بيروت عاصمة

بيروت عاصمة "ثقافية"

فراشات في غابة الباطون
تصوير: سليمان حيدر

هل كانت بيروت في حاجة لإعلانها عاصمة ثقافية للعالم العربي هذا العام (1999)؟ ولماذا ثار الجدل اللبناني الثقافي حول الموضوع؟ وهل من حصاد لذلك؟ أسئلة راودتنا ونحن نراقب من بعيد، فحملناها وطرنا بها إلى بيروت، لعل الاقتراب يشفي غليل الأسئلة، أو يلد أسئلة جديدة!

شيء ما, كأنه الإغواء, راح يجذبني إلى ما كان يسمى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (خطوط التماس) أو (الخطوط الفاصلة). كان خيالي يحاول استحضار تلك الصور الزائلة من ذلك الجنون البشري, تلك اللعبة الوحشية التي لم أستطع أبداً تمثّلها عبر رؤية بيروت الآن ومعرفة اللبنانيين في شتى الأماكن والأزمنة, هذا البلد الجميل, وهؤلاء البشر الأكثر لطفاً بيننا, هل يعقل أنهم كانوا مادة لجحيم من هنا مرّ ?!

على مشارف الأشرفية, وفي عين المريسة, ومن ساحة البرج إلى طريق الشام, وفي الشياح, كلما رأيت أبنية ترقشها آثار الطلقات, أو تسحقها أفعال القذائف, سألت: (هل كان هنا خط تماس?), وتأتيني الإجابة دائماً: (نعم), فكأن بيروت كلها كانت خطوط تماس, وهي الآن في شبكة خطوط تماس جديدة تلائم سلامها الغض, بين الإعمار والترميم وبقايا الخراب, بين الجسور والأنفاق الحديثة والطرق الباذخة ولون الحجر الأشهب وسقوف القرميد في الأبنية القديمة. يقول الشاعر محمد علي شمس الدين في تعبير موجز فور تعارفنا وبدء الحديث عن بيروت: (إنها مدينة تبحث عن هويتها), فأتذكر مداخلة شربل داغر: (بيروت تبحث عن بيروت).

وهل كان كل ما مرّ بها ويمر هو بحثاً عن هوية? عبر الحرب التي كانت, والهدأة الكائنة, وحتى في غمار الجدل الذي وجدت نفسي غارقاً فيه وأنا أبحث عن معنى لإعلان بيروت عاصمة ثقافية للعرب هذا العام, الذي هو آخر أعوام القرن العشرين (بغض النظر عن سجال الجمع والطرح لتحديد آخر سنوات الألفية الثانية وأول أعوام الألفية الثالثة)؟!

يقول شربل داغر: (ما أتيح لبيروت في تاريخها المعروف أن تكون محل نظر وخشية وأمل, مثلما هي عليه في السنوات الأخيرة, حتى أنها تبدو في نظر بعض كاتبيها وأهلها أشبه بـ (الطلل) الجاهلي: يستنطقون متبقياتها بحثاً عنها, فيما هي لا تتوانى عن العيش والتبدّل).

رحت أدور في بيروت التي يخفي الترميم بتسارع آثار خطوط تماسها الوحشي الذي كان, بينما طلقات الجدل الثقافي تحيط بي من كل صوب, سجال حار, منفعل, وأنيق, وبلا حدود في جرأته التي يندر أن تكون في غير بيروت, أداره المثقفون اللبنانيون حول إعلان العاصمة الثقافية, منذ عُرف شأن الإعلان, وحتى لحظة تواجدنا في بيروت- منتصف يونيو (حزيران) هذا العام.

سجال خرج على صفحات الصحف العربية الدولية, والمحلية, وعلى بعض موجات البث المرئي والمسموع. أما في بيروت, فقد استوقفني في هذا السجال ملفان مهمان, أولهما عدد خاص من (الملحق) الذي تصدره جريدة النهار, وكان تحت عنوان يستفز فضول القراءة: (بيروت 1999 عاصمة الثقافة العربية- التدجين)؟!

أما الملف الثاني, فقد أوردته في الموضوع ذاته مجلة (الناشرون) التي تصدرها نقابة اتحاد الناشرين في لبنان.

كانت طلقات هذا السجال, ورشقاته, ونسماته أحياناً, هي أسئلتي للمدينة التي أدخلها لأول مرة, وإن كانت هي قد دخلت في نسيج الحلم والمتخيل لديّ, كما لدى أي كاتب أو مثقف عربي تراءت له بيروت جنّة للكتب, وشاطئ أمان, ونافذة على البحر, وغابة حرّة تمنح أكناف صنوبرها لكل الطيور البرية إن شرّدت.

لهذا, عندما اجتاحت النار غابة الصنوبر, تحرّقت أفئدة كل الطيور, حتى هذه التي لم تحط أبداً على صنوبرات غابة بيروت, ولم ترها إلا بعيون الحلم, أو في هالة المجاز, وهو مجاز خايلني منذ تعلمت قراءة الكتب الممنوعة, وراح يخايلني بينما الطائرة بعد في سماء بيروت.

