تصبح مستحقة لاسمها كمدينة, إلا بعد أن جلا عنها الوجود التركي ليحل محله الوجود المصري الآتي إليها مع جيش إبراهيم باشا ابن محمد علي. وعلى الرغم من أن الكثير من المدن والبلدات الفلسطينية واللبنانية والسورية تأثرت بدخول إبراهيم باشا إليها, فإن التأثر الذي حصل في بيروت فاق أشباهه في المدن والبلدات الأخرى التي دخل إليها إبراهيم باشا.

ذلك أن إبراهيم باشا الذي دخل إلى بيروت عام 1831 أمضى فيها تسع سنوات كانت مليئة بالتحوّلات الجذرية التي شملت حياة بيروت من جميع نواحيها بدءاً بالتجارة مع أوربا التي ازدهرت في تلك الفترة بفعل الأمن والتشريعات الجديدة, أباح بها إبراهيم باشا للشركات والبيوت التجارية الأوربية تأسيس مراكز لها في لبنان. وكانت له نظرة جديدة للتعامل مع المسيحيين من أهل المدينة الذين كانوا في ذلك الوقت أكثرية, وقد عاونه في الحكم طيلة وجوده في بلاد الشام, وفي بيروت ولبنان خاصة مستشاروه وأعوانه من الفرنسيين الضباط والمدنيين الذين كانوا قد جاءوا إلى المنطقة في إطار الحملة المصرية. وقد استخدم إبراهيم باشا هؤلاء كخبراء في ما يجب أن ينشأ في قوانين ومؤسسات ومرافق وطرائق حياة. ولعله كان, بسبب تصدّيه لدولة الخلافة العثمانية, ذا جاذبية خاصة للمسيحيين من أهل بيروت وجبل لبنان والشام.

فكان هؤلاء أصحاب حظوة عنده, وقد نجح المسيحيون في بيروت وغيرها للمرة الأولى في أن يتكافأوا في المواطنية, ويتساووا مع المسلمين الذين كانت الدولة العثمانية تميّزهم من منطلق أنها دولة خلافة, ودولة للمسلمين بالدرجة الأولى.

(تفضّل يا بك)

وتدليلاً على ذلك, نذكر واقعة في تاريخ جبل لبنان هي أن إبراهيم باشا كان يوماً في بلدة دير القمر وفي مجلسه رهط من الأعيان الذين جاءوا لتحيته. وفي معرض الحديث توجه إلى أحد الحاضرين وناداه: (تفضل يا بك). ولما كان هذا اللقب لم يكن يُعطى في ذلك الحين إلا للمسلمين ودروز جبل لبنان من أصحاب الاقطاعات في تلك المنطقة, ظن أحد الحاضرين بأنه هو المقصود, فوقف, وكان شيخاً من أهل الإقطاع الدرزي.

فأشار إليه إبراهيم باشا بأنه ليس هو المقصود. ثم وقف آخر ممن كانوا في المجلس وكان من أهل السنّة في المنطقة, فأشار إليه أيضاً بأنه ليس هو المقصود كذلك بالكلام. وأعاد النداء, فلم يتقدم أحد لأنه ما كان بين الحضور من تؤهله الأعراف لأن يُطلق عليه مثل هذا النداء: (البك). إلى أن حدّد إبراهيم باشا الاسم الذي يقصده منادياً إياه: (بحري بك! بحري بك)! و (بحري بك) هذا كان مارونياً من دير القمر, فاعتُبر ذلك أول قرار بإطلاق لقب اجتماعي رفيع على مسيحي من أهل البلاد. ونزل في تاريخ المنطقة أن أول مسيحي من أهل البلاد نال البكوية كان مارونياً من دير القمر, ولعل هذا ما أعطى هذه البلدة على مرّ الأيام موقعاً خاصاً في الشوف اللبناني وبالتالي جبل لبنان كله, إذ عُرف عدد كبير من أبناء هذه البلدة بكونهم قادة في لبنان كله. وأخذت تبرز فيها أكثر فأكثر أسماء أشخاص وعائلات عُرفت بوهج خاص في عالم السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد.

لقد سلك إبراهيم باشا عموماً, ومن قبل أن يُعتمد ذلك بشكل منتظم خطا مشابهاً للخط الذي سار عليه لبنان فيما بعد, نتيجة تحوّله إلى دولة مستقلة عام 1943, فكانت المنطقتان اللتان اهتم بهما بالدرجة الأولى هما بيروت وجبل لبنان هاتان المنطقتان هما اللتان تعامل معهما إبراهيم باشا, وكأنه يُسرج فرسين لعربة تاريخية معينة سيتشكل منها فيما بعد ما عُرف أيام الانتداب الفرنسي بدولة لبنان الكبير, وحالياً بلبنان.

