الخصوصية انتهت.. والفرد أصبح مكشوفاً

الخصوصية انتهت.. والفرد أصبح مكشوفاً

القرى محافظة، فالناس فيها تعرف بعضها بعضاً والمختار يعرف الجميع، وعندما ينتقل القروي إلى المدينة يصير ليبرالياً يتصرف بحرية فلا أحد يعرفه. ولكن ماذا يحدث عندما يتحول العالم كله إلى قرية صغيرة، المختار فيها شركة أو جهاز استخبارات أو حكومة؟

(العالم قرية صغيرة) نستخدم هذا التعبير بطريقة محايدة, نرى فيه تعريفا لعصر ثورة المعلومات والاتصالات, ولكن ماذا لو خطر لأحدنا أن يستعمل هذه العبارة بطريقة شخصية باعتباره أحد سكان هذه القرية? لعل أول ما سوف يكتشفه هو أنه بات مكشوفا وأن أهل القرية يعرفون عنه أموراً كثيرة, أما (المختار) فإنه يعرف عنه تقريبا كل شيء. ولن يكون سعيدا بهذا الاكتشاف, لأن سلب الفرد حياته الخاصة لم يكن يوما سببا للسعادة إلا عند (الأخ الأكبر) بطل جورج أورويل الذي كان يراقب جميع الناس وفي كل الأوقات.

وهذا الاكتشاف يلغي الأساس الذي قامت عليه (الليبرالية) وتلخصه العبارة الشهيرة:

(حق الإنسان في أن يُترك وشأنه) وقد أطلقها العام 1890 القاضي في المحكمة الأمريكية العليا لويس برانديز, بعد أن اجتاحت في تلك الفترة آلات التصوير ومئات الصحف خصوصية الأفراد, وبدأت صورهم مع أسمائهم وحياتهم الشخصية تتحول عبر الصحف إلى حديث الناس. قال القاضي ماذا يبقى للإنسان إذا كانت جميع تفاصيل حياته ليست ملكه هو شخصيا بل ملك الآخرين.. هذا هو الجحيم).

ومع أن الواقع يبقى أغنى من أي خيال, إلا أن الأدب كان باستمرار يحاول أن يلتقط ملامح هذا الجحيم قبل أن يبلغه الإنسان المعاصر.

سرج الحصان

(سرج الحصان) قصة قصيرة كتبها الروائي الأمريكي جون شتاينبك, وبطلها رجل حكمت عليه زوجته أن يرتدي تحت ملابسه سرجا للحصان يحافظ على قامته مشدودة طوال الوقت, ويجعله يبدو بمظهر محترم ولائق, غير أن الرجل احـتج بعد فـترة بأنه لا يستطيع أن يكون حصاناً طوال شهور السنة, وأنه يحتاج إلى أن يتحرر من سرجه, شهراً على الأقل في كل سنة, ووافقت الزوجة, شرط أن يغادر البلدة الصغيرة إلى المدينة حيث لا يعرفه أحد, وفيها يستطيع أن يمارس حريته, وهكذا كان الرجل في كل عام يخلع سرجه وينتقل إلى المدينة, فيجلس في حاناتها ليشرب حتى الثمالة, ثم يخرج من الحانة ليلقي بنفسه في وحول الشارع يتمرغ فيها بمتعة شديدة, تحت أنظار الجميع, فهم لا يعرفونه, ثم يذهب إلى الفندق حيث يعابث الفتيات, ويقدم نفسه باسم مستعار, وبعد مرور الشهر, كان الرجل يعود إلى البلدة الصغيرة, يشد سرج الحصان إلى ظهره, ويعود إنساناً لائقاً, يحظى باحترام جميع سكان بلدته, وهم جميعا يعرفونه.

الأرياف كانت دائما ومازالت محافظة, وإذا مر غريب بالبلدة فإن أهلها يراقبونه, كما يراقب بعضهم بعضاً, ومن النادر أن يقع حادث في البلدة وأن يبقى سراً, أهل البلدة يعرفون التفاصيل, أما تفاصيل التفاصيل فهي عند (المختار), يلتقط أجزاءها من كل فرد في البلدة, فهو يعرفهم جميعاً, ويعرف متعة الاصغاء لكل منهم وهو يروي أدق التفاصيل عن حياة جاره (!)