البحر

المألوف أن أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم, ومن ثم كان على الطائرة التي حملتنا من مطار الكويت أن تقطع سماء شبه الجزيرة العربية, فبادية الشام, فسلسلة جبال لبنان, ثم تحط في بيروت. لكنني وجدت خط سير الطائرة على شاشة التلفزيون الداخلي أمامي ينحرف إلى الشمال قليلاً, ثم ينطلق إلى الغرب- في نقطة بين طرابلس وبيروت- ويوغل في أفق البحر, مسافة جعلتنا معلقين تماماً بين الزرقة والزرقة, ثم دارت الطائرة على نفسها واعتدل مسارها وهي تخفض الارتفاع, لتهبط في مطار بيروت, وكأنها قادمة من البحر!

من المؤكد أن هناك مبرراً فنياً لدى أهل الطيران لتحديد خط سير الطائرة على هذا النحو, لكنني متأكد أيضاً أن لكل صدفة قانوناً, وأن الظواهر تكتنز البواطن, وفيها يمثل المجاز, وعندما خرجت من باب الطائرة تلقفتني نسائم بيروت, فتذكرت قيظ الخليج, وأنشد درويش في داخلي: (من مطر على البحر اكتشفنا الاسم/كأننا أسلافنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت), وعندها, انتقل الصوت إلى وضاح شرارة ليزيح أستار المجاز عبر مرافعة موجعة في شأن بيروت (العاصمة الثقافية) والتي آثر أن يومئ إلى محتواها بعنوانها الحاد الجامع: خرس فصامى لا تشفيه الاحتفالات).

قال- ضمن ما قاله- إن: (بيروت الثقافية, أو ثقافة بيروت اللبنانية, إنما تصدر عن السوابق المتوسطية والبحرية هذه: عن الهزائم التي سبقت الأفول وآذنت به, وعن الغارات المدمرة والمخلفة وراءها الأنقاض والسبايا, وعن فشو الأوبئة في المدن المملوكية الحصينة والمغلقة على الخارج, وعن استدخال (الداخلية) المنيعة وتقويض مناعتها ومناعة جماعاتها وعصبياتها وربطها بخارج وغير, تامين ومختلفين. والحق أن بيروت الثقافية هذه, في معظم أطوارها في القرن العشرين, صدرته عن سوابقها المتوسطية والبحرية).

كان وضاح شرارة يرسم لوحة لتفاعل البر والبحر, لافتتان أهل (الداخلية) بأهل (الساحلية) وبالطريقة التي يباشرون حياتهم عليها, ومن ثم بانسياب هؤلاء في مدينة أولئك, وميلاد أعمال أدبية وفنية قامت على وجه المراءاة الإثنية المغلقة بين (الساحلية) و(الداخلية), وعلى (ترجمة الحد من الحدين إلى الحد الآخر).

كان يقلب قضية (العاصمة الثقافية) بمبضع قاس, كأنما يشرح أعماق نسيجها, وكانت نتيجة التشريح حادة كما إشارة البداية إذ يقول: (فنحن اللبنانيين, على هذا, (عاصمة ثقافية) لا تعصم من شيء, لا من خواء وفاض العبارة, ولا من عجمة ما نستنطقه وخرسه الفصامي, ولا من استدراج الأجانب إلى البيان عن (نفس) لا نعلم من تكون ولا هل تكون شيئا خارج ترجمتها الضيقة والفقيرة. وهذه الحال لا تشفيها الاحتفالات السنوية ولا اليومية).

جرأة ـ بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع محتواها ـ تذكرني بأنني في بيروت, فتشدني أكثر إلى بيروت.

الكتب .. المقاهي

نصف نهارنا الأول في بيروت كان مفتوحاً, بلا مخططات لزيارة فعاليات ومواقع, وبلا مواعيد. لكنني كواحد من ملايين العرب الذين حلموا فترة من عمرهم ببيروت, كنت أهفو إلى مواقع في ذاكرة الحلم ومواعيد طائرة في الخيال. وكان شارع (الحمرا) على مقربة دقائق بالأقدام من موقع فندقنا في منطقة (الرملة البيضا), فانطلقنا.

آثار الحرب بدت قليلة على امتداد خط سيرنا, فالترميم وارى سوءات القذائف إلا القليل منها الذي بقي يرقش بعض الشرفات والجدران, وفي شارع الحمرا كانت حركة الناس ونبض المحال توشك أن تنفي أن الحرب اللبنانية مرت من هنا. كما أن هذه الحركة وهذا النبض لم يسفرا أيضاً عن أي علامة تشير إلى أن عاصمة ثقافية تمر من هنا. فلا ملصق واحد, ولا إعلان في المكتبات التي دخلناها والتي تشهد بأن تحولاً جارفاً حدث ويحدث في عالم الكتاب اللبناني والكتاب العربي بشكل عام, ثمة ركود واضح في الإقبال على شراء الكتب التي يتصدر قائمة المبيعات منها كتاب عن الطهي, ومنذ ستة أشهر. ومع ذلك فالكتب تتدفق عناوينها فوق الأرفف بغزارة وبجرأة نسبية قلما توجد في بلد عربي غير لبنان. بحثت عن المعرض الدائم للكتاب دون جدوى, وعندما دلني عليه الأستاذ جهاد فاضل في مناسبة لاحقة ضممت إحباطي إلى شجنه, فقد طرد معرض بيروت الدائم للكتاب كل الكتب واستبدل بها بضاعة أخرى, صار متجراً للإلكترونيات ولوازم الكمبيوتر. وتجاوزا للإحباط والشجن رحت أبحث عن مغزى في هذا التحول, وكان المغزى واضحاً, وإن بقي ثقافيا على أي حال!

