شهادة في الشعر والحرب والمنفى.. تلك السنوات المرة عدنان الصائغ

شهادة في الشعر والحرب والمنفى.. تلك السنوات المرة

قبل 27 عاما, وكان عمري 21 عاما, واقفٌ في ساحة (العرضات) أتفرّس في وجه العقيد, آمر تجنيد الكوفة, الذي منحني الرقم 495545 ج م (جندي مكلف), ببدلة خاكية, وبسطال ثقيل كالح, لأجد نفسي بعد سنوات, مرميا على جبل ديركله, وبعد سنوات أكثر حلكة على سواتر الفاو, وبعد سنوات مرّة منكمشا في موضع ترقّّصه القذائف على ايقاعاتها المجنونة ذات اليمين وذات الخبب, وبعد سنوات مترملة ملتصقا إلى شاشة التلفريون, في الجنوب السويدي, أتتبع مسار القاذفات, وفي ذاكرتي تتراكض كل تلك السنوات النائحة:

(ويحك يا ننار, لقد هوت مقدسات أور, وذبح البرابرة شعبك. لقد تشرد القوم, وأصبحت أور خرابا - من (مرثية أور) 2000 ق.م)

أجمع تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضيتها تحت صفيح الثكنات والخنادق, وتلك السنوات العشر من شتات المنافي والتشرد وأطرحها مما تبقى لي من أيام, فلا أرى أمامي في المرآة سوى: (شيخ يتأبّطُ عكّازَ قصائدهِ.. متجها نحو البحرِ/ يتمرأى في صفحتِهِ الزرقاءْ/ فيرى في أعماقِ الموجِ/ ولدا في العشرين/ يتطلّعُ مبهورا/ في وجهِ المرآة.../ لا يدري الآنْ/ أيّهما كانْ..!?)

كأن قدري أن أعيش ثلاث حروب, دفعة واحدة, لتلاحقني الرابعة إلى منفاي البعيد..

أرفع رأسي إلى السقف متسائلا لأرى قطرتين تنهمران على خدي المتجعد كأنهما دمعتان من السماء.. (إن هذه الأرض, وتلك السماء, مزقتا قلبي بضيقهما. فلا تفضح أمرنا أيها السراج - جلال الدين الرومي)

أحاول الآن أن أوقف الذاكرة على مشهد أو قصيدة, فتتداخل الصور والأحداث, الدم والمطر, النساء والشظايا, النصوص والأصدقاء, الشعر والإسطبل, الصحافة والمنفى.

فلا أدري من أين أبدأ?

كأن قدري أن أعيش حياتي المتعثرة سلسلة مفارقات. وما الشعر إلاّ مفارقتها الأبهى والأصعب.. ذلك أنه هو الحياة في أقصى دهشتها وفنيتها ومفارقاتها, وهو لا يتمكن من ذلك إلا إذا استحال إلى نبض حيٍّ للإنسان, يعبر عن توقه وهواجسه وعذاباته وأحلامه السرية, متصاعدا بها إلى مصافِ الحس الإنساني - الإبداعي.. فالشاعر - كما أراه - جوّاب الآفاق ومدون الألم ومستشرف الأمل وملتقط المفارقات, في مروره العابر والمجلجل على رصيف الحياة..

ففي تلك المعاناة والتجارب الحية, وفي مفارقات (الواقع) يكمن جوهر (الشعر) وسحره الحقيقي وتحديه ولذته وعذابه, وكل هذا يحتاج إلى مهارة غير عادية لصهره وتمثله في اللغة, حيث يصبح للتماهي بين الواقعي والغرائبي هذا السحر الأخّاذ الذي يشدّك إلى الاستكشاف والمعرفة والتغيير, وهنا تتجلى قوة الشعر وبهاؤه.. ولا يتأتى هذا من القراءة فقط, رغم أهميتها الكبيرة, بل بالانغمار والانغماس في الحياة وتجربتها الباهرة.. كأن من يتعذب كثيرا يتعلم كثيرا كما يذهب ايزوب, أو كأن ما يعذب حياتك يُعذب كذلك أسلوبك في الكتابة كما يرى فلوبير أيضا..

أتوقف قليلا عند بعض محطات سيرتي, فأراني:

طالبا تحمله جموع الطلبة إلى باب متوسطة الكوفة, احتفالا بفوزه بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر لثانويات كربلاء والنجف والكوفة.. لكنهم بعد أن يخرجوا من الباب سيتركونه لوحده وينسلون إلى بيوتهم..

طالبا مفصولا من المعهد بسبب قصيدة تحتج على إدارة النادي رأوا فيها شبه تحريض على الدولة..

جنديا يتنقل بين المعسكرات والسواتر البعيدة. ويعيش لعامين في اسطبل مهجور للحيوانات..

جنديا يعمل محررا صحفيا في جريدة القادسية ومجلة حراس الوطن..

شاعرا تلاحقه جريدتا (بابل) و(الزوراء) وتضعه على قائمة المرتدين..

شاعرا تلاحقه بعض النصال والاشاعات والشتائم..

شاعرا يتسكع في أصقاع السويد, متأبطا منفاه ونشيده الملتاع وسخريته المرّة..

صديقي البغل

سأترك كل هذا الآن, وأحدثكم عن أغرب ما مرّ بي, سأحدثكم عن تلك المفارقة التي قلبت حياتي رأسا على عقب, سأحدثكم عن ذلك البغل المرقم..... (اللعنة!! ما أجحدني! وقد نسيت رقمه في زحمة تنقلاتي!).... إنه صديقي العظيم والطيب والباسل حقا..

