في رحاب الواقعية

في رحاب الواقعية
        

          كانت قصيدة «أبي» (5 / 1 / 1953) القصيدة الحرة الأولى التي نشرها صلاح عبدالصبور بوجه عام، وأنهى بها قصائده المنشورة في مجلة «الثقافة»، وجاءت قصيدة «الحزن» التي نشرتها «الآداب» في أكتوبر 1953 خطوة أكثر جرأة، وأكثر أصالة، في مدى الشعر الحر. وكانت هي القصيدة الأولى التي ينشرها صلاح خارج مصر في «الآداب» البيروتية التي أصبحت منبر التيار القومي في الإبداع والفكر.

          أما جرأة «حزن» فإنها تقوم على جسارتها اللغوية، وتبدأ من حيث انتهى عباس العقاد (1889 - 1964) في ديوانه «عابر سبيل» الذي صدر عن مكتبة النهضة المصرية سنة 1937. وكان العقاد يريد في هذا الديوان إثبات أن كل ما نخلع عليه من إحساسنا، ونفيض عليه من خيالنا، ونتخلله بوعينا، ونبث فيه من هواجسنا وأحلامنا ومخاوفنا هو شعر وموضوع للشعر، فالشعر حياة وموضوع للحياة. ولذلك، يوجد الشعر في كل مكان يراه عابر السبيل إذا أراد، سواء في المنزل الذي يسكنه، أو الطريق الذي يعبره، أو السيارة التي يركبها، ويرى من نوافذها كل ما حولها وحوله. إن إحساسنا بشيء من الأشياء هو الذي يخلق فيه اللذة، فالجمال هو ما نخلعه بالخيال على مفردات الحياة والواقع والعالم. وإذا تعودنا أن نشعر بما حوله ونخلع عليه ما يزيل عنه أستار الألفة والعادة تبدت الموضوعات العادية شعرًا يراه «عابر سبيل» بعيني خياله وأذني وجدانه. ولذلك، نظم العقاد قصائد في موضوعات من مثل «بيت يتكلم»، و«واجهات الدكاكين»، و«الفنادق». و«كواء الثياب» و«سلع الدكاكين». وغيرها، وذلك كله ليثبت أن الشعر موجود في كل الوجود، وأن المعوّل على العين التي ترى الجمال الذي يسكنها قبل أن يسكن الموضوعات، وعلى الخيال الذي نخلعه على الموضوعات التافهة، فنزيل عنها تفاهتها، وندخل بها إلى أفق جديد. وكان العقاد في هذا المنزع متأثرًا بما كتبه وردزورث في مقدمة طبعة سنة 1800 لديوانه «أقاصيص شعرية وجدانية» lynical dallads التي يؤكد فيها أنه لا فارق جوهريًا بين لغة النثر ولغة التأليف الشعري. وهي فكرة كان لها صداها عند العقاد الذي تأثر بالحركة الرومانتيكية الإنجليزية، فضلا عن أن صداها، عند العقاد، كان يدعمه ما كتبه كولردج عن أننا لا ندرك إلا ما نخلعه على الأشياء، وفي حياتنا وحدها تحيا الطبيعة، فالجمال في عيني الرائي الذي يُسقط على العالم الخارجي ما يريد أن يراه بمعنى من المعاني.

          وأغلب الظن أن صلاح عبدالصبور قرأ ما كتبه العقاد في مقدمة «عابر سبيل» الذي قاده إليه أساتذة الأدب العربي الحديث في قسم اللغة العربية الذين تعرّّضوا لمحاولة العقاد فيما أظن، وعرضوه على طلابهم الذين كان يمكن أن يتأثروا بهدف العقاد، وهو إزاحة الجدران التي تفصل بين لغة الشعر والحياة، وإن لم يتأثروا بالنظم البارد الذي انتهى إليه، وجعل من قصائده - في «عابر سبيل» - منظومات للتدليل على صحة نظرته التي هي صحيحة نقديًا.

          وأعتقد أن عبدالرحمن الشرقاوي (1920 - 1987) كان الأقرب في التأثير على صلاح عبدالصبور من العقاد، خصوصًا في قصائده التي كتبها من منظور الواقعية الاشتراكية، منذ أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، وهي القصائد التي كان ينشرها، غالبًا في جريدة «المصري» التي تحولت صفحاتها الثقافية إلى منبر للإبداع اليساري بوجه عام، ولقصائد الشرقاوي بوجه خاص، ومنها قصيدته «رسالة من أب مصري إلى الرئيس الأمريكي، التي يحدث فيها الرئيس الأمريكي عن نفسه قائلا:

وُلِدتُ لعشرين عامًا خلت على مطلع القرن يا سيدي
وقد فرغ العالم المستجير من الحرب.. ثم مضى آمنًا:
يوزّع أسواقه الباقيات
ويهزأ بالموت والتضحيات
وبالذكريات
وقامت شعوب تهز الظلام بمشرق أحلامها الهائلة
وتعلي على خربات الفساد بناء مدينتها الفاضلة
فلما بدأت أعي ما يقال رأيتهم يملأون الطريق
تهز الفئوس ركود الحقول وتغلي بما تحتويه العروق
وكانوا يقولون «يحيا الوطن»
حفاة يهزون ريح الحياة ويستدفعون شراع الزمن
وساءلت أمّي عما هناك وماذا دهى القرية الساكنة؟
فقالت: بني هم الإنجليز يثيرون أيامنا الآمنة
وقد أخذوا كل غلاتنا، وقد نضب الماء في الساقية
ولم يبق شيء على حاله سوى حسرة مُرّة باقية

          ويمكن أن نضيف إلى الشرقاوي مؤثرا ثالثا يمكن أن يكون له الأثر نفسه، أو أثرٍ موازٍ، على صلاح عبدالصبور، وهو ت.إس.إليوت (1888 - 1965) الذي تأثر صلاح بجسارته اللغوية، خصوصًا في قصيدة «الأرض الخراب» التي أصبحت إحدى معلقات العصر، ومع ذلك يتحدث فيها إليوت عن حياة تافهة لسكرتيرة بائسة، أقصد إلى المقطع الذي يترجمه صلاح على النحو التالي:

في الساعة البنفسجية، ساعة المساء التي تقود
إلى البيوت، وتعيد البحّار إلى بيته من البحر، والتايبست إلى بيتها في موعد الشاي لتنظّف المائدة
من بقايا الإفطار، ولتشعل الموقد، وتخرج الطعام
من علب الصفيح.
لقد تدلت من النافذة منشورة خوف السقوط،
أطقمها الداخلية، وهي تجف، إذ لمستها أشعة الشمس الغاربة.
وتكومت على الأريكة (التي تتخذها سريرًا في الليل)
جواربها، وشبشبها، وقمصانها، ومشداتها.

          ويعلّق صلاح على المقطع في كتابه «حياتي في الشعر» - بأنه يتضمن ألفاظًا لم يتعود الشعر استخدامها إلى ذلك الوقت (التايبست، الشاي، علب الصفيح، الغسيل المنشور، الأطقم الداخلية، الجوارب،الشبشب، المشدات)، مؤكدًا أن هذه الكلمات هي الكلمات الوحيدة التي تستطيع نقل الصورة التي هدف إليها الشاعر عن فتاة من فتيات عصر التقدم الصناعي عاملة في متجر، تحيا وحدها في غرفة فقدت كل معالم الأناقة والذوق، وتعيش أيامها في حياة سطحية وعجلة.

          واللافت للانتباه أن صلاح عندما تطلع إلى جسارة إليوت اللغوية لم يؤرق نفسه بأنه شاعر رجعي، فيما يكرر رفاق اليسار الذين اقترب منهم، وإنما شغله الفن نفسه، واستهوته الجسارة اللغوية التي دفعته، في اقتناعه بها،إلى تحطيم الهالة المجنحة للغة الشعر الرومانسي، واطّراح اللغة الرصينة المغايرة للغة الحياة في الشعر التقليدي. وكانت النتيجة قصيدة «الحزن» التي تبدأ على النحو التالي:

يا صاحبي إني حزين
طلع الصباح فما ابتسمت، ولم ينر وجهي القمر
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف
ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش
فشربت شايًا في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزّع بين كفّي والصديق
قل ساعة أو ساعتين
قل عشرة أو عشرتين.

          وكان صلاح يريد أن يقدم في هذه القصيدة، فيما يقول، صورة لحياة بائسة،تنطلق في الصباح وراء فتات العيش، وتقضي أصيلها في ممارسة لعبة، تبعدها عن جوهر الحياة، ومن ثم تكون مقدمة لأحزان الليل الصخّابة التي لا يستطيع الإنسان الكادح أن يهرب منها في وحدته.

          وأغلب الظن أن قصيدة «الحزن» - كقصيدة «أبي» المنشورة قبلها - كانت تمضي في الأفق اللغوي نفسه الذي مضت فيه قصائد الشرقاوي. ولذلك انطوت القصيدة على انحياز ضمني إلى الطبقة العاملة من معذّبي الأرض، وذلك في مدى يبين عن ذهن صلاح الشاب الذي انفتح على التيارات الإبداعية والفكرية المتصارعة التي كان واقعه الثقافي يموج بها حوله. وكان أهمها التضاد بين اليسار الاشتراكي واليمين الليبرالي. وهو تضاد حدّي، بدا - في نظر البعض - أن الفلسفة الوجودية تجاوزه بمحاولة التوفيق بين نقائضه. ولذلك شاعت الوجودية عند الذين لا يطيقون جذرية الرفض الماركسي العقائدي للثقافة البرجوازية وتياراتها الرجعية. فأقبل كثيرون في الوطن العربي على الوجودية التي بررت لهم إمكان الجمع بين الاشتراكية بعدالتها الاجتماعية والليبرالية بحريتها الفكرية، ومزج هذا المركب التوفيقي بما يدعم ثلاثية التيار القومي: الحرية والوحدة والاشتراكية، على اختلاف في ترتيبها من تيار قومي فرعي إلى نظيره، لكن داخل المجرى العام الذي يجمع بينها. وقد تبنّت مجلة «الآداب» التي صدرت سنة 1952 هذا التيار القومي الصاعد مع صعود حركات التحرر الوطني، وجعلت من صفحاتها فضاء لكل الاتجاهات التقدمية التحررية الموازية أو المقاربة أو المشابهة. ولذلك، جمعت صفحات «الآداب» بين القوميين - على اختلاف تياراتهم الفرعية - والماركسيين والباحثين عن طريق وسط يتجسّد فيه وبه المنزع القومي، وكان ذلك في موازاة ما قامت به «الآداب» من تشجيع الأصوات الجديدة التي كان صوت صلاح عبدالصبور نسمة عفية واعدة فيها، ولذلك لم يكن من المستغرب أن تصدر «الآداب» ديوانه الأول «الناس في بلادي» في يناير 1957 وسط أصداء الانتصار القومي المدوي ضد العدوان الاستعماري الثلاثي على مصر.

          وأتصور أن صلاح عبدالصبور أخذ يجذب الانتباه إلى موهبته الشعرية، جنبًا إلى جنب موهبته الكتابية، ولذلك نجد في القوائم الببليوجرافية التي أعدها د.حمدي السكوت ونشرها المجلس الأعلى للثقافة في مصر (بمناسبة احتفاله بمرور عشرين عامًا على وفاة صلاح عبدالصبور) عددًا من القصص القصيرة التي كتبها، وسرعان ما أهملها، وضحّى بها على مذبح الشعر، فضلاً عن أعمال قصصية مترجمة، أولها «لويز» للقاص البريطاني الشهير في ذلك الوقت سومرست موم، وقد نشرت الترجمة في العدد الأخير من مجلة «الثقافة» (12 / 12 / 1952). وظهرت إلى جانب ذلك قدراته على كتابة المقالات التي تفتح أمام عيني القارئ العربي نوافذ الثقافة الغربية، في انفتاح فكري لم يعرفه العقائديون المتحزبون من أمثال محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس اللذين ظلا يريان في إليوت شاعرًا رجعيًا، وفي الوجودية فلسفة انهزامية، وفي «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم انتكاسة رجعية تماثلها محاولة عبدالرحمن بدوي في صياغة وجودية إنسانية، فلم تكن أعينهما ترى في ذلك الوقت، عبر مقالاتهما في «المصري» سوى الواقعية الاشتراكية بالدرجة الأولى، تلك التي وجدا نموذجها الأسمى في رواية «الأرض» التي نشرها رفيقهما عبدالرحمن الشرقاوي في «المصري» سنة 1953، ماضيا في الدرب الذي سار فيه الكاتب الإيطالي إجناسيو سيلونه (1900 - 1978) الذي اشتهر برواياته المعادية للفاشية والإقطاع، ومنها رواية «فونتمارا» التي تدور حول الموضوع نفسه الذي دارت حوله رواية «الأرض» التي كانت موازاة إبداعية بقريتها لقرية «فونتمارا».

          وهي موازاة طبيعية بين كاتب اشتراكي مصري وآخر إيطالي، في مدى وحدة الهدف الذي يجمع بين رفاق الداخل والخارج، ولا غرابة والأمر كذلك، أن تمتلئ مقالات محمود العالم بالدرجة الأولى، وعبدالعظيم أنيس بالدرجة الثانية، بتمجيد الأدب الواقعي، وأن يريا في هذا الأدب أفقًا صاعدًا، على نحو نقرأ فيه ما كتبه العالم قائلاً: «واقعية في الأدب، وواقعية في الفن، وواقعية في السياسة، وواقعية في التعليم، هذه هي الصيحات التي فرضت نفسها في المرحلة الأخيرة على الفكر المصري الحديث... وأنا أزعم أن تيار الواقعية في الفكر المصري قد أصبح من القوة بحيث بات شاقًا على كثير من المفكرين المصريين - الذين يجدون في هذا النوع من التفكير خطرًا على تراثهم الفكري وإنتاجهم الفني - أن يهاجموه علانية، وأن يناوئوه جملة». وتلك كلمات تؤكد الثقة الحماسية في التيار الواقعي الاشتراكي في الإبداع والفكر، والتفاؤل الوجداني بمستقبله المنتصر الذي لم يكن محمود العالم يخامره الشك فيه.

          ولذلك، خاض العالم وأنيس معركتهما ضد طه حسين الذي وصف عرضهما لأهم مبادئ الواقعية عن الوحدة الجدلية بين الشكل والمضمون بأنه كلام «يوناني فلا يُفهم». وطبيعي أن تجتذب الواقعية الاشتراكية المطامح الأدبية لصلاح عبدالصبور، وذلك بالقدر الذي اكتسبته الماركسية بوصفها جنة للخلاص، ويوتوبيا لمعذبي الأرض أو المعذبين في الأرض بلغة طه حسين، تلك الفئة التي لم يفقد صلاح عبدالصبور انتسابه إليها، وانحيازه إليها، فظل متحمسًا لأفكار الواقعية التي خلبت لبّه، وصاغ نتائج إيمانه بها شعرًا في قصائده التي أخذت تنحاز إلى الفقراء من الناس في بلادي، وإلى الإنسان الذي لابد أن يصنع جنته على الأرض لا تحتها.

          ولم يكن من الغريب أن يتلقف تيار محمود أمين العالم قصائد صلاح عبدالصبور بوصفها صوتًا، يتضافر مع أصوات عبدالرحمن الشرقاوي، وكمال عبدالحليم، وأحمد كمال زكي - زميل صلاح في قسم اللغة العربية الذي جذبته اليوتوبيا التي بشّرت بها الماركسية على ألسنة دعاتها العرب أو المصريين بلا فارق.ولا أدل على ذلك من الحماسة التي استقبل بها محمود العالم قصيدة «شنق زهران» التي كتبها صلاح في مناخ الصراع الوطني ضد الاحتلال، وذلك بوصفها - أي القصيدة - نموذجًا ناجحًا للشعر الواقعي الذي ينحاز إلى المناضلين من الفلاحين الذين تصدوا للاحتلال البريطاني، مؤكدًا أهمية إبراز هذه القصيدة للبطل الشعبي الذي يرمز إلى نضال الشعب كله. ويضيف العالم إلى ذلك قصيدة «طفل» التي رأى في صاحبها «نموذج الشاعر الجديد» الذي مضى بالشعر المصري إلى الأمام في الطريق الذي سبقه إليه عبدالرحمن الشرقاوي في قصيدته «عزة والرفاق» ومن «أب مصري» وغيرهما من القصائد التي صار رفاق «المصري» يتطلعون إليها بوصفها الصوت القادم (المنتصر بالتأكيد) للشعر المصري الجديد الذي يغاير الشعر السابق في مضمونه وشكله.

          وكان صلاح عبدالصبور في حماسته لصحبة الرفاق الشعراء، وإخلاص محبته للشعر الذي قرر أن يهبه حياته، قد تخلى عن كتابة القصة التي انجذب إليها بتأثير رفاق الجامعة مثل عبدالرحمن فهمي وفاروق خورشيد، وقرر الاكتفاء بالشعر، والمضي في طريقه الواقعي، وذلك على نحو جعل موقفه الفكري من ثورة يوليو 1952 متطابقًا مع موقف الطليعة اليسارية في «المصري». وهو الموقف الذي رأى ما حدث في يوليو 1952 انقلابًا وليس ثورة، ووصلت حدة العداء بين موقف الرفاق والعناصر النافرة من الديموقراطية في مجلس قيادة الثورة إلى ذروتها مع أزمة مارس 1954 التي انتهت بانتصار جناح عبدالناصر الرافض للديموقراطية والمتمسك بضرورة فرض فكر مجموعة الضباط الأحرار بالقوة لا بالحوار. وكانت نتيجة هذا الصدام إيقاف مجلة «المصري» بالإضافة إلى تطهير الجامعة من اليساريين، أمثال فوزي منصور ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وغيرهم.

          وكان من الطبيعي أن يكتب صلاح عبدالصبور قصيدته «عودة ذي الوجه الكئيب» من منظور رفاقه الجدد، ويرى في انتصار جناح عبدالناصر انتصارًا للديكتاتورية. ولذلك، تنشر «المصري» في عددها الصادر بتاريخ التاسع عشر من مارس (إذا صحت ببليوجرافية السكوت) قصيدته «هجم التتار» التي يمكن أن نفهمها على أنها استجابة إلى تهديد إسرائيلي لحدود مصر، كما يمكن أن نفهمها على أنها هجائية رمزية للجناح العسكري الذي انتصر على دعاة الديموقراطية بين الضباط الأحرار.

          ولذلك، يمكن أن نقرأ القصيدة على مستويين، واقعًا ومجازًا، وذلك بالمعنى الذي يقرن المجاز برفض العسكر، وصعود نزعتهم التسلّطية، ولذلك، وبعد أن تصوّر القصيدة، رمزيًا أو أليجوريًا، ما يترتب على هذا الغزو العسكري لكل شيء، تنتهي بالصرخة الثنائية:

وأنا - وكل رفاقنا - يا أم حين ذوى النهر
بالحقد أقسمنا سنهتف في الضحى بدم التتار
أماه! قولي للصغار:
أيا صغار..
سنجوس بين بيوتنا الدكناء إن طلع النهار
ونشيد ما هدم التتار.

          وكان ذلك قبل الهجوم الإسرائيلي الكبير على غزة في فبراير 1955، وهو الهجوم الذي دفع عبدالناصر إلى انتهاز فرصة اشتراكه في أول مؤتمر لحركة عدم الانحياز في مارس 1955، للبحث عن مصادر بديلة للسلاح، ومن ثم تأسيس علاقات جديدة مع العالم الاشتراكي، وإعلانه عن صفقة الأسلحة التشيكية بمباركة الاتحاد السوفييتي (الذي سرعان ما أصبح الصديق الحميم وسند حركات التحرر في العالم الثالث) في شهر سبتمبر من العام نفسه.

قالت ليَ الذَّبيحّهْ
إنْ لمْ يصنِّي أهلي
منْ نزواتِ الجهلِ
كنتُ لهمْ فضيحهْ
- قالَ ليَ الزمانْ:
يولدُ بالمجَّانْ
يموتُ بالمجَّانْ
هذا هو الإنسانْ

****

حدقتُ في مرآةِ نفسي
فلم أجد نفسي
بل لاحَ لي حشدٌ من الظلال
جميلةِ الشكل
لكنها وا أسفا ـ ليست لي
حدقتُ في مرآةِ نفسي
فلم أجد نفسي
بلى...
وجدت هيكلاً
تمردت كنوزُه على البِلى
وا أسفا
كنوزُه تمردت على البِلى
فصار للقبرِ وللتابوتِ والصنمْ
في ظل وجداني حرمْ
حدقت في مرآة نفسي
فدار رأسي
يا أنتم !! يا أهلي
لكم مرايا في نفوسكم
فحدقوا فيها
لكن بصدق لا يهابُ السيفَ أو يخشى القلمْ
وخبروني... ما الذي تقوله المرايا..
عن عالم الخفايا
يا أنتم يا أهلي
عودوا إلى أنفسكم
وحدقوا فيها
لعل بين ظلالِها ظلي
فأنتم أهلي
واأسفا مثلي

أحمد العدواني

 

جابر عصفور