الكتاب اللبناني, شأن الكتاب العربي عموماً, يبدو في حال محزنة من الهجران أمام اتساع التلقي السلبي عبر وسائط البث المرئي والمسموع الأخرى. لكن الدكتور سهيل إدريس صاحب دار الآداب يبدي تفاؤلاً إشراقيا إذ يقول: (إن الكتاب الذي يصدر في لبنان مضمون التوزيع في سائر البلدان العربية, إلا إذا تصدت الرقابات العربية لمنعه أو مصادرته. ومن المؤسف حقاً أن عدداً من البلدان العربية لايزال يفرض رقابة صارمة على الكتاب بحجة (حماية) القراء من (سموم) الكتاب في الوقت الذي تتمتع فيه وسائل الإعلام الأخرى كأقنية التليفزيونات المتنوعة التي تدخل كل بيت وتحمل لجميع المشاهدين كل أصناف الأفلام دون حسيب أو رقيب!).

ويعرِّج الدكتور سهيل إدريس على قضية طالما عكرت مياه نشر الكتب, لكنها وحال الكتاب هي ما هي عليه تبدو أفدح من مجرد تعكير للمياه: (وإذا لم نستطع أن نحارب التزوير الذي تشكو منه معظم دور النشر الجادة في لبنان, فلن تكون بيروت جديرة بأن تعلن عاصمة ثقافية!).

ومن جيل إلى جيل تنتقل قضية الكتاب, همومه وشجونه, وتعبر عنها الناشرة رنا إدريس في إطار ما نتعقبه قائلة: (إن بيروت لم يعد لديها ذلك الزخم الطليعي السابق, وذلك لا يعني أن المدينة مسئولة عنه تماماً. فكل بلد عربي بات لديه نوع من الاستقلال في النشر, وباتت متوافرة لديه المواد الأولية والتقنية اللازمة. الحرب جعلت هذه البلدان تنسى بيروت قليلاً لهذه الناحية وتبدأ في الاعتماد على نفسها. الجانب الأخطر من الموضوع هو فقدان القارئ الجدي في بيروت كما في العالم العربي, ما يجعل دور النشر تتردد في نشر الكتب الطليعية. دار النشر لا تخلق القارئ, هذا وهم, ولكن ثمة قارئا ما عاد يقبل على هذه الكتب, وبما أن دور النشر غير مدعومة من جهات أخرى, فهي باتت تخشى المجازفة).

نترك مكتبات شارع الحمرا, ونبحث عن دار نشر جديدة لعل الرؤى تختلف, فنقصد (دار الجديد) لنجدها في شقة من عمارة ارستقراطية قديمة بناحية الصنائع, وعلى فناجين القهوة نلتقي مع مسئولة الدار (رشا الأمير), تبدو حزينة لكنها تسيطر على حزنها. تذكرنا بفجر الطباعة الذي أشرق على بلاد العرب من لبنان: (الطباعة كفعل مبدع حلت فور وصولها إلى ديارنا وأديارنا ـ وفي طليعتها بالطبع دار مار قزحيا (1610م). وتستطرد: (على عتبة الألف الثالثة, وفي هذا الأصيل, على ما يبدو من عمر صناعة الحرف, نشراً وطباعة, أضعف الإيمان أن يحاول أهل هذه الصناعة ألا يتواروا وراء أسباب منسوبة إلى الثقافة ليفسروا ما يصيب قطاعهم من مصاعب. وقد آن لنا أن نتصارح ونتعالن بأن معظم صناعة الحرف في لبنان, نشراً وطباعة, خلال العقود الماضية, كانت أدخل في نطاق الاقتصاد الخدماتي لهذا البلد منها في دائرة الثقافة, وأن هامش الانتاج الثقافي البحت كان يتعيش طفيليا, ونعم الطفيلي هو, على المتن الخدماتي).. وتلوح بيدها في حركة صغيرة حائرة بينما الجدية تكسو ملامحها مشوبة بأسى عميق: (بعاصمة ثقافية أو من دون عاصمة ثقافية كنا ننشر الكتب وسنظل ننشر الكتب).

ونترك الكتب, لنبحث عن المقاهي! نعود إلى شارع الحمرا لنستريح في احدى هذه المقاهي ذات الأسماء الشهيرة لدى المثقفين ـ حتى خارج لبنان. نجد (الهورس شو) وقد تحول إلى مطعم للشاورمة والفلافل. بينما مقاهي المثقفين الشهيرة الأخرى كانت قد أقفلت أبوابها منذ مدة ـ (لاروند) و(الروكسي) و(النيغرسكو) ـ لكننا نجد بديلاً جيداً في طرف الحمراء, إنه مقهى (سيتي كافيه) الذي يواصل دوراً قديماً انقطع, باصرار من مالكه السيد حسن الذي يرحب بنا في مودة واثقة, ثقة رجل تآلف مع وجوه النخبة الثقافية اللبنانية والعربية التي مرت وتمر بمقهاه, نطلب مشروباً بارداً يطرد عنا حر بيروت القليل, ونستمتع بمشاهدة وجوه الزبائن من بقايا مشاهير الثقافة والأدب والفن ونمر باللوحات التي تعرض على جدران المقهى بشكل أنيق ومدروس, فقد كرس المقهى جدرانه لتكون معرضاً فنياً مفتوحاً ومتجدداً..