لا تستغربوا أو تضحكوا, أرجوكم..

ذات يوم من نهارات الحرب الهادئة نسبيا, ألقى فوجنا الثالث أحماله, قريبا من سفوح جبل (ديركله), شمال العراق.. أغراني السفح المتماوج بينابيعه ونرجسه أن أحمل أوراقي تحت وطءِ قصيدة بدأت تدغدغ روحي المتربة بعد شهور من اليباس والشظايا. وجدتُ قدميّ تتحركان باتجاه السفح وتتوغلان بي بعيدا. وعلى مبعدة أمتار من أحراش عالية تحيط بنبع مترقرق سمعتُ أصوات الجنود والعريف تحذرني وتدعوني أن أعود فالأرض ما زالت بكرا بألغامها التي لم يجرِ مسحها أو انتزاعها بعد.. واصلت السير, غير ملتفتٍ لشيء سوى تموجات الماء بين الحصى والعشب..

بعد دقائق سمعتُ ورائي أصوات ركضٍ قوية, التفتُ لأجد ذلك البغل المسكين, فارا مثلي من اسطبله باتجاه النبع.. تجاوزني ثم تخطاني بقدميه المتراكضتين.. وما هي إلا لحظات حتى سمعتُ دويا مرعبا, وأراه فجأة وقد تحول أمامي إلى نافورة من دم ولحم وغبار, تصاعدت إلى علوٍ.. ووجدتني أسقط من هول الرعب والانفجار متدحرجا مع الصخور, وبعض من النثار يغطي أحجار السفح وملابسي, وعلى مبعدة من المكان انفتحت أشداق الجنود وعيونهم برعب في انتظار انجلاء سحب الغبار ليعلموا من منا الذي أنفجر فيه اللغم..

أنا? أم البغل?

(أن تكون شاعرا في عالم كهذا, يعني أن تحاكي شكله المتفجر في الحروب - شيماس هيني)..

هذه المفارقة المهولة وغيرها, ما زالت - للآن - تخلخل حواسي وكياني كله, وتفرش نصوصي بأمطارها الحامضة.. وتذكرني أن حياتنا هي مجرد صدفة في صدفة, أو بعض مفارقة, أو هي (ظل يمشي) - كما وصفها شكسبير -..

كان عبث الموت يتداخل بعبث الحياة, والأرض بحيادها الشاسع تسخر منا بمرارة, وهي تبتلع المزيد من أشلاء قتلانا وقتلاهم في تلك الحروب المجانية, باذخة السخف والموت, والساخرة أيضا من جشع جنرالاتنا وجنرالاتهم وهم يدفعوننا بقلب بارد إلى الرصاص والنار كأحطاب يابسة, ليزداد وقودها من أجل غنيمة أو وسام مجد زائل أو نزوة أو مصلحة غلفوها بالشعارات الوطنية والقومية والدينية, لتقف الأمهات طوابير في انتظار عودتنا: جنائز أو معوقين أو ناجين..

لقد سُميت حرب الخليج الأولى - الحرب العراقية الايرانية - وقتها - بالحرب المنسية, وقد سكت أو انشغل عنها الجميع وبقينا وحدنا هناك - نحن الجنود, أحطابها المهيأة للوقود - نلوب على السواتر البعيدة طيلة تلك السنوات الثماني (1980- 1989). أمامنا الموت والرصاص, وتحتنا رفات من سبقونا, وخلفنا لجان الإعدام, وفوقنا سماء من دخان وشظايا لا ندري عما ستنجلي.. لم نر صحفيا أو محطة تنقل خرابنا الحقيقي. أطراف سياسية كثيرة, دولية وعربية, وقادة ومفكرون ومثقفون وشعراء وفنانون كانوا يأتون للبلد ولم يكن يهتم بنا أحد, وقد غضوا طرفهم عما يجري هناك, بدوافع شتى: قومية واقتصادية ومذهبية وشعاراتية.. والخ, وكنا نموت ونتعفن وندفن بصمت..

كانت مواسير البنادق في بلدي أكثر من مواسير المياه الصالحة للشرب..

وكان ثمة لونان سائدان في الشوارع هما: الأسود والخاكي..

وكانت أيام الحرب هي الأيام العادية وأيام السلم هي الاستثناء..

وكانت صور ولافتات الشهداء تنصب في زقاق أو محلة ثم لتطوى وتنصب غيرها, في مكان آخر, على مدار الأعوام الثمانية.. وقبل أن يتيبس التراب على رفات من سقطوا في الجبهات أو ينمو العشب على ذكراهم, وقبل أن يكتمل قدوم أسرانا من ايران, قام دكتاتورنا المتهور بغزو الكويت, لتندلع حرب الخليج الثانية, ثم ليلفنا حصار طويل ومرير على مدى ثلاثة عشر عاما (المدينة المحاصرة تشبه الإنسان في أيامه الأخيرة - أراغون).... ثم لتندلع الحرب الثالثة, ويسقط الصنم من تمثاله في ساحة الفردوس ليرى العالم حشدا من المقابر الجماعية, تفتح أشداقها على امتداد الوطن, صورا لجماجم وأكوام عظام وثياب ممزقة في أكياس يحملها آباء واجمون وأمهات شاحبات مخمشات الخدود..

