خارطة مبسطة لنصف قرن من المخاض التشكيلي

 خارطة مبسطة لنصف قرن من المخاض التشكيلي
        

واكبت مساحة نصف القرن من عمر مجلة العربي تحولات انعطافية أساسية في حركة الفنون التشكيلية، وعلى مدى خارطة الثقافة العربية ما بين المشارقة والمغاربة ودول الخليج العربي.

          دعونا نراجع - على سبيل المثال لا الحصر - تاريخ أول معهد فنون مختص في القاهرة عام 1908م قبل أن يتحول إلى «كلية الفنون» التي تخرج فيها العديد من الفنانين العرب، خاصة الذين لعبوا دورًا مفصليًا في الخمسينيات. يكاد يكون أبرز فناني الأربعينيات والخمسينيات والستينيات في المحترف السوري، درسوا تحصيلهم الفني في كلية فنون القاهرة، ابتداء من ناظم الجعفري ونصير شورى وانتهاء بنذير نبعة والياس زيات، هو شأن عبدالرحيم الرضوي في المملكة العربية السعودية، وكذلك صفية بن زقر مؤسسي محترف جدة، سيتعرض البحث إلى آخرين.

          تراوحت هذه العقود بين قطبي جذب فكريين أساسيين:

          1- التأسيس النهضوي لبداية القرن. 2- تنامي الوعي القومي في الستينيات، وذلك قبل أن نصل في العقدين الأخيرين إلى موجات وسائط ما بعد الحداثة، وبإيقاع معاكس لما سبق لأنه متسارع في محترفات الخليج، وخجول في محترفات المشرق، أما محترفات المغرب العربي «تونس - الجزائر - المغرب» فتقع في الحد المتوسط بسبب ثقافتها «الفرانكوفونية» المحافظة. 

          2- عصر التنوير في اللوحة النهضوية:

          تبدو هذه الخارطة تبسيطية لا تصلح للتعميم بالرغم من وثوقية مرتسماتها الميدانية. فمن الأكيد أن مجمل التيارات، التي شقّت تمفصلها من الانطباعية وحتى «التعبيرية» تراوحت حساسيتها ونبضها الفكري ما بين العبوات النهضوية واشتعال القهر القومي مع الهزائم والنكسات والكبوات والنكبات والإحباطات العسكرية والحضارية. فما إن خرج عرب النهضة من عباءة الترهل والخمول العثماني حتى وقعوا في براثن الاستعمار والاستشراق، قبل تعثرهم في مجابهة تفوّق الآلة العنصرية الإسرائيلية، وتنامي الأنظمة القمعية ذات اللباس الأيديولوجي الموحد أو المصبوغ بـ«الكاكي» العسكري، يتحالف مع شتى هذه الأسباب السلبية في خنق صوت الفن التشكيلي صعود الأصولية العمياء، المعادية صراحة لكل الفنون، وهمجية العودة إلى البداوة والنكوص الأطلالي إلى عصور وسطى متخيلة ملفقة لا وجود لها في تاريخ الثقافة الإسلامية.

          دعونا نتأمل المثال الذي ذكرته حول تأسيس صفية بن زقر للوحة التشخيصية في ستينيات «محترف جدة» المزدهر، وكيف أعيدت اليوم مثل هذه الاتجاهات إلى موقع التسلّط والاتهام ولو المضمر بصعود موجة الحروفية الفولكلورية الاستهلاكية، التي غيّبت رسم الأشخاص لصالح تجريد ذي أصول غربية ببغائية تتلبّس أشباح الخط العربي دون الاستمرار في تجربته الروحية، ما خلا تجارب عرفانية نادرة مبعثرة ما بين سمير صايغ ومنير الشعراني، نقف اليوم على عتبة تحولات هذه التحولات، ومعاناة زوبعة ردود الفعل على ردود الفعل، فإذا كانت اللوحات النهضوية تمثل رد فعل انفتاحيًا على شمال المتوسط، فإن الحروفية تمثل رد فعل على هذا الرد فعل، وذلك بكبت جماح أي صبوة حوارية، ولجم أي توثّب باتجاه المصالحة مع فنون شمال المتوسط، مبشرة بالتقوقع الثقافي من جديد.