ويتحول (مقهى المدينة) منذ تلك اللحظة, إلى نقطة التقاء لنا في بيروت, ومركز انطلاق.

ردم البحر

متى بدأت القصة?.. قصة إعلان بيروت عاصمة ثقافية للعالم العربي هذا العام (1999)؟ ذلك هو السؤال الأول الذي حملته في أول صباح بيروتي مفعم بالشمس ومرطب بنسائم البحر وانطلقت إلى مبنى وزارة الثقافة اللبنانية. لتوثيق الاجابة, التي من الطبيعي أن تعقبها اسئلة تبحث عن اجابات جديدة.

لم يكن الوزير محمد بيضون موجوداً, وكان هناك مدير عام وزارة الثقافة رئيس اللجنة المشرفة على ملف بيروت عاصمة ثقافية الأستاذ محمد ماضي, وكان الموعد في تمام العاشرة بينما بدأ انطلاقنا في صباح بيروت الندي والمضيء أبكر من الموعد بساعتين. واقترح مرافقنا عدنان: (ناخد شي برمة تاييجي الموعد) قلت: (إيه). ومضينا ننطلق في الصباح البيروتي العذب.

تهبط السيارة على شوارع عين التينة, بين أبراج (الباطون) في منطقة الرملة البيضا نحو زرقة البحر, وعلى الجانبين تتبدى العمائر الباذخة, يقول عدنان إن ثمن الشقة في هذه المنطقة, وصل إلى مليون دولار, (أوف. أوف) نصرخ, وتنعطف السيارة داخلة في الكورنيش باتجاه (الروشة).. واحة الاصطياف العربية تبدأ استيقاظها المبكر مثلنا, فالمقاهي على الأرصفة تشرع أبوابها للنور والنسائم والناس, والمطاعم والمقاصف ومحلات البوظة تنبض بحركة نشطة. وعلى طول رصيف الشاطئ يكمل المتريضون هرولتهم أو مشيتهم الصباحية. ثمة ملامح تؤكد على نصيب بيروت الكبير من المدنية والانفتاح, ديكورات المحال, ثياب الناس, خليط الموسيقى والأغاني التي نتقاطع معها في طريقنا. حيوية تفاجئ من يطالعها لأول مرة وهو يعرف أن الحرب الأهلية المسعورة كانت هنا, والاجتياح الإسرائيلي ـ المدحور ـ أيضاً.

أسطورة طائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد تبدو ماثلة في نهوض بيروت المدهش من ركام الحرب, لولا بعض الآثار لمبنى محترق هنا وجدار ترقشه القذائف هناك لما صدق الرائي أن هذه المدينة ظلت تصطلي على مدى 17 عاماً بنيران حرب أهلية مجنونة إضافة إلى اجتياح اسرائيلي مسعور.

نتوقف على الكورنيش لنطل على صخور الروشة الشهيرة, الصخرة الرئيسية تنتصب شهباء في مياه البحر قرب الشاطئ, كأنها ساقا خائض اسطوري في اللجة الزمردية حتى ركبتيه, وثمة شوائب تتأرجح فوق سطح الماء. خفق تيار السنين وموج الدهور وريح العمر حتّت في بياض الصخر حزوزاً, وحصاد الأيام القليلة الأخيرة ترك على سطح الماء فتات نفاياته.

يشير عدنان إلى الفتحة بين ساقي الصخرة ويقول بحماس: (عبدالحليم حافظ مر من هنا)!! نسي عدنان, أو تناسى, كل التباسات الروشة من قفزات المغامرين في جُرفها العميق إلى الماء, وانتحارات من جرح العشق قلوبهم أو أظلمت في عيونهم نوافذ الحياة, وآثر عدنان ـ ابن حي الشياح الشعبي البيروتي ـ أن يقدم لنا صخرة مدينته الأشهر في إطار من صدح العندليب الذي يحبه. ويعمل الطبيب النفسي في داخلي معلقا: (هذا سرهم ـ هؤلاء اللبنانيين ـ لا يستسلمون للاكتئاب بسهولة, حبهم للحياة يمنحهم القدرة على التجاوز. فهل هي بقايا الساحلية في كل فرد؟)

نلتقط إفطاراً سريعاً من سلال بائعي الكعك وقدور بائعي القهوة الجوالين على الكورنيش, ونواصل انطلاقنا.

وزارة الثقافة والتعليم العالي تقع في مبنى حديث أنيق بواجهات من الزجاج والمعدن, لكن الطريق إليها يذكرنا بثنائية ما كان وما هو كائن, فبناية فندق هيلتون المهجورة منذ سنين تنتصب إسمنتية عارية, بالية, تأكلتها القذائف وأهوية البحر الرطبة, كانت مشروعاً باذخاً لم يكتمل وهو ينتظر الآن الإزالة لينهض من جديد, ليطل على ساحة حديثة, مقتنصة من مياه البحر الذي ردم اللبنانيون نصف مليون متر مربع منه لاستيعاب طموح إنشاءات بيروت بعد الحرب.

