ماذا بعد الاستنساخ? أحمد كتوب

ماذا بعد الاستنساخ?

طباعة الأعضاء البشرية

(ربما لن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي سيتمكن فيه الإنسان من إيداع بعض الخلايا في مختبر والانتظار لبعض الوقت ريثما تقوم آلة حديثة بتصنيع عضو جديد خاص له شخصيا). هذا ما يقوله مهندس نسج بشرية واصفا التكنولوجيا المستقبلية التي قد تتحول إلى واقع.

هناك الآن مشروع لصناعة آلة واعدة سوف تقوم بإصلاح الجسم البشري. ستصنع هذه الآلة من خلال دمج ثلاثة مشاريع أبحاث مازالت قيد التطوير هي: إمكانية النسخ السريع, تصنيع بوليمرات ذكية, وإمكانية تلاصق الخلايا بعضها بالبعض الآخر. وسوف تكون النتيجة ما يمكن أن نطلق عليه عملية صناعة أو طباعة الأعضاء. وكما هو معتاد في عمليات تطوير التكنولوجيات الحديثة نلاحظ أن لتكنولوجيا طباعة الأعضاء البشرية جذورا عديدة فهي تعتمد على نتائج جهود مجموعات من العلماء تعمل في اختصاصات مختلفة من العلوم والتكنولوجيا.

النسخ السريع

طور تشارلز هل مؤسس الأنظمة ذات الأبعاد الثلاثة عام 1986 في فالانسا بكاليفورنيا أول آلة للنسخ السريع أطلق عليها اسم آلة الطباعة المجسمة STEREO LITHOGRAPHY. في هذه العملية يتم تركيب الأجسام طبقة إثر طبقة باستخدام شرائح من القلفونات السائلة الحساسة للأشعة فوق البنفسجية بعد معالجتها بأشعة ليزر ضعيفة الطاقة. إن لطريقة تجميع الطبقات فوق بعضها البعض استخدامات متعددة يمكن وضعها كلها تحت مصطلح: النسخ السريع للنماذج RAPID PROTOTYPING . إن مبدأ النسخ السريع للنماذج أو تصنيع أجسام ثلاثية الأبعاد طبقة إثر طبقة مباشرة من تصاميم حاسوبية هو أساس تكنولوجيا طباعة الأعضاء.

البوليمرات الذكية

المهندس الكيميائي (آلان هوفمان) من جامعة واشنطن في سياتل, هو أبو البوليمرات الذكية التي تستخدم لإيصال الأدوية وفي مجال هندسة النسج. كان يحاول طوال فترة عمله تحسين مطابقة المواد العضوية. وأخيرا توصل لفكرة استخدام الهلاميات المائية الطبيعية التركيبية كمواد أساسية في الهندسة الحيوية مما أدى إلى التوصل إلى صنع قوالب متطابقة حيويا وقابلة للتشكل تدريجيا. إن استخدام الهلام الذي يتحسس للحرارة (والذي يكون دائما في حالة سيولة بدرجة الحرارة الطبيعية ويتحول إلى جيل (هلام) عندما يتسخن إلى درجة حرارة الجسم 37ْ مئوية أو 98. 6ْ فهرنهايت) هو عنصر أساسي في صناعة تكنولوجيا طباعة الأعضاء.

تلاصق الخلايا

بنى (هنري فان بيترز ويلسون) (1863 - 1939), وهو أول أستاذ لعلم الأحياء في جامعة كارولينا الشمالية, مختبر أبحاث بحريا دائما حتى أصبحت دراساته للإسفنج البحري أساسا للعلوم الحديثة الخاصة بتلاصق الخلايا بعضها مع البعض الآخر. وقد توصل إلى أن القطع الصغيرة المتناثرة من الإسفنج يمكن أن تندمج مرة أخرى لتشكل جسما عضويا. هذا المبدأ نفسه يستخدم في صناعة الأعضاء. إن دمج أجزاء الخلايا هو عملية تقليد لدمج قطع الإسفنج التي وصفها ويلسون عام /1907/. من كان يتنبأ أن بحثا في علم الأحياء البحرية سوف يعود بعد مائة عام ليقود إلى إمكانية طباعة الأعضاء البشرية?

ويتمثل المفتاح الأساسي لمفهوم طباعة الأعضاء في التشكل الذاتي. إن التشكل الذاتي هو مبدأ بيولوجي قوي يمكن أن يستخدم بنجاح في تطوير مجموعة واسعة من التكنولوجيات حيث تأكد ذلك في عدة تجارب. يمكن الاستدلال على قدرة أجزاء النسج الجنينية وكتل الخلايا على الاندماج من التجارب التي تم إجراؤها لبيان الطبيعة المطاطية والدبقة (القدرة على التلاصق) في النسج الجنينية. فإذا أمكن دمج النسج الجنينية وكتل الخلايا على شكل سائل يمكن عندئذ استثمار هذه الخاصية لتجميع النسج باستخدام تكنولوجيا النسخ السريع للنماذج أي باختصار: طباعة الخلايا.