مدينة (المجهولين)

المدينة هي النقيض للقرية أو البلدة الناس فيها (مجهولون), لا أحد يعرف الآخر, وكل جاء من بلدة مختلفة, وبالتالي فإن سكان المدن ليبراليون يتصرفون على طبيعتهم, يخلع كل منهم سرجه على بوابتها, ويرى أنه حر في سلوكه وفي حياته الشخصية, عندما يقفل الباب على نفسه, أو يختار الجلوس علناً في حانة مجهولاً بين مجهولين.

الليبرالية, وخاصة على صعيد الحياة الشخصية, نشأت في المدن رداً على القيود التي يفرضها الريف المحافظ المكبل بالتقاليد والمحكوم بطقوس يعتبر الخروج عليها خروجاً على المجتمع كله, و (المنبوذون) هم إنتاج ريفي بامتياز, لأن شرط المنبوذ أن يعرفه المجتمع وأن ينبذه, إذا صار المنبوذ مجهولاً لا يعود منبوذاً, يصير كالآخرين, وهو ما توفره المدينة بامتياز أيضاً.

ولكن هذا كله تغير, فالعالم صار قرية كونية صغيرة, وبطل سرج الحصان لم يعد يجد مكاناً آمنا يتحرر فيه ليس لأن أهل بلدته في عصر المعلومات والاتصالات سوف يعرفون ما يفعله في المدينة بل لأن أهل المدينة أيضاً صاروا يعرفونه, ولم يعد مجهولاً, ولعل في هذا الكثير من النقمة والكثير من النعمة أيضاً (!).

معلومات طوعاً و... قسراً

(املأ البيانات التالية) عبارة يقرأها الواحد إذا أراد الحصول على وظيفة في الحكومة أو في شركة خاصة, أو إذا أراد قرضا من البنك, أو إذا رغب في الحصول على رخصة قيادة, أو اضطر إلى دخول المستشفى, أو إذا شاء أن يشتري أو يستأجر منزلاً, أو أن يدخل الجامعة, أو أن يفتح مكتباً أو يسجل شركة, أو يحفظ حقه في التقاعد أو الضمان الصحي, أو أن يؤمن على حياته وأسرته, أو أن يتزوج أو يطلّق أو حتى إذا أراد أن يكون عضواً في ناد أو تعاونية, أو زبوناً دائماً في متجر يمنحه خصماً على مشترياته.

وبالطبع فإن الواحد يقرأ البيانات ويكتب كل المعلومات المطلوبة وهي لا تتعلق به وحده بل تشمل أفراد أسرته وأحياناً جيرانه أيضاً وبعض معارفه, وتتضمن كل شيء من مكان وتاريخ ولادته, إلى الأماكن التي سكنها, والمدارس التي تعلم فيها, والوظائف التي شغلها, والرواتب التي تقاضاها وما يملكه وما عليه من ديون, ثم تاريخه الصحي والأمراض التي أصيب بها, والأطباء الذين تلقى العلاج على أيديهم.. وهواياته المفضلة.

وكل هذه المعلومات (يتبرع) بها الفرد كي يحقق مصلحته, وينال أفضل خدمة ممكنة, من جهات تعمل على توفير أكبر قدر ممكن من الراحة له ولأفراد عائلته.

(التبرع) هو المصدر الأول للمعلومات عن الحياة الشخصية للأفراد, ثم تأتي المصادر الأخرى (القسرية). فآلة التصوير تلتقط صورته وهو يضع بطاقته في آلة الصرف الآلي أمام البنك, وتلتقط صورته مرة أخرى في الشارع إذا كان يقود سيارته بسرعة, وتلتقطها أيضا إذا مر أمام منزل تقطنه شخصية مهمة, أو إدارة حكومية بارزة, أو إذا قرر أن يوقف سيارته في كراج عام, أو إذا تجول في متجر كبير أو إذا قرر أن يركب مترو الأنفاق. وفي دراسة لجماعة بريطانية معنية بحقوق الإنسان, نشرت نتائجها صحيفة (الجارديان) البريطانية فإن شخصا يعيش في مدينة كبيرة مثل لندن تلتقط الكاميرات صورته (136) مرة ما بين خروجه من المنزل صباحاً وعودته إليه مساء, في يوم واحد.