نترك السيارة في جراج حديث متعدد الطوابق تحت الأرض, ونمتطي مصعداً أنيقاً يوصلنا إلى الطابق الحادي عشر, فنجد مدير عام الثقافة الأستاذ محمد ماضي في انتظارنا, يستقبل الأسئلة, ويرسل الإجابات, فنسجل:
كيف بدأت القصة؟

(هذا الاختيار تم في أواخر عام 1997, حيث كانت هناك مداولات في اليونسكو عن مناطق عالمية يجرى فيها التركيز على اختيار إحدى العواصم لهذه المناطق لكي تبشر بثقافة السلام المعاكسة لثقافة الحرب, أي خدمة السلام بالثقافة, خلال الاجتماعات ارتؤي, وتمت الموافقة, أن تكون بيروت عاصمة ثقافية عام 1999, وقد كانت العاصمة عام 1998 هي الشارقة, ونستطيع أن نقول ان اختيار اليونسكو لاسيما رئيسها فيدريكو مايور كان موفقاً ودقيقاً, لأن بيروت عاصمة ثقافية للعالم العربي منذ زمن, بيروت المطابع, الجامعات, دور النشر, الصحافة, الإعلام, كانت على مدى طويل عاصمة ثقافية للعالم العربي, وملجأ للمثقفين العرب وهذا معروف خاصة في الستينيات من هذا القرن. أتى الاختيار دون تحضير فكان مفاجأة سارة إنما هذه المفاجأة كانت في حاجة لبعض التحضير.

أنا لا أعرف التفاصيل, أقول إن الاختيار قد تم ولا أدخل في تفاصيل المناقشات. إنما أقول إنني لو كنت أحد أعضاء الوفد اللنباني وقيل إن هناك اقتراحا بأن تكون بيروت عاصمة ثقافية وفاز هذا الاقتراح بالموافقة أكون مسرورا جداً, هذه بلدي, دون أن أنظر إلى التنظيم المسبق. المهم الموافقة هي الأساس ويأتي بعدها التنظيم, نحن تهمنا النتائج الباهرة).

يلفت انتباهي تعبير (النتائج الباهرة) فأتذكر أن وزارة الثقافة اللبنانية أطلقت إعلان بيروت عاصمة ثقافية والدعوة إلى فعالياته في يونيو 1998, ومن ثم مضى عام على إطلاق الإعلان, فأسأل عن حجم ما أنجز؟ ويجيب الأستاذ محمد ماضي:
(أود قبل كل شيء أن أوضح أمراً يتعلق بسياق الأمور في لبنان, نحن نتعامل كدولة مع القطاع الخاص, وهذا التعامل له طابع الرعاية والتوجيه وليس التدخل المباشر. المثقف طاقة محترمة نحافظ عليها ونتعامل معها بكل الاحترام والشفافية.

العنوان (بيروت عاصمة ثقافية) أحدث دوياً وشعوراً عند الجميع بأن ما يجري يجب أن يكون مميزاً, وتحت هذه اللافتة يعمل المثقفون اللبنانيون).

تتواصل أسئلتنا عن دور وزارة الثقافة فنأتي إليها في يوم تال لنلتقي بمسئول آخر عن ملف (العاصمة الثقافية), فنجد فيه صيغة تثري التنوع إذ يمكن اعتباره ليس رسمياً تماماً, فهو شاب وقانوني رفيع التأهيل, وأهم من ذلك أنه فنان, كاتب روائي له عملان مرموقان كتبهما بالفرنسية وقد قرأت ترجمة لأحدهما بعنوان (الفلكي) وهو رواية عالية. وطرحت على (إسكندر نجار) صاحب الفلكي اسئلتي عن التباسات سماء العاصمة الثقافية, فتكلم: ..لقد خُلق جو معين لكن هذا الجو يتلاشى, من هنا كانت أهمية أن تكون هناك مشاريع ثقافية كبرى مثل المكتبة الوطنية الأوركسترا السيمفونية, المكتبة السينمائية, المتحف الوطني, المركز الدولي لعلوم الإنسان. وأعتقد أن 50% من المشاريع أنجزت؟ ومازال أمامنا 6 أشهر. النقطة الحساسة هي ما الذي سيضاف؟ برأيي أنه في لبنان جاء هذا الحدث في وقته لأننا منذ ان انتهت الحرب وحتى اليوم كانت الثقافة ليست من الأولويات. كان دائما ترميم الحجارة والاقتصاد من الأولويات وجاءت هذه السنة لتظهر أن الثقافة من الأولويات ونستطيع أن ننهض شيئا ما بالمشاريع مثل المكتبة الوطنية, فالكتب مكدسة في صناديق بالمستودع. جاء الخبراء ولدينا خطة للنهوض. هناك عدة مشاريع أعتقد عند انجازها نكون وضعنا حجر اساس للألفية الجديدة.

يوجد من يلومنا لأن هناك مشاريع هي أصلاً موجودة, إن إعلان بيروت عاصمة ثقافية هو عرس وكل الناس مدعوون إليه, فهي حالة جماعية لابد أن يحس بها اللبناني فإحساس اللبنانيين بها في حد ذاته تقدم لأنهم يحسون أن هناك شيئا جديدا يحدث في البلد وهذا يعطي زخماً للألفية الجديدة.

منذ مدة لعلكم سمعتم مرسيل خليفة قال شيئا استغربته هو أن الفن ليس في حاجة إلى أموال. هذا الشئ ليس صحيحا لربما بالنسبة له, هو مع جيتاره لو طلع إلى الشارع وغنى فلن يكون في حاجة إلى شيء. ونحن ككتاب عندما نجلس على الطاولة ونكتب أيضا. لكن المشاريع الثقافية الكبيرة من المؤكد أنها في حاجة إلى تمويل.