وإذا كان الشاعر رامبو يرى أنه (يجب خلخلة الحواس. بعد هذا تستطيع أن ترى ما لا يرى), فقد صبغت تلك الخلخلة الجنائزية مفردات حياتنا ونصوصنا, وأرتنا عوالم لم يكن لنا تخيلها أبدا حتى في أسفل طبقات جحيم دانتي أو رسالة الغفران للمعري أو روايات الحرب التي قرأناها هناك من (إلياذة) هوميروس, حتى (الحرب والسلم) لتولستوي, مرورا بـ(الساعة الخامسة والعشرون) لكونستانتا جيورجيو, و(كل شيء هاديء في الميدان الغربي) لأريك ماريا ريمارك, و(صمت البحر) لـ(فيركور).. والخ..

كان دافع القراءة والكتابة بالنسبة لي يشبه دافع الحياة أو دافع الحب أو دافع الشهيق والزفير, إنه - بكل بساطة - طبيعي ومعقد في آن, وكان لابد منه تحت أي ظرف كان..

ديواني الأول

في بداية الحرب, أو بدايات النشر, سأنسل من المعسكر في شاحنة طويلة كانت متجهة إلى بغداد, مندسا بين أكياس الرمل وصناديق العتاد, حاملا مخطوطة ديواني الأول (انتظريني تحت نصب الحرية)..

كنت شاردا أتغرغر بحلم عشريني مسكر أنني إذا ما متُّ في أي لحظة, أو شظية, فإن ديواني هذا سيعيش بين أيدي القراء وتحت وسائد القارئات الجميلات, مستذكرا حسرة السياب الأزلية:

(ديواني شعري ملؤه غزل

بين العذارى بات ينتقل)

وصلت إلى شارع الجمهورية حيث دار الشئون الثقافية العامة وفيها كانت الموظفة البدينة بعينيها العسليتين تتأمل مخطوطتي وسحنتي الشاحبة ثم تنحدر إلى بسطالي المغطى بالطين, وهي تحاول جاهدة إخفاء ابتسامة إشفاق أو سخرية,.. لا أدري?

تركتُ مخطوطة ديواني على طاولتها المكتظة وعدتُ أدراجي, لتقودني قدماي إلى شارع المتنبي وسوق السراي حيث الكتب والعابرون ورائحة الورق تثير شهيتي, منحدرا باتجاه مقهى البرلمان حيث صخب الأدباء ونقاشاتهم المتواصلة والمتعالية رغم بيانات الحرب وزعيق الأناشيد وطقطقات الدومينو, ووجدتني بين الخجل والتردد أدون أول نصٍّ لي هناك بلغة مباشرة واضحة وربما جارحة

.........

وذات يوم وأنا متمدد علي يطغى الزنخ في ذلك الاسطبل (الذي صار عالمي وسجني) جاء أحد الجنود هارعا وهو يمسك بجريدة متسخة وجدها في حاوية الأوساخ: أهذا أنت يا رجل?

نظرت إلى الجريدة, كانت صورتي وسط مقالة طويلة كتبها الناقد المعروف عبد الجبار داوود البصري عن مجموعتي تلك (انتظريني تحت نصب الحرية)..

ياه.. طرت من الفرح, ثم اصطدمت بسقف الصفيح الوطيء. كانت هي أول مقالة أقرأها في حياتي عن أول ديوان لي...

لكن أين أنا الآن?...

ودون أن أدري اتكأت على كوة الاسطبل وانهمرت ببكاء مرٍّ..

السير في حقل الألغام

كيف تسنى لي أن أخرج من تلك الأوحال والأسلاك والحروب, بحلمٍ غير معطوب, وقلم غير مسلوب, إلى آخر تلاوين السجع, وما يحمله من إيقاع كأنه الأنين, وقد عشت المشهد برمته, فاتحا عيني على اتساعهما, لأرى كل شيء آخذا باستشراف الرائي الأول كلكامش, أبي الأول (الذي رأى كل شيء.. وخبر البلاد), وبهوس ابن المقفع الذي كان يرى أن رؤية الأسد (تُجرّؤكَ) عليه, قبل أن ينتبه الرقيب العربي الأول إلى سحر التورية وفعلها الجريء في خطاب (كليلة ودمنة), فيلقي به في تنور مسجور..

آخذا باندفاعة المتنبي وشطحات النفري وعربدة أبي نواس وخشبة دعبل..

باشراقات رامبو, بزيتون لوركا, بعبث سافو, بسونيتات شكسبير, بعشب والت وايتمن, بتموجات سان جون بيرس, بتلويحات كافافي..

منساقا, عنوة, للسير في حقول الألغام, تلك التي تعلمتُ منها الكثير في الحياة والكتابة على وجه الخصوص رغم ما خسرته من مكابدات وليالٍ ممضة تقلبتها على جمرات الأرق والقلق..

واليوم أجدني استرجع تلك المسالك المهولة التي أخذت الكثير من أصدقائي:

من اعتزل, أو اغتيل, أو تشرّد, أو سقط..

سائرا مع القلة الذين واصلوا بالشظف والمكابدة ذلك الطريق الأبهى, ماسكين بالجمرة أو الشعلة إلى النهاية, كأنني أتنهد تلك المقولة: (آهٍ, من قلة الزاد, وبعد السفر, ووحشة الطريق).

ثم أستدير إلى قبر علي الرماحي وأغص بدمعي وأقول له: كيف اختصرت المسافة بين القصيدة والشهادة بهذه العجالة.. وظل دمك لوحده بيننا يكتب ويضيء..

أستدير إلى قبر حميد الزيدي, وضرغام هاشم, وعبد الصاحب البرقعاوي, ومحمد عباس الدراجي, وعزيز السيد جاسم, ومحمد حسن الطريحي, وحاكم محمد حسين, حسن مطلك..

وقائمة الذبح والأنين تطول..