قفزات حضارية

بعد انتهاء المرحلة المصرية, عادت السلطة العثمانية إلى المنطقة ذاتها, فإذا بها تجد أمامها أوضاعاً جديدة قائمة ما كان بوسعها أن تتراجع عنها. فبيروت التي تركها إبراهيم باشا بعد تسع سنوات من سكنه فيها, كانت غير بيروت القديمة.

فهي مدينة مفتوحة للتجارة مع الغرب وللإرساليات التعليمية الأجنبية, وفيها قنصليات وبعثات تجارية, وشركات ومعاهد ومطابع, ولها علاقات مع جهات مختلفة خصوصاً في حوض البحر المتوسط, والجزء الأوربي منها: مع الفرنسيين, ومع الإيطاليين, ومع الإنكليز بشكل خاص, فقررت الدولة العثمانية التعامل مع بيروت بموجب الشأو الذي بلغته أثناء وجود إبراهيم باشا فيها, فجعلتها عاصمة لولاية تمتد من اللاذقية إلى عكا. ولم يكن في تصرّفاتها ما يمكن أن يشكّل انقلاباً على التحسينات والقفزات الحضارية التي حققتها بيروت برعاية إبراهيم باشا المصري وأعوانه ومستشاريه من الفرنسيين بصورة خاصة. ومن ذلك فكرة المواطنية الحديثة التي لا تفرّق في الحقوق بين مواطن وآخر. فكل المناصب لكل الأديان, وكل المواقع لكل ما يلي الهوية الوطنية للبلد, كما أن جبل لبنان ككل, نعم بنفس التطورات التي نعم بها أهل بيروت, إذ اعتمد الترك بعد استعادتهم الأرض من المصريين المقاييس التي اعتمدها إبراهيم باشا قبلهم في التعامل مع أهل الجبل اللبناني, سواء أهاليه أو أعيانه أو أسره التقليدية أو رجال دينه من الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك والإنجيليين وغيرهم.

ولم تنقطع العلاقة بين هذه البقعة من بلاد الشام, كما كانت تُسمى في ذلك الوقت, ومصر بعد تراجع الحملة المصرية وعودة الجيش المصري إلى الأرض المصرية, فالذي ذهب هو الوجود المصري العسكري وحده. أما العلاقة مع مصر فبقيت قائمة, ذلك لأن القوى الدولية التي شجعت إبراهيم باشا على سلوك السياسة التي سلكها في سوريا ولبنان وفلسطين, استمرت تشجّع حكام مصر على مدى الزمن على سياسة الانفتاح الخاص نحو بيروت وجبل لبنان ولبنان كله فيما بعد, واستمر ذلك فكان ما هو معروف في التاريخ من مؤسسات صحفية ومرافق عامة ومكانة اقتصادية وصناعية وتجارية ومعاملة مميزة إلى حد بعيد لكل من يأتي من هذه المناطق التي تحدثنا عنها إلى مصر. وكانت هذه الفئات في العهد الملكي المصري بصورة خاصة, تُعامل معاملة مميزة تقليدياً.

وكثر في مصر النابهون من اللبنانيين خاصة, ومن الشوام عموماً, في شتى مرافق الحياة المصرية. وظل التعاطي بين لبنان ومصر مستمراً, وكأنه شراكة في ما سُمّي فيما بعد النهضة العربية. فالجرائد المهمة كـ(الأهرام) و(المقطم) و (المقتطف) و (الهلال). ما هي إلا بعض الوجوه عن التألق الخاص الذي تألقت به النهضة العربية في ذلك الزمن. وقد لعب البحر الأبيض المتوسط دور التعامل بين ضفتي النهضة الخصبتين.

وإذا كان لكل مرحلة تاريخية إيجابياتها وسلبياتها, فقد يكون المصري المسلم على حق في أن يكون قد شعر بنوع من الغبن جرّاء المعاملة الخاصة التي كانت السلطات في مصر تعامل بها الأقليات اللبنانية والسورية الموجودة في مصر, حتى أنه جرى على لسان بعض كرام المصريين قولهم إنه في زمن من الأزمان كان يكفي أن تكون أنت غير مصري بالنسب, أو بالأصول, حتى تكون لك امتيازات على أرض مصر.

إيجابيات النهضة

ولكن باستثناء هذا الاعتراض المحق للتعامل الخاص مع اللبناني والسوري في مصر, والذي كان يشمل الصناعة والتجارة والزراعة, دون أن يقتصر على النواحي الثقافية والأدبية والصحفية وحدها, فإن النهضة العربية التي نمت هكذا, ثم تفجّرت وتضخّمت فيما بعد, فإنه كانت لها إيجابيات كبيرة منها الانفتاح الحضاري على الثقافة العالمية وعلى اللغات الأجنبية والمعارف الكونية. ومنها أيضاً جوّ الحرية الفردية الذي كان سائداً في كل تلك الفترة, فكانت الدولة بشكل عام حامية للحريات والحقوق وراعية للمواهب.