          يبدو الواقع الميداني من جديد أشد تركيبًا من هذه المرتسمات المبسطة، وحتى نصل في مجهرنا التحليلي إلى عمودية أشد سبرًا، دعونا نمتحن التيار النهضوي الأول: الانطباعية.

          يتمثل هذا التيار في القاهرة بمحترف يوسف كامل الذي درس الانطباعية في باريس في ثلاثينيات القرن العشرين، وأصبح يدرسها في كلية الفنون. ورث عنه تلميذه السوري ناظم الجعفري صبوة تحويل الانطباعية الفرنسية إلى خصائص جغرافيا النور الطبيعي المحلي، هكذا كان بالنسبة للأول: الترعة والجاموسة، وأسراب الدجاج والسطوح الطينية للريف، وهكذا كان مع الجعفري بتصويره النزق والسريع لاقتناص خصائص انعكاسات أحياء دمشق القديمة وغوطتها وجبل قاسيون وجداول بردى، والبحيرات الرحبة في الدور التقليدية مع أشجارها المثمرة من كباد وبرتقال وسواهما، تبعه نصير شورى الذي اختص بمنتجعات وجبال المناطق القريبة، بما أن أغلب تعبيريي الجيل التالي درسوا على يد هذين المعلمين فقد ورثا عنهما احتدام اللون وتوظيفه تعبيريًا.

          تبدو هذه النزعة هامشية في المحترف العراقي أمام عملقة عبقرية جواد سليم، فـ«جماعة الانطباعيين» التي قادها الدروبي كانت متخلفة تاريخيًا عن حركة «جماعة بغداد للفن الحديث». ولم تترك بصماتها إلا على المناظر التجارية السهلة والاستهلاكية التي لامازالت تمارس بدرجة أكبر بعد الحرب.

          يبدو المحترف اللبناني، وكأنه الحاضنة الطبيعية للذائقة «الانطباعية» وفردوسها المتوسطي المحتدم بالألوان المشعة، وذلك بصيغة وتاريخ مبكر متزامن مع سبق القاهرة.

          وتعتبر مدرسة بيروت النموذج المتوسطي الثاني بعد «مدرسة الاسكندرية»، وهو ما غذّى «الباليتا» اللبنانية بالمقامات اللونية المشعة وبباقة الصباغات المشحونة بالشمس، مثالها عبقري الألوان صليبا الدويهي في مرحلته الاستهلالية في مناظر جبال الأرز وإهدن وبشرّي، هي المسطحات الموسيقية التي قادته إلى تجريده «المنمالي» في الستينيات في نيويورك. يؤكد هذه الذائقة المعلم الأحدث شفيق عبود بتجريداته الغنائية، هي التي تشبه المقاطع المجهرية المبكرة عن المنظر الانطباعي. من الملاحظات العابرة التي تهدينا إلى سبق لبنان ومصر المبكر لقيادة «النهضة» أن النحاتة سلوى روضة شقير كانت رائدة معاصرة للنحات «إتين مارتان» في باريس، ولم تكن بأقل منه طليعية حداثية في الأربعينيات، وأن الفنان اللبناني المعروف عمر الأنسي كان في الأردن في الثلاثينيات، أي قبل أن يتأسس المحترف على يد الثنائي المتعارض بين المعلمين: فخر النسا زيد ومهنا الدرّة.

          علينا أن ننتظر حتى الخمسينيات لنعثر على المناظر الانطباعية في بعض دول الخليج مثل «جماعة المنامة» كالعريضي والسني وناصر اليوسف، الذين تأثروا بفناني الجاليات الأجنبية قبل أن يبلغوا حساسيتهم البحرية الخاصة والمرتبطة بأساطير صيد اللؤلؤ وملاحمه وأهازيجه في أعراف استقبال صياديه بعد الغوص، وهيئة المراكب (على غرار المحرقي ومجاميع محفورات اللينوليوم لناصر اليوسف بعد فقده لبصره). تمثل تجربة الشيخ راشد آل خليفة التراث الفردوسي الانطباعي، سواء في اختيار الألوان والموضوعات أم من خلال الرفيف والأداء الضوئي المرتجف. تنسحب هذه الذائقة اللونية الموسيقية على العديد من فناني البحرين وصولاً حتى التجريدية الغنائية لبلقيس فخرو.