وأراني, في تلك الأيام المنقبضة هناك, وحيدا ومنكمشا (في العراءِ المسجّى على وجههِ), أقلّب مرتجفا, (بريد القنابل), وأعجب كيف (خرجتُ من الحرب سهوا)

..............

كيف تسنى لي أنا أبن الكوفة الغافية بظمئها الطويل على ضفاف الفرات أن أخرج من مخاوفي وأصرخ - ذات يوم من عام 1993 على مسرح الرشيد في بغداد - على لسان عبود, بطل مسرحيتي (الذي ظل في هذيانه يقظا):

(شققني عطشي في بلاد المياه)..

ثم أنسلُّ بين الجمهور المحتشد تاركا زفراتي الأخيرة:

(وداعا بلاد المجاعات والنفط)

قبل أن أغادر القاعة أو الوطن بشهور قليلة.

كأني أستعيد حكاية عود الفارابي الذي أضحك الملك وحاشيته وأبكاهم ثم أنامهم جميعا وانسل من البلاط..

هل يملك الشعر هذه القدرة الساحرة, على تنويم رقيبه أيضا?

.................

في بواكيري الأولى عام 1976 سأذوق لوعة الفصل من الدراسة بسبب قصيدة كتبتها وتناقلها الطلاب, ويموت أبي - المعلول بالسل والديون والطيبة - على سريره في مستشفى الكوفة, متأثرا بالحادثة.. لأذوق بعدها مرارة التشرد والخوف والحرمان..

وفي عام 1979 سأذوق مرارة الفقد, بعد إعدام صديقي المدهش علي الرماحي بسبب قصائده التي تناقلتها ألسنة المنابر والناس..

هذه الصور, وغيرها, المحفورة بالألم والخوف حملتها معي لسنوات طويلة في دوامات الرعب.. كانت تتقافز أمامي, ومعها روحي اللائبة لأقل هزة وأقل (طرقة ليل). وما أكثرها في وطني..

(أقلّ قرعة بابٍ
أخفي قصائدي - مرتبكا - في الأدراج
لكن كثيرا ما يكون القرع
صدى لدورياتِ الشرطةِ التي تدورُ في شوارعِ رأسي
ورغم هذا فأنا أعرفُ بالتأكيد
انهم سيقرعون البابَ ذات يوم
وستمتدُ أصابعهم المدربةُ كالكلابِ البوليسيةِ إلى جواريرِ قلبي
لينتزعوا أوراقي و..... حياتي
ثم يرحلون بهدوء)

وقد انطبعت تلك الأيام والصور المريرة في ذاكرتي, لأتعلم منها أول الدروس وأقساها: أن للكلمة مفعولها السحري, لكن لها أثمانها الباهظة..

ولأرى أمامي ثلاث طرق أو أربعا.. (وأيا كنت يا طرقي فكوني نجاة أو أذاة أو هلاكا):

- أن أهرب من بلادي (ولأنني لم أكن أملك وسيلة أو سندا, ألغيتها من قاموس رأسي)

- أن أسكت للأبد..

- أن أقامر برأسي..

- أن أستعين بفن الخطاب المستتر.. ووجدتُ في هذا الأخير إغراء في المغامرة والتحدي والإبداع معا.. خاصة وأن مقص الرقيب الحديدي لم يكمن يترك لنا أقل فسحة لنطل برءوسنا الضاجة خارج ما هو مسموح به..

كانت الكتابة فيه تحتاج إلى مهارة وبراعة كبيرتين.. وكان الأسلوب التأويلي الذي تعتمده, مجترحا من طبيعة الواقع والفن, شكلا ومضمونا, يأخذ من اللغة بهاءها الآسر وسطوعها, ومن اشكاليات الواقع حذره وشكله وشكه وتمويهاته, (كما تكون الحياة كذلك يكون المبنى - كوليردج) ووجدته أكثر استيعابا لقلقي وعصري, ووجدتني أكثر قدرة على تطويعه لتحميله ما أريد..

هذا التمويه الفني لجأ إليه بعض شعراء الداخل, كان عاملا مهما لتجاوز الخطوط الحمراء الكثيرة والواقع البوليسي الذي كان يخيم على كل شيء في الوطن, ليس في مجال الشعر فحسب بل في مختلف الفنون والآداب وشئون الحياة الأخرى, فكنا نجد فيه متنفسا تعبيريا وفنيا وحياتيا..

لكنه من جانب آخر, جر علينا ما جر من وشايات المخبرين والأدباء الفاشلين - في الداخل - (كنا نعرف الرقيب ونتحايل عليه, ولكن الجديد في الكتابة اليوم أننا لم نعد نعرف من يراقب من, وما المقاييس الجديدة في الكتابة - أحلام مستغانمي), و - في المنفى - أخذ منه بعض المزايدين, على عذاباتنا, سطحه الظاهر ونسوا أعماقه التي تمور بالغضب والوجع والاحتجاج.. (اتركونا أحرارا عندما يتعلق الأمر بالكتابة - ميشيل فوكو)..

وبين أُولئك وهؤلاء, (رقباء الداخل) و(تجار الخارج), كنا عصيين عليهم, خارجين على تفسيراتهم وتقسيماتهم الأدبية الأيديولوجية, مستوحدين في القصيدة, ملتصقين بوجع الناس وهموم الوطن..

