سؤال الحرية وعصر العولمة

  سؤال الحرية وعصر العولمة

بدأ العرب نهضتهم الأولى منذ القرن التاسع عشر لكنهم فشلوا في تحقيق وحدتهم القومية, ودرء المخاطر الكبرى عن الأمة العربية, وبشكل خاص المشروع الاستيطاني الصهيوني. وتبخّرت نسبة كبيرة من الأموال النفطية والموارد الطبيعية العربية في تنمية قطريّة لم تؤد إلى بناء تنمية مستدامة على امتداد الوطن العربي بل قادت إلى هجرة كثيفة للأدمغة العربية, كما أن الكثير من الطاقات المالية العربية ما زالت توظف خارج الوطن العربي الذي تتهدده مشكلات الفقر, والبطالة, والأمية, والهجرة, والتصحر, والتلوث وغيرها. لذا, سارع غالبية المثقفين العرب إلى قرع ناقوس الخطر, والعمل على رسم أفضل السّبل لبناء مشروع نهضوي جديد يحفظ للعرب موقعاً فاعلاً في عصر العولمة والتكتلات الكبيرة.

وقد تبلورت مقولات النهضة العربية الأولى من خلال الأبحاث النظرية الكثيفة والممارسات العملية الدءوب لكوكبة من أبرز المثقفين العرب في العقود الماضية واندرجت ضمن البحث عن أسئلة الهوية, والحرية, والاستقلال, والسيادة الوطنية, والوحدة القومية, والتنمية الشمولية, وعلاقة الدين بالدولة, وقضايا العقلانية والعلمانية, وطبيعة النظام الاقتصادي, والتنمية الشمولية, والبنية الاجتماعية, والنظام السياسي, والإصلاح التربوي, والإدارة العصرية, والجيش الوطني. فسؤال الهوية القومية أساسي لأنه يوضح موقع القومية العربية في الفكر النهضوي المتجدد باستمرار النهضة الأولى. ويشعر العرب بشكل طبيعي أن لهم هوية قومية تميّزهم عن غيرهم, وأنها يجب أن تصبح مجال احترام وتقدير كغيرها من القوميات الأخرى الفاعلة على الساحة الدولية. ومن التجني على منطق التاريخ أن يطلب من العرب التخلي عن هويتهم القومية تحت ستار وحدة التاريخ الكوني في عصر العولمة, في الوقت الذي يقدم فيه كل الدعم المادي والعسكري والسياسي للحركة الصهيونية لكي تبني دولتها القوميّة العنصريّة على أرض فلسطين, وبشكل يتناقض مع حركة التاريخ, ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. لذا يرفض العرب مفهوم الهوية الكونية, كما يطالب بها منظرو عصر العولمة, إذا كانت ستبنى على أنقاض هويتهم القومية, وحقوقهم الدولية المكتسبة كالاستقلال السياسي, والسيادة الوطنية, والحدود المعترف بها دولياً. وهم يرون أن الشعور بالانتماء إلى الدولة القومية التي يجب أن تبنى على أسس ديمقراطية سليمة هو الآن في طريقه لكي يصبح المدخل الطبيعي لتجاوز المعوّقات الدينية, والعرقية, واللغوية, والأيديولوجية وغيرها من الانتماءات التي ما زالت قوية في العالم العربي وتعيق دخوله في النظام العالمي الجديد من موقع القوي كما فعل الأوربيون والصينيون واليابانيون. فالعرب من الشعوب التي لم تنجز وحدتها القومية, وبالتالي سيبقى لديها إحساس قوي بالتبعية والاستلاب إلى أن تتمتع الشعوب العربية بشعور الإشباع الثقافي بتحقيق الوحدة القومية ودولتها.

نخلص إلى القول أنه إذا أراد العرب سلوك طريق التقدم وفك ارتباط التبعيّة مع الغرب, وحماية هويتهم القومية وتراثهم الحضاري فليس لهم سوى إبداع أفضل السبل وأقصرها لبناء الوحدة القومية, للحفاظ على الذات أولاً, ورفض كل مشاريع التغريب والتبعية. والعرب مدعوون اليوم لمشاركة الشعوب الأخرى في بناء الحضارة الكونية الجديدة من باب الإبداع الثقافي وليس الاستمرار في استهلاك ثقافة الآخرين. وسؤال الحرية أو التقدم هو نفسه سؤال الإبداع الثقافي والحضاري.

 

مسعود ضاهر