          سينحدر مستوى الانطباعية وبتاريخ متأخر ضمن أسواق الخليج ليقتصر على المناظر البيئية الاستهلاكية التي تزاحم بضائع الحروفيات والعناصر التراثية السياحية.

          من الغريب أن يثابر بعض معلمي الانطباعية بهذا المنهج حتى يومنا هذا بعد انقضاء أكثر من مائة سنة على أقطابه، وعلى رأسهم كلود مونيه في فرنسا، والتناقض هنا يقع في أن هذه الطوباوية التي تجد في الطبيعة ملاذًا روحيًا وإبداعيًا لم تعد تصلح اليوم لهذا الدور بعد أن دُمّرت العناصر الطبيعية، وتلوثت الأنهار والأشجار، وقطعت الغابات واجتثت آلاف الأجناس الحية «خاصة الحيوانية»، وهو ما يفسر تحول هذا التيار إلى حداثة التجريد سواء الغنائي منه «خاصة في المحترف اللبناني» أو الحروفي (خاصة العراقي منذ «جماعة الاستلهام من الحرف» التي قادها عربيًا شاكر حسن آل سعيد ليترجمها محليًا إلى «جماعة البعد الواحد»).

          تمثّل الانطباعية إذن حجر الأساس في الحركة النهضوية ولكنها لا تحتكرها. لو عدنا من جديد إلى المركز: «مصر: نهضة النموذج» لوجدنا أنه لا يعادل أصالة التراث الفرعوني - القبطي - الإسلامي سوى قوة شكيمة مواهب تأسيسية مثل مختار وراغب عياد وناجي ومحمود سعيد. قد يمثل هؤلاء بمنهجهم الفني التوليفي جوهر الصبوة النهضوية، هي التي تقيّم توازنًا أو لقاحًا شرعيًا بين الأنا الثقافية والآخر، ما بين جنوب المتوسط وشماله المتفوق تقنيًا واقتصاديًا وانفتاحًا فكريًا. تبدو عقائد راغب عياد الفنية نموذج النموذج في هذا المقام، فتكويناته التي تستخدم لوحة الحامل الغربية وموادها المنقولة، ترسم حركة الشخوص في الفراغ بطريقة «تنزيهية» وفق مسار موازٍ للوحة إلى اليمين والشمال وليس إلى الأمام والخلف كما هي تقاليد الفن الغربي، يحقق بذلك الاستمرار في الموروث الصوري الفرعوني والقبطي الإسلامي، بتخليص الشكل من نواظم الظل والنور والمنظور والمصدر الأحادي في الضوء، فالأشكال مقصوصة دون حجم أو كتلة أو بعد ثالث «أو تكاد».

          سنعثر في العراق على موهبة فذة رديفة تأخر ظهورها عقدين، وهي تجربة التصوير والنحت لدى جواد سليم. تعتمد على التوليف الغربي الرافدي - العربي نفسه، خاصة أنه اكتشف إمكانات تصوير المخطوطات العباسية، خاصة النقاش محمود بن سعيد الواسطي في رسوم «مقامات الحريري» «منجز في القرن الثالث عشر الميلادي»، ولاشك في أن النحات الكويتي سامي محمد يعتبر النموذج في التطرف النهضوي والخلاص التام من أعباء التراث وضرائبه الفنية والضميرية. يندمج نحته في حساسية شمولية عالمية لا تفرق بين ذاكرة الشمال والجنوب المتوسطي.