أما مجلة (الإيكونوميست) التي أفردت غلافاً خلال مايو الماضي حمل عنوان (نهاية الخصوصية) فقد وضعت كشفاً مرعباً عن آلات التنصت والمراقبة التي أنتجتها التكنولوجيا الحديثة من مراقبة هواتف الموظفين وبريدهم الإلكتروني وكل نقرة على الطابع في الكمبيوتر, وقد اعترف ثلثا المديرين في (900) شركة كبرى أنهم يفعلونها, إلى آلات تلتقط ذبذبات الصوت عندما ترتطم بزجاج النافذة, وتعيد جمعها, إلى فيديو كاميرا متناهية في الصغر يمكن أن تلتصق بالسقف أو الجدار لتبث صوراً حية عما يدور في الداخل.. إلى كاميرات خفية تنقل إلى الكمبيوتر في مكتبك ما يدور في حجرة طفلك أو زوجتك.. في المنزل.

يدفعون ثمنك

هذه المعلومات التي تجمعت عن المواطن طوعاً أو قسراً تتحول إلى كنز ثمين سواء لدى الشركات أو لدى الحكومات. على صعيد الشركات فإن هذه المعلومات (بضاعة) قابلة للتسويق, وتتباهى شركة (أكسيكوم) في ولاية أركنساس مثلاً أن لديها بنكاً للمعلومات يشمل (95) بالمائة من مالكي المنازل في كل أنحاء الولايات المتحدة, وهي معلومات تتنافس الشركات على شرائها لمعرفة اتجاهات المستهلكين, ومتى حصلت عليها فإنها تصبح مثل صاحب الدكان في قرية صغيرة يعرف تماما حاجة كل بيت, وذوق كل ربة بيت في القرية, وبالتالي تتحول أمريكا كلها إلى قرية صغيرة, أما إذا كانت الشركة تعمل عبر القارات فإنها تحتاج إلى بنوك معلومات في كل سوق تسعى إلى اجتياحه بنجاح, ومن هنا فإن معركة كبيرة تدور رحاها اليوم بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة, تحت شعار (حماية الخصوصية), وهي معركة تدخلها الحكومات دفاعا عن شركاتها وليس مواطنيها وهو ما يدفع للعودة إلى الحديث عن دور (المختار) في هذه القرية الكونية الصغيرة.

في شهر فبراير الماضي اجتاحت جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان في أمريكا, نوبة غضب عارمة عندما كشفت وسائل الإعلام أن شركة (إيميج داتا) وهي شركة صغيرة تدير بنكا للمعلومات في ولاية نيوهامبشاير تلقت تمويلاً مادياً وتقنياً من جهاز الاستخبارات السرية الأمريكية لبناء بنك للمعلومات يحتوي على صور جميع أصحاب رخص قيادة السيارات في الولايات المتحدة مع أسمائهم وعناوينهم بالطبع, وقد بدأت الشركة خطوتها الأولى لتأسيس هذا البنك فاشترت من الحكومات المحلية في كل من ساوث كارولينا, فلوريدا , وكولورادو حوالي (22) مليون صورة من رخص القيادة للمواطنين في تلك الولايات. وقد حاول جهاز الاستخبارات أن يدافع عن نفسه فقال إن صور السائقين وعناوينهم يمكن أن تساعد في تعقب أي مجرم وفي فترة قياسية, خاصة متى توافرت الصور, ولكن غضب جماعات حقوق الإنسان لقي دعماً شعبياً بحيث اضطرت الحكومات المحلية في الولايات الثلاث إلى إلغاء العقد إذ لا أحد يستطيع أن يغفو وهو يعلم أن جهاز الاستخبارات هو (المختار) الجديد.

تنصت عبر القارات

وهذه العلاقة بين الشركة والحكومة (تقليدية), ففي نهاية عقد الثمانينيات, وفي ذروة الأزمة التي انطلقت من احتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران, كانت جميع أجهزة الاستخبارات في أمريكا تتعامل مع أولوية وحيدة وهي جمع المعلومات حول الرهائن في السفارة, ولهذا الغرض تم تخصيص قمر صناعي مزود بأحدث وسائل التنصت على المخابرات الهاتفية, وكان القمر مدعوما بمحطات في دول مجاورة لإيران, تعمل على فرز ملايين المكالمات الهاتفية يومياً بحثاً عن معلومة جديدة حول الرهائن, وكان الحصول على هذه المعلومة, وفي الوقت المناسب شبه مستحيل, فمن هو القادر على الاستماع إلى التسجيلات في عشرات الملايين من المخابرات الهاتفية, داخل إيران ذاتها, وبينها وبين الخارج?