بما أن آلة طابعة الخلايا تعمل مثل طابعة كمبيوتر معدلة فإنها سوف تستخدم كتل الخلايا بدلا من الأحبار والهلامات المتغيرة بالحرارة بدلا من الورق. يتم التحكم بحركة الطابعة وبإنتاجها بواسطة برنامج خاص يحتوي على البيانات الكاملة حول تشريح الجسم البشري. تعمل طابعة الخلايا على مبدأ تكنولوجيا الإضافات بحيث تطبع العضو طبقة بعد طبقة بناء على المعلومات المتوافرة عن حجم العضو وتركيبه... إلخ, الموجودة في البرنامج الخاص بذلك العضو.

لطباعة سلسلة من كتل الخلايا على شكل حلقة مثلا يتم تشكيل حلقة من النسج باندماج كتل الخلايا. وبطباعة عدة طبقات متتالية من الحلقات سوف يتشكل, بعد اندماج تلك الطبقات, جسم على شكل أنبوب. توجد أنابيب النسج هذه في مختلف أنحاء الجسم البشري: في الأجهزة الوعائية للأعضاء وكذلك في الفوهات المعقدة التركيب وقنوات الكبد والكلى. تستخدم الأعضاء البشرية الأجهزة الوعائية لكي تستقبل الغذاء والأوكسجين الذي تحتاج إليه للاستمرار في البقاء. لذلك فإن طباعة مثل هذه الأجهزة سوف تشكل خطوة أولى أساسية ونقطة انطلاق كبرى على طريق تطوير تكنولوجيا طباعة الأعضاء. فإذا تم إنجاز هذا الهدف ستصبح بعده طباعة أعضاء مثل القلب والكبد والكلية أمرا ممكنا من الناحية التقنية.

فوائد سريعة الظهور

هناك اتجاهات عديدة يمكن أن تدفع بالطلب على هذه التكنولوجيا الجديدة وتشجع على تطويرها:

  • إن النقص الكبير الذي ظهر أخيرا في الأعضاء القابلة للزرع يمكن أن يكون أحد أكثر الأسباب العلمية أهمية لاستثمار الكثير من الموارد في تكنولوجيا هندسة النسج والتقدم الأخير في أبحاث الخلايا سيحول هندسة النسج إلى طب ترميمي.

يعطي الطب الترميمي الأمل بعلاج الأعضاء عن طريق المعالجة الجينية, زرع الخلايا أو أي أساليب تجديدية أخرى تساعد على تجنب استبدال العضو بالكامل. وعلى أي حال سيفيد الطب الترميمي فقط في حالات المراحل الأولى من الأمراض. إن تصنيع الأعضاء من خلايا المريض نفسه ربما يكون هو الأسلوب الأكثر نجاعة لسد النقص الخطير في الأعضاء البشرية القابلة للزرع.

  • ربما يكون اختبار الأدوية هو المجال الأسرع والأكثر فائدة لاستخدام الأعضاء البشرية المطبوعة.

وعلى اعتبار أن الأعضاء البشرية المطبوعة سوف تتشكل من النسج البشرية, يمكن استخدامها بسهولة في الفحص والاختبار, دون التعرض للقضايا الأخلاقية التي تواجه العاملين في حقل اختبارات الأحياء من البشر. والأعضاء المطبوعة سوف تكون معقدة وبالتالي هي أقرب للأعضاء البشرية الطبيعية من كتل الخلايا ذات البعدين. وهذا الأمر سوف يقلص وبشكل دراماتيكي الحاجة إلى إجراء التجارب على الحيوانات.

يستطيع الإنسان أن يتصور نظاما آليا بالكامل للحساسات الحيوية ولاختبارات الأدوية, يتألف أساسا من نسج بشرية . وقد تنبأ عالم أبحاث السرطان (يودا فوكمان), الذي طور نظرية نشوء الأورام الوعائية (والتي تقول إن الأورام لا يمكن أن تنمو دون تغذية دموية), بأنه سيأتي اليوم الذي سيصبح فيه من الممكن زراعة أنسجة وأعضاء بشرية معقدة, بما في ذلك أنسجة الأورام, خارج إطار عضوي, وأن يتم تقدير ردود الفعل الفردية على الأدوية المضادة للأورام. فإذا ما تم التوصل لتكنولوجيا طباعة الأعضاء عندها يمكن تحويل هذا الحلم إلى حقيقة.

تقوم حاليا مؤسسة المعالجة الدقيقة في بيتسبيرغ بتربية خلايا أورام من خزعات مرضى في صحون من البلاستيك. والأطباء والمرضى, على السواء, سعداء بذلك لأنه سيسمح لهم بإجراء اختبارات لعدة أدوية مختلفة مضادة للأورام في وقت واحد, وبذلك يتم اختصار الزمن اللازم للوصول إلى نتيجة حاسمة وخاصة بالشخص المعالج بالذات. وهذا يعطينا مثالا واضحا على آلية العمل في ما يسمى الطب الشخصي, إذ أن استخدام أنسجة بشرية وعائية مطبوعة ثلاثية الأبعاد من خلايا مريض ما سوف يزيد من القدرة على اختبار الأدوية خارج جسم هذا المريض إلى حد كبير.