(الفاشيون
والشعراء المخصيون
يقفون..
على طرفي حبلٍ,
معقودٍ في عنقي
و يشدونْ)

لكن يمكن القول إن هناك العديد من الأدباء والفنانين الصادقين والمبدعين كانوا لنا سندا بهيا ومتينا ساعدونا على تخطي تلك الأيام الممضة, ووجدنا في المنفى مثلهم الكثير, تعذبوا وتشردوا لأنهم كانوا مبدعين وصادقين مع فنهم وأنفسهم وقد وجدنا فيهم المرفأ والواحة..

جيل المنفى والانتظار

أنا من جيل شعري في العراق سمي (جيل الثمانينيات) أو (جيل الحرب), أو (جيل الظل), جيل نشأ في بداية الكارثة, وكبر وشاخ فيها, عشنا الخراب والدم والقمع والحصار والغربة, منفيين في الوطن أو شهداء على لائحة الانتظار.

وفي خضم ذلك الواقع البائس واليائس, كنت أرى في النص الحر الجميل المبدع, جسرا ضوئيا إلى الإنسان والحرية والحب.. بل وفعلا ثوريا وجماليا أكثر مما يفعله بعض السياسيين والأحزاب والتجمعات..

ومن جانبٍ آخر كنت أرى فيه الرد الحقيقي على الفاشيين والظلاميين أو المزايدين والموهومين أو السماسرة.. (غاية الأدب هي أن لا يطلق الغبار بل الوعي. - وول سوينكا), منتبها أيضا لمقولة لوكاش: (قد تخطئ حركات وأحزاب ولكن على المثقف أن يرفع صوته عاليا بوجه هذا الخطأ)..

لقد عمل جنرالات الحروب وتجار السياسة والعقائد على تغييب الوعي ومن ثم غيبوا الإنسان ثم غيبوا الوطن.. وهذا الغياب المقصود هو الذي أطال في عمر الدكتاتورية وأتمنى أن لا يتكرر هذا الغياب ليطيل من عمر خرابنا واحتلالنا وشتاتنا..

لقد آن الأوان لنا جميعا للمراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر - لا من سلطة الرقابة على النصوص وحدها بل - من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في وطننا وعالمنا..

آن الأوان لإشاعة مفاهيم الحرية والوعي والاختلاف وتفعيل النقاش وتنشيط الأسئلة القلقة حول كل ما مر ويمر بنا, وكل ما يحيطنا.. حول مشكلاتنا التاريخية والمعاصرة, حول موروثنا وحداثتنا وإبداعنا..

إن الإبداع الحر هو الأكثر تعبيرا والتزاما بالإنسان من مفاهيم الالتزام التي دوخنا بها منظرو الاشتراكية والقومية والرأسمالية.. كما أن النص المبدع يحمل في نسيجه دائما ديناميت التفجير والتغيير..

وعلى هذا, لا يمكنني أن أنظر إلى المنشورات الإعلامية والقصائد الحماسية الآنية على أنها أدب خالص مهما أخلص كاتبوها لقضاياهم. هناك فاصلٌ دائما بين أدب الشعارات والإبداع..

فكثيرا ما تسعى السلطات أيا كانت وخاصة في بلادنا إلى تحويل الكاتب أو الفنان إلى مجرد بوق أو مهرج أو تابع, عليه أن يكون جاهزا تحت الطلب, فحين تتخاصم مع دولة أو فكر تريده أن يشتم تلك الدولة أو ذاك الفكر, قارعا معها طبول الحرب! وحين تتصالح تريده أن يمتدحها ويمجد السلام.. كذلك تسعى بعض المجتمعات الاستهلاكية لتحويله إلى مجرد سلعة..

انهم يحاولون توظيف الأدب لخدمة أيديولوجياتهم السياسية أو السلعية. وهنا نتلمس بوضوح خطورة الشاعر - أي شاعر - حين يتحول إلى ببغاء للشعارات والبيانات التي تُملى عليه.. ويطالب الآخرين أن يحذوا حذوه وإلا فإنهم عملاء أو خونة..

إن بعضهم يتعذب, يثور, ثم تروضه المؤسسة وينضم إلى قطيعها..

وبعضهم يخدرهم الخوف أو الوظيفة أو الشهرة, فلا يكاد يرى في مرآة ذاته أبعد من ذاته..

لكن الشاعر الحقيقي المتجذر بوجع الأرض والإنسان, حين يكون بركانا لا يهدأ, فإن أي شيء لا يستطيع إيقافه.. إنهم يستطيعون أن يقتلوا الشاعر جسديا إنهم يستطيعون تشويهه أو سلب حياته,.. لكن نشيده لن يتوقف أبدا.. وأمثلة التاريخ أكثر من أن تعد: من الحلاج إلى لوركا, قديما وحديثا, شرقا وغربا..

إن علينا أن نحرر الأدب من الدكتاتوريات المتوارثة عليه وإطلاق سراحه ليعيش حرا كما كان..

وعلينا أن نقف ضد القمع والظلم أينما وجد وليس في بلادنا فقط, مثلما يغض البعض طرفهم عن الدكتاتوريات التي يعيشون في كنفها في البلاد الأخرى وينقدون دكتاتوريات بلدانهم أو بالعكس. الظلم لا يتجزأ..

وعلينا أن نقف ضد كل عملية استغفال للجمهور وضد كل من يسعى إلى دفعه إلى مطحنة الحروب باسم الدين والوطن والثورية.

الثقافة العربية مهددة من الداخل والخارج معا, وهي معركة مستمرة ومتعددة تتنوع بين الاستبداد وحرية الفكر والتعبير والتعددية وسلطات التجهيل السائدة التي هي سلاح من أسلحة الأنظمة الحاكمة, وهكذا دواليك..