بالتأكيد لو كان لدينا أموال أكثر للثقافة لكنا فعلنا ما هو أهم لكن أعتقد أن هذه الحركة التي تحدث بحد ذاتها مهمة. يعني كل أسبوع هناك نشاطات متواضعة, وأخرى وسط, وثالثة كبيرة, هذه كلها مهمة كحركة. بالنتيجة ما سيبقى شيئان: أولا المشاريع الكبرى, ثانيا هذا الوعي لدى الناس بأن هناك شيئا اسمه ثقافة وهي من الأولويات مثلما الأمن والخبز والإعمار. المسرح في لبنان وكل العالم العربي لديه صعوبات كبيرة لأنه لا يعيش إلا المسرح الترفيهي, أما المسرح غير التجاري ـ حتى في فرنسا ـ فلا يعيش إلا بتمويل ومساعدة الدولة.

هذه السنة يوجد لدينا أكثر من 15 مسرحية مولناها لنؤمن الاستمرارية, على الاقل استطعنا أن نبين أن المسرح اللبناني الذي لعب دورا كبيرا في النهضة ونشأة المسرح العربي, مع مصر, أنه لا يزال موجودا أنا أعرف ـ كمثال ـ ثلاثة من الفرق المسرحية التي نساعدها لم تقدم عملاً منذ 1980 رغم أنهم كبار لأنه لم تكن لديهم إمكانات. هكذا بالمساعدة البسيطة نستطيع إكمال الطريق معهم).

الدليل

بين شقي الرحى, أو بين نصفي البرتقالة, وجدنا أنفسنا دائخين ونحن نتعقب آراء الفرقاء في موضوع العاصمة الثقافية, فثمة رؤية مفرطة في التفاؤل تقول بإنجاز كل شيء, وثمة رؤية مغرقة في التشاؤم تقول بأنه لن يكون هناك أي شيء. وثمة تحفظات ـ بين بين ـ تقول بأن المشاريع الكبرى كالأوركسترا السيمفونية والمكتبة الوطنية والأوبرا والمكتبة السينمائية لا يعقل إنجازها هذا العام. والمسرح في حالة متردية حيث تضاءل نشاط مسرح المدينة وأغلق مسرح بيروت أبوابه وصوت اتحاد الكتاب اللبنانيين خافت والتعليم في أزمة رغم وجود عشر جامعات.

وللخروج من هذا المأزق باتجاه تلمس الواقع تركنا أنفسنا للدروب, نسلكها باحثين عن فعاليات الثقافة في بيروت المعلنة عاصمة ثقافية للعالم العربي هذا العام, دليلنا هو البرنامج السنوي الذي أصدرته وزارة الثقافة والتعليم العالي للمناسبة وحجتنا كُتيب ـ صدر ضمن مجموعة متتالية من هذه الكتيبات ـ مخصص لفعاليات الشهر الذي كنا فيه ببيروت (يونيو 1999), وثمة رقم هاتف (1416) مخصص لارشاد السائلين عن فعاليات كل يوم.

البرنامج السنوي الذي يحمل اسم وزارة الثقافة اللبنانية وشعار هيئة اليونسكو, يميزه (لوجو) لطيف رسمه الفنان غازي قهوجي يمثل حمامة سلام بيضاء بجناحين ريشهما بألوان قوس قزح. وبعد أن نمر على لوحة لأمين الباشا رسمها للمناسبة تلوح كفسيفساء يتناوب عليها اللونان الأحمر والأخضر, ندخل في البرنامج.. وأول الدخول لحن عظيم يتحدث عن عشية الألفية الثالثة حيث تستعيد بيروت دورها كعاصمة ثقافية للعالم العربي, فتطلق وزارة الثقافة والتعليم العالي مشاريع ثقافية كبيرة (ستتحقق في القريب المنظور). وهي ـ أي هذه المشاريع ـ (تشكل البنية التحتية للمستقبل وستساهم حتما في تطوير الحياة الثقافية والعلمية في لبنان).

أما عن تفصيل هذه المشاريع الثقافية التي هي كبرى بكل تأكيد, فيعدها البرنامج: 1ـ اعداد تشريع ثقافي يناسب الألف الثالث يعنى بحماية الملكيةالفنية والأدبية ويشرّع لما يتعلق بالسينما والآثار. 2ـ انشاء أوركسترا سيمفونية (وعد البرنامج أن تجري تمارينها الأولية قريبا). 3ـ إحياء المكتبة الوطنية. 4ـ إقامة متحف للفن التشكيلي في طرابلس بمعاونة اليونسكو. 5ـ توقيع بروتوكول تعاون سينمائي مع فرنسا. 6ـ تخصيص صالة تكوِّن مكتبة سينمائية للأفلام والصور والوثائق المتعلقة بالسينما اللبنانية. 7ـ إنشاء دار أوبرا وطنية. 8ـ إنهاء الأعمال في المتحف الوطني. 9ـ تدشين المركز الدولي لعلوم الإنسان في جبيل. 10ـ إنشاء متاحف إقليمية في بشرى وانطلياس وجبيل وصيدا وصور وطرابلس وبيت الدين وغيرها من المدن. 11ـ إعادة ترميم المعالم الأثرية.

وبعد ذلك يشير البرنامج إلى المشاريع والفعاليات, (التي ليست كبرى), في الآثار والبيئة وسائر ألوان الآداب والفنون والعلوم والمهرجانات والأزياء والأطفال.