          إذا كنا نقيس بمقياس تقريبي ظواهر النهضة بوصول تقنية «لوحة الحامل» «المسند» الغربية وتقنيتها بالألوان الزيتية والفراشي التقليدية، فهذا يعني في الوقت نفسه ضرورة مراقبة تواريخ افتتاح كليات الفنون وفق الترتيب التالي: القاهرة وبيروت ثم بغداد، فدمشق عام 1961 بقرار سياسي في أواخر عهد «الوحدة»، وعلى نموذج كلية فنون القاهرة، من الاستثناءات التي لا يعني تأسيسها، أي استقلال نهضوي نجدها في المغرب العربي منذ الثلاثينيات والأربعينيات أي خلال فترة الاستعمار الفرنسي، واحدة في وهران «الجزائر» والمدرسة الثانية في تطوان «المغرب»، ولا ينكر أن الثانية تشكّل في المغرب اليوم تجمعًا يملك حساسية متمايزة. درجنا على اتهام وصول اللوحة إلى محترفات الخليج متخلفة نصف قرن عن نظائرها المشرقية، ولكن الدراسات الميدانية تثبت عدم دقة هذا التفاوت. فإذا كانت لوحة الحامل الانطباعية وصلت سورية في الأربعينيات، فإن مناظر «جماعة المنامة» ابتدأت منذ الخمسينيات، أي بعد عشر سنوات فقط. يؤكد الرضوي أن اللوحة وعروضها وصلت جدة قبل الستينيات علمًا بأن معرضه الأول فيها كان عام 1962 دون حساب سنوات دراسته في القاهرة إلى جانب معاصرته صفية بن زقر والثالث محمد السليم، الذي أسس مثل زملائه في الوطن العربي لتيار الحروفية، والتي سمّاها بالآفاقية. نصل هنا إلى الشق الثاني من البحث.

3- الصراع بين التعبيرية والحروفية

          أحب أن أذكّر القارئ من جديد بأن المبالغة في تعميم أي من هذه التقسيمات سيقع حتمًا في التعسف، لأن تاريخ الفن العربي خلال نصف قرن يحتاج إلى مكتبات بحوث. فإذا كان الصراع بين التعبيرية والحروفية واقعًا تاريخيًا يعكس التنافس الفكري بين النوازع القومية والدينية، فهما التياران اللذان عانيا من الأمراض الأيديولوجية نفسها. فقد ابتدأت التعبيرية كرد فعل على الانعكاسات والجروح الحضارية التي سببتها نكسات الكرامة في هزائم الحروب من ذاكرة 1948 وحتى 1973 مرورًا بهزيمة يونيو 1967، واجتياح لبنان وسواها. ولكن هذه النزعة انتهت إلى التشنج الخطابي الحزبي أو العسكري، كذلك شأن الحروفية. فإذا كانت انطلاقاتها العرفانية انتهلت من التراث الصوفي للحرف كما نظر له كل من شاكر حسن آل سعيد وبلند الحيدري، فقد تهاوى مع العقود التالية في المباركات الرسمية والاستهلاكية، وصعد على أكتافه نجوم بعضهم ذو ثقافة فرانكوفونية يكتب من اليسار إلى اليمين، ولا يحمّل نفسه صبر التدرّب على الأصول في الطرز والأقلام، حتى خرج التعريف النقدي الذي لا يخلو من خفة غير بريئة بأن الحروفية تمثل استثمار الخط العربي بمعزل عن ذاكرة طرزه وخطوطه. فإذا رسخت التعبيرية صورة الإنسان العربي بمعزل عن ذاكرة طرزه وخطوطه. فإذا رسخت التعبيرية صورة الإنسان العربي أو الشهيد مشخصًا، فقد أخرست الحروفية هذا النوع من التصوير لمصلحة التجريد التعويذي أو الاستهلاكي، الذي يرضي مودة «وهم التحريم» الأصولية، والذي شاع أخيرًا بين العامة.

          سجلت أولى بوادر التعبيرية في مصر التوليف الأصيل بين مخزون الصور الفرعونية القبطية الاسلامية، فكان ثمرتها في الفترة الناصرية معلمين أصيلين بمستوى حامد ندا وعبدالهادي الجزار ثم اختلطت هذه التعبيرية الأسطورية بالتعبيرية الملتزمة كالتي مثل ذروة احتداماتها جواد سليم ومصورو الشتات الفلسطيني ابتداء من مصطفى الحلاج وانتهاء بتيسير بركات، وظل المحترف اللبناني في منأى عن هذا التوجه المسيّس ما عدا أمثلة نادرة مثل رفيق شرف.

          يتناسل عن التراجيدية العراقية حساسية بعض التعبيريين القديرين في الخليج من أمثال عبدالله الشيخ (في السعودية) وإبراهيم بوسعد (في البحرين) وذلك بسبب دراستهما في كلية فنون بغداد بعكس جبار الغضبان الذي نقلت موهبته حساسية الغضب التعبيري في الحفر والطباعة السورية بسبب دراسته في كلية فنون دمشق. مع الانتباه إلى استقلال بعض المعلمين الموهوبين في التعبيرية الخليجية عن شتى هذه المصادر من أمثال قطان (الكويت) وناصر اليوسف (البحرين) وأيوب ملنج (عمان) والفتيح (اليمن) وعبدالقادر الريس (الإمارات)، ويوسف أحمد جاها (السعودية).