إن واجب الكاتب الثوري الأصيل أن يدافع عن استلاب العقل وغياب الحريات, فاذا لم تتكاتف معه كل القوى الشريفة والمتنورة التي تؤمن بقيم الجمال والحرية والحق لمواجهة ثقافة الظلام التي تشيعها الأنظمة الدكتاتورية وأتباعها من القوى الظلامية, فأن أجيالا قادمة ستنهار وتنتكس وتعاني, وسيكون حكم التاريخ علينا جميعا بأننا قد تخلينا عن مسؤوليتنا.

العراق الذي يبتعد

.. في يوم من أيام مهرجان الشعر العالمي في هولندا (1997), كنت أتمشى تحت نثيث الندى الخفيف في تلك الشوارع الهادئة من روتردام وأنا عائد من إلقاء قصيدتي. جلست أمام طاولة ووضعت العاملة ما طلبت من طعام. سرحت بعيدا إلى أيام الخنادق وجبهات الرصاص. جاء عصفوران جميلان وبدءا ينقران بهدوء من طعامي ويتناغيان ويتعانقان بأمان. تركتهما يفعلان ذلك رغم جوعي وبدأت أرقبهما وأنا أسترجع مناقير الشظايا التي كانت تنقر طعامنا وأرواحنا وأصدقاءنا. فجأة أخرجت ورقتي ووجدتني أكتب:

(العراق الذي يبتعد
كلما اتسعت في المنافي خطاه
والعراقُ الذي يتئدْ
كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ.. قلتُ: آهْ
والعراقُ الذي يرتعدْ
كلما مرَّ ظلٌّ
تخيلّتُ فوّهة تترصدني, أو متاهْ
والعراقُ الذي نفتقدْ
نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ..
ونصفٌ طغاهْ)
...

مندهشا وملتاعا - الآن - في الوقت نفسه..

كيف تسنى لهذا الوطن أن يعيش:

بين ملحمة كلكامش وصدام حسين

بين زقورات بابل وسجون الرضوانية

بين (أحنه مشينا للحرب) و(حييتُ سفحك عن بعدٍ فحييني)

بين (نصب الحرية) لجواد سليم, و(صور من المعركة)

بين أغاني ناظم الغزالي, وسياط علي حسن المجيد

بين قصائد حسين مردان, و(زبيبة والملك)

.............

كأني أرى حيوات أصدقائي تضيء في ذلك الليل البهيم, مشيرة إلى وميض نجمة في البعيد..

لكن أين أجدهم الآن: حسين حيدر الفحام, علي عبد الحسين, كاظم الخطيب, مضر علوة, حميد الزيدي, عبد الحي النفاخ, و.. و...

على أريكة معزولة في فندق القدس في عمان, أواخر أيام الروائي والكاتب جبرا ابراهيم جبرا, جلسنا معا ورويت له حكاية مرعبة بطلتها روايته (البحث عن وليد مسعود) التي استعارها حميد الزيدي من صديق أعدم ثم استعارها منه عبد الحي النفاخ قبل إعدام الزيدي واستعرتها من النفاخ قبل أن يجن وقد تركتها قبل سفري عند أحد الأصدقاء فارتجف جبرا رعبا (الأصعب ليس أن يموت المرء, بل أن يموت الذين حوله - كلهم - ويبقى هو حيا - تولستوي- من رواية (الحرب والسلم))

في تلك الأيام المرة, من سنوات الحرب الطويلة, أجد قلمي يتسلل في صحبة الاصدقاء,: الشاعران, عبد الرزاق الربيعي وفضل خلف جبر, والقاص اسماعيل عيسى بكر, والفنان التشكيلي كريم العامري, وأنا أدعوهم بهوس إلى جولة ليلية تسكعية بين حانات بغداد الصاخبة وملاهيها وفنادقها الفخمة, للقيام بعملية تحفيز للمخيلة وتمرين في الكتابة عن تلك الأجواء الخرافية التي كانت تتردد في أسماعنا معجونة بالمثير والكثير بالنسبة لنا - نحن أو الأدباء الصعاليك والجنود الذين لم نكن نرى أبعد من كراج النهضة أو العلاوي - (أمضيت حياتي في كتابة الشعر, أو الأصح في تعلم كتابة الشعر الشاعرة إميلي دنكسن - من حديث لها عن تجربتها في كتابة الشعر..), ننطلق بالمصعد الزجاجي إلى أعلى طابق في الشيراتون لنرى بغداد كأننا سوف لن نراها أبدا.. ثم فجأة صرختُ بهستريا: أغمضوا عيونكم.. لننطلق إلى كراج النهضة, نفتحها على مشهد الجنود يتدافعون إلى الباصات باتجاه جبهات الموت, وحيث وداع الآباء ودموع الأمهات والزوجات. وأمام باب مفرزة الانضباطية العسكرية ثمة توابيت ممتدة إلى مسافة ليست بالقصيرة, ومغطاة بأعلام عراقية تنتظر من يحملها إلى ذويها المساكين..

ثم لنكمل المشهد, في اليوم التالي......

وأنا هنا, في هذا المنتأى البعيد, استرجع ما مرّ بي بفم فاغر وعينين مغرورقتين بالمواويل والدموع, محاطا بهذه الثلوج التي لم تكن تخطر لي على بال.. (لندع الأفكار تنمو كأغصان الشجر, ولكن ماذا لو غطاها الثلج - الشاعر التشيكي أنطونين بارتوتشيل)

وأستذكر ريلكه في إحدى رسائله التي كتبها لشاعر شاب: (لا شيء فقيرا أمام المبدع, كما ليس ثمة أماكن فقيرة, لا دلالة لها, فحتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالم, أفلا تبقى لك دائما طفولتك, هذه الثمينة, هذا الغنى الملكي, هذا الكنز من الذكريات والانطباعات التي سالت على حوافها)..