كذلك امتازت هذه المرحلة بفقدان العصبية الضيقة. وصحيح أن القومية في كل أمة هي مرحلة تاريخية محتومة تعرفها الشعوب كافة, وقد عرفتها أوربا وآسيا وإفريقيا والأمريكتان الشمالية والجنوبية, إلا أن المرحلة القومية, على حتمية حصولها, لم تكن أفضل من سابقتها في جميع النواحي, بل في بعضها فقط, ففي نواحي الحريات, والانفتاح الحضاري, وصراع الأفكار, حصل تراجع بمجيء العصبية, ولو القومية العربية حتى, على الرغم من أنها نوع متقدم من العصبيات, ولكن هذه العصبية كانت أيضاً تراجعاً تسبب في تراجع بعض النواحي في الحياة العربية, وقد صدق ابن خلدون حين قرر أن القليل من العصبية ضروري, ولكن الكثير منها ضار.

والذين يدرسون تاريخ الثورة المصرية, لا ينكرون إيجابيات الفترة التي سبقتها في مصر وفي بلاد الشام, وهناك أسماء بارزة من الطهطاوي إلى محمد عبده الذي عاش فترة في بيروت, وأوحى لبعض كرام اللبنانيين المسلمين بتأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي لعبت دوراً في حياة بيروت, إلى لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل وسواهم, هم عمالقة بكل مقياس, ولا يمكن أن ينتقص من قدرهم انتماؤهم إلى مرحلة النهضة العربية كما نسمّيها نحن, أو مرحلة الليبرالية كما يسمّيها آخرون. ولابد من الإشارة إلى أن هاتين الكلمتين إن لم تكونا متطابقتين مائة في المائة, فإنهما كانتا مترافقتين تاريخياً ومتفاعلتين بكل معنى الكلمة.

ويلاحظ في الكثير من الكتابات التي تصدر بالعربية وغير العربية والتي تقوم بمحاولة تقييم للمراحل السابقة للثورة في مصر وامتداداتها في لبنان بصورة خاصة, إنها تعتبر ما كان من أوضاع ومفاهيم وأفكار, دخولاً لهذه المنطقةالعربية كلها في حضارة العالم, وفي عملية الإنتاج العالمي, وحسبنا أن نقول إن هذه المرحلة لم تتصف بالعزلة عن العالم, ولو لم تسلم من بعض المآخذ المبررة.

ردّ الاعتبار

وهناك عودة إلى إعادة الاعتبار لبعض التوجهات الفكرية التي كانت مدانة إلى وقت قريب, منها على سبيل المثال, كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين, وكتابات العقاد, في الوقت نفسه التي يعاد فيها الاعتبار لكتّاب لبنانيين وسوريين كأمين الريحاني وجبران خليل جبران وعبدالرحمن الكواكبي وفرنسيس مرّاش وأحمد فارس الشدياق, وبين هؤلاء كلهم, يبقى للمهجريين منهم كأمين الريحاني وجبران خليل جبران منزلة خاصة في الآداب العالمية.

وقد لا يقلّ الكاتب اللبناني أمين معلوف عن سابقيه هؤلاء من حيث تمثيله للمرحلة الليبرالية العربية, فهو وإن كان قد كتب باللغة الفرنسية, إلا أنه عكس في رواياته روح الانفتاح الحضاري العربي الذي أنتجه, وقد كانت والدته من شوام مصر.

على أن المثال الأصرح على الازدهار الذي تعيشه حالياً الرؤية الليبرالية هو الروائي المصري نجيب محفوظ, فرواياته تكاد تكون حقلاً خصباً للقيم الليبرالية الحرّة التي ترفض أن تقبل الأسر في أي عصبية منغلقة, وكذلك الصحفي المصري الراحل أحمد بهاء الدين الذي لا يمكن تناول الليبرالية, ولا الوطنية والقومية المنفتحتين, دون تذكر إطلالاته سواء في (صباح الخير) أو في (روز اليوسف) أو في (الأهرام) أو في (العربي) الكويتية, أو في (المستقبل) الباريسية. ولست أعرف محاولة راقية لإعطاء مرحلة الليبرالية العربية حقها من التكريم مثل ذلك الاحتفال الذي دعت إليه (دار الهلال) بمصر بمناسبة مرور مائة سنة على ولادتها, وكان من أروع تجليّاتها الأوبريت الغنية والفخمة التي جرى عرضها في دار الأوبرا المصرية الجديرة برعاية الرئيس حسني مبارك, والتي ظهرت فيها الشخصيات والرموز التاريخية اللامعة للنهضة المصرية, وتلك الشراكة التاريخية في صنع التقدم والوثوب إلى العصر والتي كانت فيها مصر, ولاتزال, الشريك لكل بلد عربي في عملية الانفتاح الحضاري.

 

منح الصلح