لاشك أنه تطلع طموح, لكن هناك من يلاحظ أن كل المبلغ الذي خصصته وزارة الثقافة لدعم المشاريع (وعددها 380 مشروعاً) لايزيد على مليون دولار. وقال أحد المتابعين إن اليونسكو وعدت بثلاثة ملايين دولار مساعدة (لكن بقي الوعد وعداً).

ثمة من علق بظرف على مجمل المشاريع المعروضة قائلاً: وإذا أنجزنا كل هذه المشاريع فماذا سيتبقى لنفعله في السنوات القادمة.

بحثنا عن المكتبة الوطنية فلم نجدها وقيل إن هناك 200 ألف كتاب في المخازن, أما المتحف الوطني فقد كان مغلقاً وإن وضح استكمال ترميمه من الخارج.

لجأنا إلى الدليل الصغير لفعاليات شهر يونيو, وكانت أولى صفحاته صادقة بالفعل رغم أنها تشير إلى أحد (المشاريع الثقافية الكبرى): معرض (المحفوظات الوطنية, ذاكرتنا).

قطعنا جادة فؤاد شهاب باتجاه الأشرفية, وأوغلنا في حي ارستقراطي تخفي أسيجة الأشجار داراته العريقة, وهبطنا أمام قصر باذخ العمارة البيروتية العريقة بلون أرجواني دافئ, وعندما شرع سليمان حيدر يدخل مقتربا بمجالات تصويره أوقفه الحراس. قلت: (أليس هذا متحف نيقولا سرسق? قالوا: لا, بل قصره. ودلونا على المتحف على مقربة خطوات بجوار القصر, وهو قصر آخر ناصع البياض صعدنا درجه الرخامي ثم دخلنا في رحابه فهالنا ترف الحفر البديع في الخشب الجوزي الذي يغطي الجدران, طابقان أفسحا لبعض من كنوز الذاكرة اللبنانية, مخطوطات ووثائق تاريخية وصور قديمة وأفلام وثائقية نادرة. مجموعة من دُرر التاريخ تتشكل من جزء من المحفوظات الوطنية اللبنانية وجزؤها الآخر من محتويات المكتبة الوطنية التي كانت في مبنى البرلمان اللبناني والتي بعثرت اثناء الحرب. انبعاث عجيب من ركام السنين وجوائح الحرب تضافرت في انجازه ارستقراطية نبيلة راحلة ومؤسسة للمحفوظات الوطنية وجهود فنانين لبنانيين وصناع وتقنيين مهرة بقوا على قيد الحياة.

ومن معرض الذاكرة ننتقل إلى منطقة الوسط التجاري, فنجد انبعاثا لذاكرة إضافية, أعمق وأبعد غوراً في الأرض وفي الزمان.

مرة أخرى ألتقي بالمجاز في ملموس الحوادث.. فمنطقة الوسط التجاري وخاصة ساحة الشهداء, هي من الأماكن التي كان استشهادها أليما وساحقاً عبر سنوات الحرب, تخرب معظمها. وبعد انتهاء الحرب وضعت خطة لإعمار وسط بيروت بطموح حداثي, أو حتى ما بعد حداثي, وتكفلت شركة (سولدير) بإنجاز المشروع, لكن ما إن شرعت الجرافات في إزالة خرائب الحرب ونبش الأرض, حتى نهضت بيروت التاريخ لتوقف الجرافات, وتقول: (مهلا, ثمة آلاف من الأعوام ترقد هنا, وسبع عشرة حضارة إنسانية تتعاقب آثارها تحت التراب). وقال فريدريكو مايور الأمين العام لمنظمة اليونسكو في تعقيبه على ما اكتشف ـ بالصدفة ـ من آثار في وسط بيروت: (إنها تعتبر كنزاً فريداً في العالم).

مكثنا نتجول في وسط بيروت مدهوشين من هذه المفارقة: قدرة الماضي على إيقاف الزمن ولجم جماح السباق إلى عمائر العولمة, فقرب مبنى البرلمان بساحة النجمة اشرأبت معالم مدرسة الحقوق الأولى التي بناها الرومان في القرن الثالث الميلادي وأكسبت بيروت لقب أم الشرائع. وثمة سور لمدينة فينيقية, وسور آخر وبوابة يعودان إلى الحقبة الكنعانية. أعمدة رومانية ونواويس ونقوش في الحجر لكتابات يونانية قديمة وقباء كنائس بيزنطية وبقايا قلعة صليبية في تل بيروت.

كل مفارقات الأزمنة كانت ماثلة في ساحة أبصارنا ومرمى الخطوات في وسط بيروت: ساحة رياض الصلح والدار الكبيرة مكتملا الترميم, بقايا الأبنية التي دمرتها الحرب, واجهات الأبراج العصرية, والأرض التي تكشف أحشاؤها ما تكتنزه من عصور وحضارات للكنعانيين والفينيقيين واليونان والرومان والعرب والمماليك.. وعلى السطح الانتداب الفرنسي وزمن الاستقلال والحرب الأهلية.

سفر هائل للثقافة التاريخية دوخ رءوسنا وأرهق أقدامنا, فآثرنا أن ننتقل إلى فعاليات برنامج العاصمة الثقافية (99) الصغير, برنامج شهر يونيو.. فلم نسترح!