الجندي المجهول

(استودع الله في بغداد لي قمرا بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته, وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه

بيتان من قصيدة لابن زريق البغدادي

ومساء آخر من ليل المنفى

وعلى الطاولة ورق وأغنية لم أعد أتذكر بقيتها تقول:

(مالي صحت يمة أحا جا وين اهلنه)

وتبدأ القصيدة...

براعمها تتفتح في روحي بكسل عذب تحت هذه الشمس الناعمة. تكبر, تستطيل أغصانها لتغدو غابة, أتذكر لحية الجندي القتيل على الساتر القريب ذات ظهيرة من سنوات الحرب, وأنا أراه من بعيد, من موضعي تحت الشمس اللاهبة, وقد أخذت لحيته الكثة تنمو وتنمو وتكبر حتى لتغدو غابة...

كنتُ قد نسيت تلك الصورة, في زحمة السنوات اللاهثة, ثم وجدتها تنبثق فجأة أمامي في سنوات حريتي الأولى في عمان (28/9/1993), أمام رجل عراقي يتوسد حقيبته ولحيته الكثة في الساحة الهاشمية, مستسلما لنوم عميق, تماما كأنه ذلك الجندي القتيل المسجى على الساتر.. ووجدتني أجلس في مقهى على مبعدة من المشهد أسطر تلك القصيدة بتلقائية عجيبة.. وأنهض بعد أقل من ساعة..

(الجندي, الذي نسي أن يحلقَ ذقنَهُ, ذلكَ الصباح
فعاقبهُ العريف
الجندي القتيلُ, الذي نسوه في غبارِ الميدان
الجندي الحالمُ, بلحيتهِ الكثّة
التي أخذتْ تنمو, شيئا, فشيئا
حتى أصبحتْ ـ بعد عشرِ سنوات ـ
غابة متشابكةَ الأغصانْ
تصدحُ فيها البلابلْ
ويلهو في أراجيحها الصبيانْ
ويتعانقُ تحت أفيائها العشاقْ
..........
الجندي.. الذي غدا متنزها للمدينة
ماذا لو كان قد حلقَ ذقنَهُ, ذلك الصباح)

بعد (نشيد أوروك), وفي أواخر أيامي في بيروت وأول أيام منفاي في جنوب القطب الشمالي, بدأتُ أشتغل على نص جديد مفتوح سميته (نرد النص), ربما يُعد استكمالا له, لكن بطريقة تناول جديدة ومختلفة.

رمال وثلوج

كيف يمكن أن تغير ذاكرتك التي تحمل أربعين عاما من شواء الشمس والرمل والحروب والمكابدات والقهر, لتتكيّف مع هذا الصقيع الذي يلفك من جهاتك الأربع في هذه المدينة الثلجية النائية النائمة على كتف القطب الشمالي..

هذه الهواجس كانت تعيش معي قبل أن أصل مدينة لوليو في شمال أصقاع السويد هاربا من ذلك الجحيم الذي جرّ بلدي والمنطقة الى سلسلة من الكوارث, وأنا لا أصدّق أنني سأتأقلم مع هذا المناخ الثلجي الذي تصل برودته الى 32 تحت الصفر, والذي تصبح فيه حرية الفرد أعلى قيمة في الوجود كتابة وحياة وسلوكا وتعبيرا ونظاما والخ, والخ.. أنا القادم من وطنٍ يمكن لأقل كلمةٍ لا تعجب الحاكم أن تأخذك فورا الى حبل المشنقة, وتغيبك عن الوجود في رمشة عين.

كيف يمكن إذن للكتابة أن تتكيف لهذا المناخ المفاجيء وتستوعبه: من أعلى درجات القمع, الى أعلى درجات الحرية.

من درجة حرارة تصل إلى 50 مئوية, إلى درجة برودة تصل الـ 32 تحت الصفر...

فإذا كان المنفى - أي منفى - يحمل بين طياته مناخا جديدا لتجربة جديدة لكنها من جانب آخر تشكل امتدادا أو تغييرا طفيفا على مستوى المناخ الذي يعيش فيه الكاتب بحيث لا يتعدى إلا بضع درجات في الحرارة أو... الحرية...

غير أن هذه التجربة المغايرة كليا قلبت معادلتي رأسا على عقب, في الأقل, على المستويين: المكاني والزماني, وما يتفرع منهما من وصف وحداثة ومنظومة كتابية, وحرية تعبير, وأحلام وذكريات, ومخيلة.. إنني ما أن أمسك قلمي للكتابة عن غابات أشجار اليولكران العملاقة المغطاة بالثلوج مثلا حتى تهجم علي كوابيس الحروب والأقبية وتنتزع كل جمال وروح من السطور.

خميرة الشعراء

في أصقاع المنفى البارد, أفتح نافذتي وأتحسس أوراق شجر البيورك bjork الذي يغطي الحديقة التي أمامي, كأنها أيامي التي تورق وتتساقط هنا, بتعاقب الفصول والأحلام والأحزان.. (الحروف العاليات هي الشؤون الذاتية الكائنة في غيب الغيبوبة كالشجرة في النواة - ابن عربي)

أتتبع العروق والأنساغ وصولا إلى أبعد الغصون في تلك الشجرة الشاهقة بخضرتها, كأني أتتبع دورة الحبر في حياتي.. وما بينهما من تشابك وعويل, كأن العالم شجرة صور (كما يرى اندريه بريتون أو هو) إذا, غابة من رموز( كما يذهب بودلير)..