          وإذا وقعت نهاية الموجة التعبيرية في إرهاق اللوحة بالمضامين والتشنج الخطابي فقد وقعت الحروفية بدورها بحشو العبارات العاطفية الدينية أو القومية. يسعى الطرفان في بعض الحالات المبتذلة لاستجداء مصداقيتهما الإبداعية من هذه الأختام ذات الدعاوى الأخلاقية أو الضميرية، للتعويض عن القصور الفني.

          لذلك، فإن أبرز الحروفيين هم الذين يغلبون دور الأداء اللوني أو الجرافيكي أو سلوك الفرشاة أو القصبة على المعنى. لنتأمل شبرين (السودان) ومحمود حماد (سورية) وسمير صايغ (لبنان) وشاكر حسن آل سعيد (العراق)، والسليم (السعودية) حتى ندرك أن انطلاقة الحرف العربي في اللوحة كانت بريئة عما آل إليه المنال من نمطية استهلاكية تباع بالجملة في أسواق الفولكلور.

4 - ما بعد الحداثة:

          وصلت وسائط ما بعد الحداثة «ما بعد السبعينيات» الأوربية متأخرة عقدًا أو عقدين، وكان السبق في الحماسة لها في محترفات الخليج، وكأنها تعوض تأخرها النهضوي عن بقية المشرق العربي، تتمثل هذه الوسائط في الخروج عن السطح التصويري، ورفع الحدود بين أنواع الفنون بحيث تسمح هذه الحرية الأدائية بالمزج بين التصوير والنحت عن طريق «الإنشاءات» والعناصر المسبقة الصنع، ودمج المسرح بالتصوير عن طريق طقوس «البرفورمانس» المسجلة بالفيديو أو التي تجري بحضور الجمهور لمرة واحدة، أو الاستعارة من مادة الصورة السينمائية ووقائعية الفيديو، وصولاً حتى المفاهيمية التي تصنع النظرية النقدية في أفضلية على المختبر البصري، وصولاً حتى أبعد هذه الوسائط التي استخدمتها المحترفات الأمريكية «اللاند آرت» «فن الصحراء» أو «البادي آرت» فن الجسد، إضافة إلى ظهور «المنمالية» وبعض تطبيقات «البوب آرت» وهكذا. لا شك في أن هذا الاختيار التعددي أوقع الفنانين العرب في الاستعارة المباشرة من النتائج الجاهزة حتى حدود التقليد. وساعدت توجّهات «البينالات» العربية والقاهرة والشارقة للترحاب باستقبال تطرفات الفن المعاصر منها، قبل أن ينضج نسبيًا مفهوم الفن الحديث الموازي.

          بالقدر الذي توثبت فيه مستقبليًا هذه المغامرات على تعددية درجات النقل فيها، بالقدر الذي نحس فيه بأن التطرف باتجاه العالمية يرسخه رد الفعل على انطوائية الأصولية، يفقد في شتى الحالتين تعريف العمل الفني إحدى كفتي التراجح فيه باعتبار أنه يمثل «شهادة في المكان والزمان»، في الحالة الأولى يقف ذاكرة المكان وفي الحالة الثانية تنقطع فيه الصلة مع مجريات العصر بما يحمله من جحيم «إيكولوجي» مرتقب، فانفجار تشرنوبيل مثلاً ترك علامة صريحة في هذه التيارات، ولكنه لم يكن بالنسبة إلى الفنانين العرب سوى استهلاك لنتائج جاهزة في ألوان الشعشعة الاعتراضية، وهكذا بدلاً من أن يمثل تجربة معيشة، تقوم عالميتها على الإضافة بدلاً من الاجترار والنقل الببغائي.

          تبرز في هذا التردّي المراهق العام أسماء ونجوم ومعلمون استثنائيون مؤسسون في هذا المجال يملك بعضها سمعة واعترافا عالميين، من أبرزهم في الخارج منى حاطم (لبنانية فلسطينية مقيمة في لندن)، تعتبر عالميًا الأشد تحريرًا لواسطة الفيديو واستثمار خصائص الصمت، والفواصل الإيمائية فيها، هو شأن اللبناني نبيل نحاس الذي توصل في محترفه الأسترالي ثم النيويوركي إلى أنماط من التجريد الملون ذي النحت الغائر وفق حساسية «سبرنية» مما أسس لاتجاه «الفراكتاليزم»، ثم الفسلطينية آمال عبدالنور في باريس التي اكتشفت تطيبيقات في شبحية جسدها المسجل في الكوبيربروف (ناسخة الفوتوكوبي) ميدانًا تجريبيًا لتيار «البادي آرت».

          وكذلك العراقي مهدي مطشّر الذي اتخذ عقيدة المنمالية ليشحنها بصوفيته المشرقية، فهو من أبرز تلاميد شاكر حسن ومدرس في البوازر في باريس.

          يتفوق المغربي محمد القاسمي على الجميع بأصالة أدائه الكوني الذي يتراوح بين السطح التصويري لفن الكهوف والإنشاءات الفراغية والبرفورمانس، يملك احتدامًا تراجيديًا انفجاريًا خاصة في سنوات مرضه الأخيرة.

          يبرز في الداخل فيصل سمرة (سعودي - بحريني) بخصوبة تجاربه وتنوعها، تبدو أبرزها التي تجمع النحت مع التصوير، تحوم أداءاته المتباعدة حول موتيف جوهري لا يفارقه يشبه المشيمة (الحاضنة العضوية)، ويستقل أنس الشيخ (البحرين) في عروضه المفاهيمية المسجلة بالفيديو. شغلت هذه التجارب على الأغلب فناني الشتات الفلسطيني، مثل سليمان منصور، فهو يصوّر بالطين الجاف المتآكل، وكذلك حركة الإمارات العربية المتحدة، مثال عبدالله إبراهيم من أبرز ممثلي اللاند آرت. كما أن هناك بعض التجارب المصرية الناضجة، خاصة في الإسكندرية كتراث أصيل لمختبر عفت ناجي التجريبي، وصل حتى جيل الداوستاشي عبورًا بمومياءات المعلم فاروق وهبة، دون أن ننسى تجارب القاهرة من أمثال أحمد نوار وسواه.

          يحتكر أحمد معلا في سورية خيانة السطح التصويري دون أن ينقطع عن ممارسته، مستخدمًا أشد الأداءات توليفًا من النحت الطيني العابر المسجّل بالفيديو، إلى تحريفات البرامج المعلوماتية عابرًا إلى الإنشاءات المجسمة كما تحتكر سهى شومان في الأردن مختبرها الآند آرت المستقى من جغرافية البتراء.

          عادت أخيرًا نوازع الحفاظ على السطح التصويري والاقتصار في حساسية ما بعد الحداثة على طريقة التعبير، وهي غالبًا موازية لآخر «التعبيريات المحدثة» و«التشخيصيات المحدثة»، نجدها مزدهرة في المحترف اللبناني ابتداءً من فاديا حداد وانتهاء بشوقي شوكيني، الذي أعاد للنحت ما بعد الحداثي نبل الحجر المباشر.

          تنزلق من الذاكرة أسماء وتجارب أصيلة بالمئات في هذا الحيز المبتسر من التوثيق والإحالة هنا إلى عشرات الدراسات التي كتبتها وحاضرت بها حول هذا الموضوع، إضافة إلى ثلاثة كتب أبرزها: «صدمة الحداثة»، مما يؤكد من جديد أن ما تعرضت له لا يعدو مدخلاً مختزلاً يحاول رسم نقاط علام حركة التشكيل على خارطة الوطن العربي خلال نصف قرن، ابتدأت كما رأينا بنهضة بداية القرن العشرين وانتهت اليوم بعالمية ما بعد الحداثة عابرة فوق جسر مفصلي مرتبط بأنماط التعبيرية العربية بما فيها الملتزمة، والتي ولى عهدها إلى غير رجعة.

 

أسعد عرابي   
 




فلاحة تمثال للنحات محمود مختار (مصر)





ليله الحنة جواد سليم (العراق)





النازحون فاتح المدرس (سورية)





زخارف - شاكر حسن - (العراق)





أحمد الشرقاوي - تكوين (المغرب)





حفر على ورق - أحمد نوار - (مصر)