لقاء صاحبة الغلاف الأول تعود لـ «العربي»

لقاء صاحبة الغلاف الأول تعود لـ «العربي»
        

          صباح الأول من ديسمبر 1958 طالعت عيون العرب في المشرق والمغرب وجهًا صبوحًا لفتاة باسمة، تقدم للقراء على غلاف ملون وفي أول أعداد المجلة الثقافية الشهرية المصورة «العربي»، استطلاعًا مصوَّرًا عن: «تمور العراق».

          جاء التمر من نخيل الرافدين، وكانت الفتاة من الكويت.  وأصبح غلاف العدد الأول من «العربي» أيقونة سجلتها الذاكرة، ليس فقط لأنه يؤرخ للمولود الثقافي الجديد، بل لأنه يحمل أكثر من رسالة، إنها صورة للفتاة العربية التي انطلقت تشارك في بناء المجتمع، كما أنها صورة للعلاقة التاريخية بين العرب، فالمصوِّر من مصر، والفتاة من الكويت، والتمور من العراق، والقراء من المحيط إلى الخليج.

          وحين جاء الاستعداد لإصدار هذا العدد التذكاري بمناسبة اليوبيل الذهبي لمجلة العربي، أفسحنا الصفحات لننشر استطلاعًا مصورًا عن تمور الكويت، مثلما سعينا للقاء فتاة الغلاف الأول، التي جاءت بصحبة حفيديها، وكأنها تحمل رسالة بتواصل الأجيال.

          رغم مرور السنوات، كان الحضور طاغيًا للوجه النضر، واللسان العطر، وجلست السيدة عواطف العيسى مع أسرة تحرير مجلة العربي تستعيد ذكريات تلك الصورة النادرة، التي قدمت ابنة إحدى الأسر الكريمة في الكويت، التي قبلت أن تظهر ابنتها في ذلك الوقت المبكر على غلاف مجلة، لإحساس الجميع بأنهم أمام مشروع ثقافي وعربي كبير، يستحق الدعم والمؤازرة، وقد صدق إحساسهم.

          كان أول سؤال ألقته علينا السيدة عواطف منذ لحظة وصولها وتصفحها العدد الأول لمجلة العربي: «أين أوسكار متري»؟

          كانت تقصد مصوِّر العربي الذي  التقط لها صورة الغلاف، وهو رائد المصورين  في المجلة، وصور معظم استطلاعات العربي في السنوات الاولى. «كنت فتاة صغيرة في ذلك الوقت، لا يتجاوز عمري الحادية عشرة، ولم أكن أدري تماما طبيعة الصراع الذي يدور من حولي، وان كنت سأظهر على الغلاف الاول للمجلة

          أم لا، كانت أسرتي كلها مشغولة بهذ الموضوع إلا أنا»، هكذا تتذكر السيدة عواطف هذه الأيام من تاريخ المجتمع الكويتي الذي كان لايزال مجتمعًا متحفظًا، وكانت الصحافة المصورة شيئًا طارئًا عليه، كان عمها بدر خالد البدر الذي كان يشغل وكيل دائرة الإعلام هو من طرح الفكرة على أبيها، قال له ان هناك مجلة ثقافية جديدة تستعد الكويت لإصدارها، وهي رصينة وجادة، ولذا لن يكون هناك أي ضير في ظهور فتاة من بنات العوائل على غلافها، تضيف: «حين تحولت الفكرة إلى حيز التنفيذ عارض قسم من العائلة، لم يتقبلوا فكرة وضع صورة ابنة العائلة على غلاف مجلة، ولكن أبي حسم الموقف، فقد كان الأكثر انفتاحا في العائلة لكثرة أسفاره واحتكاكه بالمجتمعات والثقافات المختلفة وقد أدرك أهمية الدور الذي تلعبه الصحافة وخاصة الثقافية منها في تطور المجتمع».

          يُذكر أن رئيس العائلة آنذاك كان الشيخ يوسف بن عيسى القناعي وهو أحد أهم رجالات الدين في الكويت، وكان شاعرًا وأديبًا، ولم يجد هو أيضا في الأمر ما يسيء إلى سمعة العائلة. وتعود السيدة عواطف بذاكرتها إلى اليوم الذي تم فيه التقاط الصورة: «لصغر سني لم أفقه الضجة المثارة من حولي، فقد أخبروني بموعد التصوير بعد أن حسم أبي الأمر، وكنت سعيدة وأنا ذاهبة إلى المكان المخصص لذلك، كان في منزلنا وأحضروا لي عثقًا من التمر ومن شدة نضجه خيل لي أنه فعلاً من البصرة وفيما بعد اكتشفت أنه من بيت العم بدر، وعلق على باب منزلنا حيث التقطت صورتي. حسبما أتذكر أن الصورة التقطت لي في فصل الصيف وقد كنت أنهيت مرحلة الابتدائية وفي أولى مراحل الإعدادية أي كان عمري يقارب الـ 11سنة».