وتطوعت شركة (فيليبس) بأن تبني جهازاً يقلص من عدد الجبهات, وقادراً على التقاط كل مخابرة هاتفية تذكر فيها عبارة (الرهائن) وليس باللغة الفارسية وحدها, ولكن بكل اللغات, وعندئذ فإن المسئولين عن تحليل المعلومات سوف يوفرون على أنفسهم جهوداً كبيرة, ويكتفون بالاستماع إلى المخابرة التي وردت فيها كلمة (الرهائن) وتحليل ما ورد فيها.

الفكرة مع أنها جاءت متأخرة,لأن الرهائن تم اطلاقهم فور تسلم الرئيس رونالد ريجان سدة البيت الأبيض في فبراير العام 1981, إلا أنها بقيت هاجساً, إذ إن اتفاقاً تم توقيعه بين الولايات المتحدة, بريطانيا, كندا, أستراليا, ونيوزيلندا.. يسمح للأطراف الموقعة بإقامة نظام مشترك للتنصت, قادرعلى أن يلتقط عبارات يختارها, من بين ملايين المكالمات وأن يتابع هوية أصحابها, ويعرف أماكنهم ويعتقلهم إذا اقتضت الظروف, (نظام إيكلون) هو الاسم الحرفي لعملية التنصت التي تتم عبر القارات.

العالم كله يريد معرفتك

ووصولاً إلى المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي, فقد أصدر الاتحاد في العام الماضي قانونا لحماية (خصوصية) المواطن في دوله ينص على أنه ليس من حق أي شركة أن تبيع معلوماتها عن المواطن لشركة أخرى, أو أن تستفيد من هذه المعلومات في نشاط غير النشاط الذي حصلت على المعلومات من أجله, مثلاً ليس من حق المستشفى أن يبيع لشركة أدوية عناوين وأسماء المصابين بمرض السكري, من دون أن يستأذن أصحابها, ويأخذ موافقتهم, ونص القانون كذلك على إنشاء أجهزة حكومية يمكن أن تستقبل شكاوى المتضررين من خرق خصوصيتهم, كما تنظم هذه الأجهزة العلاقة بين بنوك المعلومات والمواطنين, وهنا دخلت الولايات المتحدة على الخط, إذ إن شركاتها تريد أن تعمل في أوربا, وهي تحتاج إلى بنوك المعلومات كي تكتشف الأرض التي سوف تعمل فوقها, غير أن الاتحاد الأوربي رفض منح الشركات الأمريكية حق استخدام بنوك المعلومات الأوربية لأن الولايات المتحدة لم تفرض كما فعلت أوربا قانوناً لحماية خصوصية الأفراد, والمواجهة بين الطرفين مستمرة, وخسائرها على الطرفين معاً بمئات الملايين من الدولارات. وكان سبق للكونغرس الأمريكي أن أقر قانوناً يطلب فيه من شركات الاتصالات العاملة في الولايات المتحدة أن توفر تجهيزات تمكن جهاز التحقيقات الفيدرالي من التنصت والتقاط جميع الاتصالات الهاتفية للأشخاص أو الجهات التي يرى مكتب التحقيقات أنها تشكل تهديداً للأمن والقانون, ومازال موضـع أخـذ ورد بين شـركات الاتصالات ومكتب التحقيقات.

وتكشف دراسة قامت بها أخيرا لجنة التجارة الفيدرالية في الولايات المتحدة أن (80) بالمائة من الأمريكيين باتوا يشعرون بالقلق حول مصير المعلومات التي تم جمعها حولهم, وهو قلق مشروع لأن الحياة الشخصية للأفراد باتت سراباً, فالمجرم وحده هو من يحاول أن (يبخل) بتقديم المعلومات عنه, كما في حالة (الناسف الوحيد) الذي كان يرسل الطرود الملغومة إلى ضحاياه على مدى ما يزيد على (15) عاماً, دون أن تستطيع أجهزة التحقيقات القبض عليه لأن المعلومات حوله كانت نادرة, أي باختصار كان (مجهولاً).

... وبطل سرج الحصان لم ينقرض بالتأكيد, فهذا الهارب من البلدة المحافظة إلى ليبرالية المدينة يبحث اليوم عن حريته داخل غرفته وأمام الكمبيوتر الشخصي ويسافر في الطرق السريعة للإنترنت ليكتشف عالماً جديداً (افتراضيا) قادراً على تحريره من سروجه وقد تكاثرت.

 

شوقي رافع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات