قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
---------------------

بعد قراءات متعددة، اخترنا أربعة أعمال تتوافر فيها الحدود المعقولة من المعطيات التي تؤهلها للنشر والإذاعة كأعمال أولى لممارسين شباب، ربما بعد مواصلة الكفاح، يأتون بنتائج أفضل وأكثر نضجًا.

***

          قصة «الوحشة» على الرغم من واقعية هذه القصة، فإننا نلاحظ أن كاتبها يتمتع بمقدرة عالية على التخيّل: مثلا: «وعلى جبينه نجوم تلمع» و«سرعان ما اختفى مثل خيط من الدخان». من السطر الأول يأخذك الكاتب إلى الموقف بلا مقدمات زائدة - كما نجد عادة في بدايات المبتدئين - فتجد نفسك أمام الشخصية وجهًا لوجه، وتحس أنها كائن حي، يحكي ويتحرك، بل إنك تتخيل الشخصية كوجود محسوس، وهذا نجاح في حد ذاته. لم تخرج القصة عن الفكرة الأساسية «البؤرة» التي هي في الوقت نفسه عنوان القصة «الوحشة» وهي الحال التي تعيشها بطلة القصة «التي تلعب دور المرأة في العمل»، وإن كنت تحس بأن الراوية «الشخصية الأولى في القصة»، هو نفسه يعيش أيضًا في حال وحشة مشابهة وهذا ما يميز القصة. أحبّذ شخصيًا هذا النوع من القصص القصيرة التي تعكس التفاصيل الحياتية الصغيرة لتدل على المعنى الأكبر، دون اللجوء لـ«الكلام الكبير» والحكم الفارغة.

***

          قصة «أين مريم»؟ على الرغم من بعض الأخطاء النحوية التي هي من باب الهنات «مثلاً: سينظر إلى تلك العينان البرّاقتان»، الصحيح: «تلكما العينين البراقتين - مع ملاحظة أنه تم تصحيح الخطأ الوارد في الأصل قبل نشره القصة في «العربي» إلا أن القصة تتوافر لها عوامل النجاح، كونها، ومنذ اللحظة الأولى تأخذك إلى بؤرة الحدث، حيث نتابع البطل - الرجل العجوز عم أبو خليل - وهو يعبر السفوح الوعرة في اتجاه أسلاك الحدود بهضبة الجولان المحتلة - للقاء أخته مريم التي سمع أنها ستأتي للقياه، على الجانب الآخر من السلك الشائك بعد فراق تسبب فيه الاحتلال لمدة خمسين عامًا. وهو في اندفاعه نحس وكأنه نزف حتى فاضت دماؤه، وبينما هو في حال بين الحياة والموت نجده يرى مريم - الصغيرة لاتزال في ذاكرته كما تركها منذ خمسين عامًا - وهي تلوح له بوجهها الطفولي المشرق وسط قبة السماء تمد يدها لتعطيه التفاحة، ثم تختفي آلامه، بينما تغدو مريم أكثر نورًا. أكاد أقول إن هذه هي القصة الوحيدة التي قرأتها عن مأساة أهل الجولان الإنسانية، وهي على درجة من النضج،وعدم المباشرة، مما يجعلها عملاً فنيًا بامتياز.

***

          قصة «بين الأوضة والياخور» هذه نموذج جيد للقصة الواقعية التي تعبر عن الصراع بين الخير والشر، بين الغني المفتري قاسي القلب، والفقير المغلوب على أمره. هي قصة ناجحة لأنها لجأت للجانب الإنساني، ولم تتعرض لـ«القضية» بشكل مباشر. كما أن روايتها على لسان طفل حلاها بالبراءة المقبولة وجعل لها مصداقية تؤثر في النفس، مما يؤكد على مقدرة كاتبها على اقتناص اللحظة الشفافة.

***

          قصة «استباحة»: هاهي قصة أخرى ناجحة تؤطر الفكرة في وقائع محسوسة، متحركة، حيث يمكنك أن ترى المكان «غزة» والزمان «الآن». البطل، الإنسان العادي الصغير، يسرب لك فكرة بسيطة، لكنها قاتلة تتوسل حقًا إنسانيًا مغدورًا في هذا العالم الظالم: إننا نريد أن نحلم، نريد فقط أن نحلم، مجرد الحلم، لكن بلا حذر، بلا خوف، فهل يمكن أن نحلم بالتحرر لنصل إلى البحر «أو إلى الصحراء، لا فرق»، لكن بلا قيود؟

«الوحشة»
خالد الجبور - فلسطين

          حين فتحت الباب وجَمَتْ، وغاض دم وجهها.

          في بابها رجل !!

          رجل شاب في الخامسة والثلاثين على الأكثر، عصريّ، أنيق الهندام، وسيم الوجه، وعلى جبينه نجوم تلمع .

          لم يحدث أن وقف ببابها مثل هذا البهاء .

          لم يحدث أن شمّت رائحة رجلٍ غريب عن قرب كهذا القرب !!

          سطعت ابتسامته، قال إنّه الساكن الجديد في الشقة التي تقع تحت شقتهم مباشرة، وإنّه يعاني من تسرّب الماء من سقف مطبخه، ولذا فإنّه يرجو أن يساعدوه في اكتشاف مصدر الماء، النابع من مطبخهم بالتأكيد.

          اهتزّ رأسها اهتزازة خفيفة، ولم تتكلّم، فبدت وكأنّها لم تفهم من كلامه شيئاً، وظلّت عيناها معلّقتين على وجهه بلا إرادة . اتسعت ابتسامته، وقال :

          - لو سمحت، أريد مقابلة زوجك.

          انتبهت لنفسها، وأغضت عينيها إلى الأرض بشيء من الخجل والارتباك . قالت بصوت خافت لا يشبه صوتها :

          - عفوًا .. أنا .. أعيش هنا وحدي .. أنا غير متزوّجة ..

          تراجع الرجل خطوة إلى الوراء، وقال :

          - آسف على الإزعاج . سأراجع صاحب العمارة، ليحلّ المشكلة بطريقته .

          رفعت رأسها إليه، فالتقت عيناها بعينيه للحظات قليلة، قرأت فيهما دهشةً واستغرابًا، وشيئاً من الأسف الممزوج - ربّما - بالاستنكار، كأنّهما تقولان : «كيف ؟! هذا غير ممكن !!» ..

          كرّر الرجل اعتذاره، واستدار بسرعة، ثمّ مضى هابطاً درجات السّلم دون أن يلتفت وراءه ، وسرعان ما اختفى مثل خيط من الدخان!!

          لم ترغب بإغلاق الباب على الفور، فمكثت واقفة في مكانها، كأنّها تنتظر رجوعه، وحين مرّت دقيقة أو أكثر قليلاً دون أن يحدث ذلك، تراجعت إلى الدّاخل، وأوصدت بابها بهدوء، شاعرة بفراغ كبير، وبرغبة شديدة في البكاء . استندت بظهرها إلى الباب، وأغمضت عينيها . تذكرت أمّها في بلدها البعيد، فغمغمت مجهشة: «آه يا أمّي!!».

أين مريم؟
فنار عبدالغني - سورية

          بخطى مسرعة واثقة تتحدى الشمس والآلام المزمنة، كان بجسده النحيل يعبر السفوح الوعرة، متجاوزًا الجموع اللاهثة في الوادي، غير آبه باللافتات المحذرة من الأجسام الغريبة والمشبوهة الملقاة على جوانب الطرقات القاسية، صدره المتأرجح وأنفاسه العطشى، المتقطعة أبقته في مكانه للحظات. أسدل جفونه واتكأ على صخرة منتظرًا وصول أحد القادمين ليمده بقطرة ماء.

          الوقت لايزال مبكرًا، لكنه كان على عجلة من أمره، شعر بالخوف من وصوله متأخرًا، خشي أن تصل قبله وتنتظره في هذا القيظ الخانق الذي ما عاد ليهتم به. لاشك أنها ستأتي، لقد انتشرت الأنباء في كل مكان عن اللقاءات عند الحدود.

          أخذ يبعد بعكازه الزواحف، ضربها بقسوة وصعد فوق الصخور، واتجه بناظريه جنوبًا نحو الجبال الأكثر اخضرارًا. مازالت المسافة بعيدة، تمنى لو يمتد به العمر ليقف هناك ولو لمرة واحدة في حياته. وعاد يشغله السؤال عنها. ترى هل ستأتي؟ وكيف ستبدو بعد مضي أكثر من خمسين عامًا؟ هل سيعرفها بعد هذا الزمن الطويل؟ حتمًا سيعرفها حين سينظر إلى تلكما العينين البرّاقتين كنجوم الجليل المشعة. وحين سيسمع صوتها: أنضجته الجفرا والعتابا منذ الصغر، والذي لايزال يتردد في أذنيه وخاصة ساعة أيقظته في ذلك الصباح الباكر والمشئوم، وهيأت له الزاد. ودّعها ووعدها بأروع تفاحة في الحقل، وغادر مع الأهل إلى أعلى الجبل، وهي قبعت في الدار لمساعدة الجدة في تحضير الخبز. يومها، وكعادتهم، تعاونوا على قطف التفاح، ووضعه في السلال، وفجأة قطع هدوء الفضاء والمواويل الجبلية أصوات إطلاق نار كثيف، وجلجلة وأدخنة حالكة السواد. هرع الفلاحون إلى القرية من كل اتجاه. وأخذت أمه تصرخ: صغيرتي مريم في الدار، وهو كان قد تسلق الشجرة محاولاً قطف تلك التفاحة الممتلئة، الشهية، اللامعة تحت أشعة الشمس.

          صاحت به أمه: أسرع بالنزول، القرية تحترق، وأختك وجدتك هناك. لا، لا يمكن لمريم أن يصيبها مكروه. لقد طوّقت الجدة عنقها بتعويذة ذهبية زرقاء، لقد رقتها جارتهم أم اسطفانوس، لقد وعدها بتفاحة لامعة ووعدتها أمها بثوب مطرز في عيد الحصاد، ولقد سحبته أمي بقوة من أعلى الشجرة، وظلت عيناه معلقتين على التفاحة، وفؤاده يذكر مريم ورائحة البارود تلاحقه حتى الساعة، والأصوات الغريبة تطارده، إنه يشعر بها الآن أكثر من أي وقت مضى، لذا عزم على مواصلة المسير في المتاهات الجبلية، يريد أن يراها حتى لو كانت صورتها آخر صورة تلتقطها عيناه. أصوات القادمين الهادرة تحذّره: ارجع يا عم أبو خليل، لا تقترب أكثر، يتجاهلهم ويمضي. أصبح على مقربة من الأسلاك الشائكة، تشبث بها، مد يده ليلامس التراب، جرح بقوة، فاضت دماؤه، عيناه معلقتان على السفوح الخضراء، تبحثان عن مريم وعن التفاحة التي تركها في الأعلى. وشعر بمزيد من الألم. خفت آلامه عندما لاح له وجه مريم الطفولي المشرق، يتوسط قبة السماء، تمد يدها له لتعطيه التفاحة الممتلئة، ثم تختفي آلامه، بينما تغدو أكثر نورًا.

بين الأوضة* والياخور**
محمد موفق الحسن - سورية

          قد تستغربون إذا قلت لكم: إن المسافة التي تفصل بين «ياخور» عمي القابع في أقصى الشرق من قريتي وبين «أوضة» الحاج عبدالله الشامخة في أقصى الغرب منها، قد تستغربون إذا قلت لكم: إن هذه المسافة ليست بأقل من المسافة، التي تفصل الأزل عن الأبد. وسيزداد استغرابكم حتمًا إذا أخبرتكم بأن المسافة الحقيقية بين «ياخور» عمي و«أوضة» الحاج، هي بالمقدار الذي يقطعه طفل في العاشرة جريًا ثم يقف أمام الحاج، ويكلمه بعشر كلمات متواصلة، دون أن يتلعثم أو أن يبتلع ريقه.

          قلت له حينها: «عمو! عمو! بقرتنا تموت، وأمي قالت لو تنقلها بسيارتك إلى المستوصف».

          فقال لي وقتها: «امشي انقلع يا ولد امشي.. أنا مو ناقصني بقر».

          وعندما ماتت بقرتنا، ازدادت المسافة بين «ياخور» عمي و«أوضة» الحاج، لكنني استطعت أن أقطعها جريًا، وأن أناور كلب الحاج، وأنحشر في فناء بيته، لأتفرّج على «المرجوحة» التي اشتراها لابنه دون أن تند من جبيني قطرة عرق واحدة.

          وازدادت المسافة بين «ياخور» عمي و«أوضة» الحاج حين جفّ بئرنا، وحين ذبح الحاج عشرين خروفًا احتفالاً بظهور ولده، وحين بارت أرضنا لأننا لا نملك ثمن البذار، وحين رشّح الحاج نفسه للبرلمان، ازدادت المسافة اتساعًا، لكنها ظلت في متناول ساقي طفل في العاشرة يقطعها جريًا كل ظهيرة، ويناول كلب الحاج، ليملأ الماء من البِرْكة التي يسبح فيها ابن الحاج.

          ومرّة حين صعدت لأسرق حمامًا من سطح بيت أم أحمد المهجور الذي يتوسط القرية، ووقفت أتفرّج على قريتي من الأعلى، رأيت العجب العجاب.

          نظرت غربًا، فرأيت الحاج يخرج من «أوضته» ويركب سيارته الفخمة، ويسير بها عبر بستانه المكتظ بالخضرة، ويتوجّه بها صوب الراعي الذي يرعى أغنامه المئتين، ونظرت شرقًا، فرأيت عمي يخرج من «ياخوره» العتيق يحمل خروفًا قد مات جوعًا، ليلقيه في أرضه التي بارت عطشًا، وتذكرت قول حسان الأجدب: «إن الجنّة في الغرب حتمًا...» لكنني لم أكن حزينًا، لأنني كل يوم كنت أرى الشمس تقبل بوجهها على الشرق في أول النهار، بينما تولي الغرب ظهرها في آخره.
--------------------------------
* مضافة كبير القرية.
** بناء مستطيل يستخدم جزء منه مأوى للحيوانات، والجزء الثاني لعلفها.

استباحة
عبدالله عطية السلايمة - مصر

          في ركن من تلك المساحة الضيقة، التي تفصل ما بين مقهى «العريش» والشارع المكتظ بالعربات والمارة، اتخذت لي مكانًا، اعتقدت أنه يحفظ لي استقلالي، ويسمح لي باستراق نظرات لفتيات ونسوة يقطعن الشارع، جلست مستسلمًا لغربان خيالي، تحلق بي عبر فضاءات أحلامي الجوعى حينًا. وحينًا آخر تلفظني لواقع زاد من مرارة قسوته مجيء «قاسم».

          كما العادة وبلا استئذان، وبالتقطبية نفسها سحب كرسيًا وجلس قبالتي، وفي محاولة يائسة للتخلص منه، أشرت إلى النادل، فجاء بكوب الشاي، وضعه بيننا ثم انصرف لشأنه، بينما أجبرت على مبادلة جليسي ثرثرة فاترة لم يقطعها غير سؤال مباغت ألقى به «قاسم» مثل قنبلة في وجهي:

          - بم تحلم؟!

          ألمت بي دهشة، وساورني العجب من سؤال أخطبوطي لم أنتظره، ارتسمت أصابع الحيرة على وجهي، احتشدت قشعريرة غضب تحت جلدي، عكّرت صفو ملامحي، وفي حدة لا تخلو من ثورة، نظرت إلى وجهه العابس، وقد استند بمرفقيه إلى الطاولة، مستمتعًا بمظهر الحيرة البادية على وجهي.

          اجتهدت أغالب انفعالاتي، بينما هو يستنفر حواسه مصغيًا، سدت محاجري بالدموع، أصوات متداخلة تتردد في أذني، مددت يدي المرتعشة إلى كوب الشاي، ارتشفت منه رشفة، حطت جموع غربان أوجاعي على الطاولة أمامي، فاستفقت متخليًا عن حذري، وفي نبرة يغلب عليها الأسى، أجبته شاردًا:

          - أحلم ببحر، على شاطئه أجلس، وإذا ما مللت البوح وملني، أتحرر من ملابسي، وفي عري انطلق ركضًا عبر اتساع الصحراء.

          - أهذا كل ما تصبو إليه؟!

          لمعت عيناي ببريق ساخر، وفي نبرة لائمة قلت:

          - والكارثة - يا هذا - ليست في بساطة أحلامنا، بل في عجزنا وفقداننا الشجاعة على تحقيقها..!!

          وفي تحد مؤلم صدمني سائلاً:

          - إذا ما ارتضيت مقايضتي، كم يكفيك من المال لتتنازل عن حلمك..؟!

          تشنجت عروق وجهي، أنهكني التظاهر بالتماسك، تشاغلت بالتصدي لنظرات زبائن المقهى، تخيلتها حرابًا تمزّق جسدي النحيل، رددت مهزومًا:

          - وهل ثم ثمن لأحلام بسطاء مثلنا؟!

          شقت وجهه ابتسامة بلهاء، استندت بظهري إلى الكرسي للحظة، ما لبثت أن تملكتني قوة خرافية أعرف مصدرها جيدًا، وفي تحد قفز من ناظري قلت:

          - الثمن - فقط - أن تدعونا نمارس أحلامنا بلا حذر..

          ساد الصمت الحذر بيننا برهة، قطعت رنينه مستأذنًا في الانصراف، دفعت الحساب إلى النادل، ثم استدرت مغادرًا، أشق الزحام في خطى واثقة لا تضل طريقها.

 

عبده جبير