          وفي الأول من ديسمبر 1958 صدر العدد الأول من العربي ووزعت في الكويت وفي كل البلاد العربية، يتصدر غلافها صورة عواطف العيسى ، وبعد الخوف والترقب، شعرت بسعادة بالغة، تقول: « شعرت بأنني نجمة مثل فاتن حمامة، ورغم صغر سني انهالت على المجلة عروض الزواج، ويبدو أن الصورة قد أعطت الانطباع بأنني أكبر من سني وأنني غير كويتية، ولكن ماهي إلا أيام حتى تعرفت علي زميلاتي بالمدرسة بأنني بنت إحدى عوائل الكويت».

مسيرة حياة

          تلقت عواطف العيسى تعليمها في مدرسة المرقاب، وقد كانت لها زميلات كثيرات ظهر بعضهن على أغلفة مجلة العربي في السنوات التالية، «في مرحلة ظهوري على الغلاف لم يراودني طموح معين لصغر سني، وكان هدفي الأول والأخير التحصيل العلمي والنجاح بالدراسة رغم معاناتي مع قواعد اللغة العربية وتفوقي بمادة الرياضيات خاصة في الهندسة والجبر»، ولكن بعد أن أرسلها والدها إلى بيروت لاستكمال دراستها في كلية بيروت للبنات، وذلك أسوة بفتيات العائلة اللاتي استكملن تعليمهن بالخارج. وبعد حصولها على شهادة الدبلوم رغبت باستكمال دراستها العليا في التاريخ، ولكن الحياة الزوجية والأسرية شغلتها أكثر وحالت دون استكمال دراستها، كما أنها كرست اهتمامها لأبنائها فعملت لهم رغم حبها الشديد للتدريس. «إن رغبتي بالتدريس وحبي للأطفال انتقل بشكل تلقائي إلى أسرتي فيما بعد، واليوم لدي من البنات أربع فتيات جميعهن حاصلات على الشهادة الجامعية ومتزوجات عدا واحدة مازالت تستكمل دراستها العليا في الإعلام، وأصغر أبنائي يستكمل دراسته الجامعية في لندن».

          بين كويت الستينيات وكويت الألفية الثالثة، قطعت المرأة الكويتية شوطا كبيرا في التطور، إلا أن فترة الستينيات تظل الأنضج فكرا من وجهة نظرها: «إن ماحدث في مجتمعنا يعد طفرة نوعية، ولكن الأمور ازدادت تعقيدا عما كانت عليه. رغم العقبات التي صادفتها المرأة في ظهورها للمجتمع، وخروجها عن صورتها التقليدية، إلا أن سرعة تقبل المجتمع كانت في الستينيات أكثر انفتاحًا وأسرع، وأذكر مثلاً أنه بعد ظهوري على غلاف مجلة العربي. سمحت العديد من الأسر الكويتية لبناتها بالتصوير والظهور على أغلفة مجلة العربي.

          إن الانفتاح وتقبل الجديد يأتي بالتدريج دون ازدراء لما نخالفه فالتسامح سمة فطرية جبل عليها الكويتيون، ولكن الفترة التي نعيشها الآن يغلب عليها نوع من التعصب والتشدد الديني، وهي أمور مستجدة على المجتمع الكويتي، بل وعلى المجتمع العربي كله، كما أن هناك كثيرا من المظاهر التي أصبحت موجودة في المناسبات الاجتماعية والتجمعات النسوية وهي مغايرة تماما لما اعتدناه في السابق».

نظرة مستقبلية

          ترى عواطف العيسى أن المرأة الكويتية تستحق كثيرا، نظير ما قدمته لوطنها في الماضي والحاضر، ورغم حصولها أخيرا على حقها السياسي في الانتخاب والترشح فإنه حق  تأخر كثيرا إلا أنه لم يتم بالشكل المطلوب، فقد جرت الانتخابات بعد إقراره بفترة قصيرة، ولم تجد المرشحات الفرصة والوقت الكافي لإقناع الناخبين وإيجاد مقاعد لهن داخل البرلمان، ولكنها كانت البداية وسوف تأتي الفرصة في المستقبل خاصة أن المجتمع الكويتي لا يكف عن التطور.

          هكذا تبدو الآن الفتاة الصغيرة التي ظهرت في أواخر الخمسينيات كأول كويتية تظهر صورتها على أول غلاف للعربي، وترحل إلى بيروت لتستكمل دراستها، ونجدها في الألفية الثالثة وهي الأم والجدة التي تدفع ببناتها إلى نيل أعلى الدرجات العلمية وتولي المراكز القيادية من منطلق يقينها بحق المرأة في العمل داخل الأسرة والمجتمع، وبين أحداث الماضي ومعطيات الحاضر هناك نظرة تفاؤل بالمستقبل تطل من نظرات عواطف العيسى تتقد من خلال جيل جديد مؤمن بالمرأة الكويتية وقدراتها.

«العربي»

 




السيدة عواطف العيسى وهي تحكي كيفية اختيارها لتحتل أول غلاف لـ «العربي»





السيدة عواطف وخلفها الغلاف الذي صدرت به المجلة عام 1958 وبجوارها حفيداها