هذه الخميرة التي تصنع الورقة, وهذا النسغ الذي يغذيها كي تصنع الوردة..

هذه الخميرة التي تصنع الشاعر, وهذا النسغ الذي يرفده كي يخلق ويبدع القصيدة.. (إن لكل كاتب أصيل نبعا واحدا يغذيه طوال حياته - البير كامو)

........

في أحد أيام الربيع, أدخل غابة الكتاب bokskogen في أحشاء الغابة السويدية الحالمة على رأس الكرة الأرضية, أتتبع دورة الحياة (إنسان ـ تراب ـ شجرة).. (شجرة ـ عجينة في معمل ـ ورقة) للكتابة (فكرـ إنسان)..ومن ثم (تراب ـ شجر) وهكذا دواليك..

دائرا مع نسغ الورقة وكأني أرى دورة حياة الكاتب نفسه.

(أتمشى وحيدا في غابة الكتاب
لم يكن في جيوبي
قلم ولا ورق ولا بطاقة انتساب
كأني حرف
والعصافير نقاط
والغصون سطور
والشجر المهسهس في الريح أوراقٌ
والغابة الكتاب..)
وفكرت هل يمكن أن تكون هذه الورقة التي أكتب عليها هي من أشجار هذه الغابة.

تقترب مني أحد الزواحف, أتذكر القلقشندي وهو يقول في صبح الأعشى نقلا عن معن بن زائدة (إذا لم تكتب اليد فهي رجل).. ترى ماذا لو تحولت يداي إلى قدمين أخريين وأصبحتُ أدب على الأرض بأقدامي الأربع كأني أحد الزواحف. تبا لهذه الأفكار. أحرك يدي أرسم فيها بعض الحروف على التراب. مازالت قادرة على الكتابة. حمدا لله إنها ليست رجلا..

أعدّل قامتي وأتمشى والطبيعة وحيدين هنا في هذا المنتأى بعيدين عن كل ما يدور خارج نطاق الغابة. فكرت أن أعقد قراني على شجرة مثلما فعل ابن عربي حين عقد قرانه ذات ليلة صافية على جميع نجوم السماء وحروف الهجاء.

غير أن الأسهم لا تتركني, كأن قدر الإنسان المعاصر أن يبقى محكوما بأشغال الفكر الشاقة. ها أنا أمضي مع الأسهم في دورانها الآلي حول حضارات الأمم, أتتبعها. لأجد كم من السنين استهلكها الفكر ليصل الينا عبر رحلته الطويلة من الحجر إلى الورقة.. غير أن الورقة أخذت تتحول إلى رقائق الكترونية Hardisk

وتعال أيضا: (حجر ـ ورق ـ إلكترون ـ ثم.............

لكن القوس يبقى مفتوحا.

ألتقط غصن شجرة يابس وأرميه في البركة الصغيرة لقصر Torup لترسم دوائر مائية سرعان ما تتلاشى, ولا أثر

كأن كل ما لا يُكتب لا يكون له أثر

أتأمل أفكاري معكوسة على صفحة البحيرة الساكنة, ترى كم من الأمم والشعوب والفنون والآداب والمثقفين مروا على سطح بحيرة الحياة ولم يتركوا غير دوائر مائية زائلة.

كم من الكتاب اندثروا دون أن نسمع بهم, ربما لأنهم لم يتركوا لنا أثرا أو سطرا في كتاب.. وليتهم بدلا من أن يظلوا منفوشين بغصونهم اليابسة أخذوا نصيحة لوركا على محمل الجد وهو يقول: (أيها الحطاب أقطع ظلي, أنقذني من عذاب أني بلا ثمر).

إنهم في يباسهم الدائم سيبقون أبدا - رغم تعالي أصوات هسيسهم في الريح - مجرد أحطاب. وكما وصفهم غليفيك: (يتركون لنا قصائد كثيرة ولم يجدوا الشعر بعد). إذ ليس كل من يكتب أو يترك شيئا يبقى, وليس كل نقش خالدا.

فقد تسهم عوامل الطبيعة والتعرية نفسها وتقلبات الحياة والحضارات والأذواق والمدارس الفنية أحيانا في ضياع الكثير من الآثار, غير أن لسلطة الإبداع أثرها على الزمن والطبيعة والحياة والإنسان حين تنتقل من الحجر أو الورقة إلى الروح والفكر والأنفاس, وهذا ما يحفظ للمبدع بقاءه إلى الأبد سواء تغيرت الحضارات من الحجر إلى الإلكترون أو من الإلكترون إلى الحجر أو دارت الطبيعة دوراتها المتعاقبة.

وإذ أتذكر مقولة سارتر: إن الإبداع مشروط بالحرية, وخيبة أدونيس من أن الكتاب العربي يقرأ خارج لغته, أسرح بنظري بعيدا في الغابة فلا أرى سياجا أو حارسا أو شرطيا أو قطعة تشير إلى (ممنوع) أو أخرى تشير إلى (حقل ألغام) كما في بلادي.

غابة طليقة
في فضاء طليق
تستطيع أن تفعل فيها ما شئت..
كأن الشجر يتشرب الحرية أيضا من الأرض ويحملها في أنساغه إلى الورقة!
الورقة التي هي أمامي
وأمامكم الآن..!!

 

عدنان الصائغ

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





الصائغ مع الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي





مع الشاعر مظفر النواب





مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش





مع الشاعر الراحل بلند الحيدري