  • إن عمليات التجميل وتحسين المظاهر الجسدية تتطور كصناعة رائجة بشكل سريع, وتثبت أن هناك محاولات دائمة للإنسان للتغلب على القيود التي تفرضها العائلة الجينية على جسده. إن البشر يريدون الآن أن يقوموا بتصميم أجسامهم ليصلوا فيها إلى مستوى الكمال مستخدمين كل التكنولوجيات المتاحة. والطلب على المستحضرات التجميلية سينمو بشكل كبير كلما ازدادت معدلات الأعمار في الدول المتطورة. وسوف تكون تكنولوجيا طباعة الأعضاء أداة قوية لإعادة تصميم وتحسين الجسم البشري حيث لم يعد من الصعب الآن التنبؤ بأن تغيير مظاهر الجسم البشري سوف يصبح في الواقع روتينا يشبه عملية تغيير الملابس, وسوف تتطور جراحة التجميل مع تطور الأزياء والموضة.

خيال علمي أم علم خيالي?

يزعم المتحمسون لطباعة الأعضاء أنه ما إن نتعلم كيف ننتج قطع غيار منفردة للأجسام البشرية حتى يصبح بإمكاننا بناء جسم بشري كامل.

إن طباعة الأعضاء لا تحتاج إلى خلايا جنينية, إذ يمكن استخدام كل من الخلايا البالغة أو غير البالغة. إن تكنولوجيا طباعة الأعضاء سوف تحد من الحاجة إلى الانتظار 18 عاما لكي نحصل على جسم إنسان بالغ كامل. فمن الناحية النظرية يمكن طباعة البشر حسب الطلب ويمكن جعلهم جاهزين من الناحية الوظيفية خلال أيام أو أسابيع. فالدماغ يمكن أن يستبدل بشرائح إلكترونية بيولوجية رغم أن أبحاث الدماغ مازالت بحاجة للارتقاء إلى المستوى الذي يمكن فيه صناعة دماغ عن طريق الهندسة العكسية (الهندسة الراجعة).

من الواضح إذن أنه سيكون لفكرة طباعة البشر تأثيرات دراماتيكية إضافة إلى أنها ستثير مسائل أخلاقية خطيرة, فهل ستعتبر هذه التكنولوجيا تدنيسا للمقدسات? لقد حذر الناقد التكنولوجي جيريمي ريفكين في مجلة (قرن التكنولوجيا الحيوية) قائلا: (إن تقييد الحدود التركيبية وتحويل كل الكائنات الحية إلى معلومات يعطي الذريعة المناسبة لاعتبار الهندسة الحيوية علما يمحو القداسة عن الإنسان).

أما أصحاب الرأي المضاد فيقولون: إننا نقبل عدوانية تدنيس الجسم البشري عند استخدام الجثث للتشريح في كليات الطب. ومن الصعب اليوم أن نجد أي رجل دين متحضر يعترض فعليا على العمليات الجراحية. لقد كتب رائد جراحة القلب المفتوح الجنوب أفريقي كريستيان برنار (1922 - 2001) بأنه لم ير إطلاقا أي شيء غامض في القلب البشري. (إنه ليس سوى مضخة دم بدائية لا أكثر). وهذا مثال على طريقة التفكير لبعض المشتغلين في العلم, وليس كلهم!

ويقولون إن تكنولوجيا الطباعة سوف تخدم الطب الحيوي يوما ما تماما كما خدمت انتشار الكتب. إن مفهوم يوهان جوتنبرج حول طباعة الكتب كان بمنزلة تكنولوجيا المعلومات في التعليم على مدى القرون الخمسة الماضية. لقد أسهمت أدوات الطباعة الجديدة في إعادة تعريف الطريقة التي يقوم فيها البشر بتنظيم معارفهم, وساهمت في ظهور إمكانية إعادة إنتاج وتبادل المعلومات - وهما مبدآن أساسيان من مبادئ البحث العلمي. كما أنها دعمت ظهور فكرة حقوق التأليف وهي التي ضمنت للأفراد الاعتقاد بأن أفكارهم هي أفكار أصيلة وفريدة, وعملت على رفع مستوى الفرد كمحرك أساسي في تطور الحضارة.

وهكذا نرى أن ثورة الطباعة وتأثيراتها الاجتماعية قد قدمت سابقة تاريخية مهمة ستمهد الطريق أمام ظهور تكنولوجيا طباعة الأعضاء وأمام تأثيرها المحتمل على الحياة البشرية والتطور والحضارة, لا نملك إلاّ أن ننتظر ونفكر, بل نمعن التفكير!.

 

أحمد كتوب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نموذج جمجمة تم تشكيلها بتقنية طباعة الخلايا ثلاثية الأبعاد