كان هناك أكثر من ثلاثين معرضا في أكثر من عشرين صالة عرض شاهدنا منها معرضاً لمحمد القيسي في (غاليري أبوستروف), والثاني لبولاند نوفل في (غاليري مرايا) ومعارض لسيمون صقر, وريتا عون, وطلاب جامعة البلمند. ولاحظنا ما لاحظته الناقدة التشكيلية الدكتورة زينات البيطار, من أن (الفنان اللبناني ملوِّن بالفطرة وحساس لمسألة تناغم الضوء واللون, فالغنائية اللونية هي سمة الفن اللبناني اليوم) رغم أنف ستة عشر عاماً من الحريق. تذكرت أن ذلك يشرق بقوة في لوحات فاطمة الحاج ومحمود صفا ووهيب بتديني, وتمنيت لو أشاهد معرضاً شاملاً وجماعياً لكبار مبدعي لبنان اليوم, وبشرتني الدكتورة زينات البيطار بحدث ضخم يتهيأ للتحقق هو بينالي بيروت الدولي للفنون التشكيلية) الذي يكوِّن معرضا للفن التشكيلي العربي الحديث في القرن العشرين. لكننا لم نسعد بمعايشة تحقق هذا الحدث اذ كان سفرنا يسبقه.

برنامج شهر يونيو كان عامراً, رغم أن الزخم الأكبر كان ينتظر شهر يوليو ليبدأ اندفاعه مع موسم الاصطياف! في البرنامج فاتنا ـ بسبب قصر الزيارة ـ الكثير من الندوات الفكرية والحفلات الموسيقية وعروض مسرحية زائرة وأخرى لفرق تجريبية لبنانية وإن كنا أدركنا عرضا زائراً على مسرح المدينة للفرقة التونسية من تأليف واخراج المنصف السويسي وعرضا آخر لمسرح الدمى في قصر الأونيسكو تحت عنوان (شو حلو.. يا قمر).

أما الأمسية (الثقافية) المدهشة فقد كانت في مناسبة عيد قوى الأمن الداخلي, وقد ترددت في حضورها جرياً على المألوف في استغرابنا لعلاقة (الأمن) بالثقافة أو الأدب أو الفن. لكن الأمر في لبنان يبدو مختلفاً.

ذهبت وإذ بفرق موسيقى قوى الأمن تصطف خارج قصر الأونيسكو في انضباط عسكري نعم, لكن في أناقة مرهفة أيضاً, أما في الداخل فقد كانت وجوه الثقافة مشاركة في هذا الاحتفال, وزير الثقافة وقد عاد من السفر, وأركان وزارته, وفي الصفوف الأولى رأيت الشاعر الكبير سعيد عقل. وتألق على المسرح ـ كعادته ـ الفنان وديع الصافي, وشدت بعذوبة ورصانة المطربة فاديا نجم.

في الطبيعة والحرية

شيئان أخرجانا من دروب بيروت للبحث عن امتدادات العاصمة الثقافية في الجبل وما وراءه, أولهما تعقب حال المهرجانات اللبنانية الدولية التي تقام صيفا في المناطق التراثية والأثرية كجبيل وصور وبيت الدين وبعلبك, وثانيهما ذلك الملف الجميل الدقيق الذي قدمته لنا الملحقة الإعلامية النشطة زينة الجوعان وتضمن مجموعة كتيبات مصورة عن ملامح لبنان الطبيعية التي لم يكن ممكنا تجاهل تميزها.

تحركنا على عدة محاور خلال نهارات معدودة, إلى بعلبك, وإلى بيت الدين, وإلى جبيل. في بعلبك بوادي البقاع وعلى مبعدة 85 كيلو متراً من بيروت كانت أعمدة جوبيتر الستة تنتصب شاهقة لتطل على مجمع الآثار الرومانية بالغة الثراء, وفي قلبها كان الفنيون اللبنانيون يشيدون مسرحاً عصرياً مؤقتاً ليستقبل فعاليات مهرجان بعلبك الصيفي, وفي جبيل التي تبعد 36 كيلومترا عن بيروت كانت بقايا الربيع تذكرنا باحتفالات إله النبت أدونيس الذي يموت في الشتاء ويزهر في الربيع, أما في بيت الدين على مبعدة 43 كم من بيروت, فقد كانت جوهرة التشييد اللبنانية ـ قصر بيت الدين ـ نموذج العمارة المشرقية التقليدية العريقة والباذخة ـ تتألق في انتظار رئيس الجمهورية اللبنانية لينتقل إلى مقره الصيفي في هذا القصر, وفي باحته الكبيرة كانوا يشيدون مسرحاً لاستقبال فعاليات (مهرجانات) بيت الدين.

لقد تعجبت عندما قدمت لي مسئولة الصحافة في مركز إدارة المهرجان ببيروت ملف الفعاليات الأنيق الذي يستخدم في عنوانه صيغة الجمع (مهرجانات) بدلاً من مهرجان, لكنني بعد زيارة قصر بيت الدين ومكان المسرح وبعد أن تعرفت على اتساع البرنامج, أدركت أن استعمال صيغة الجمع حق مشروع للقائمين على هذه المأثرة الفنية التي هي مؤسسة ثقافية بذاتها, ساحة تتألق فيها باقة من موسيقى ومسرحيات ورقصات وأغنيات العالم الراقية, إضافة لما هو لبناني جميل وأصيل.

شيء آخر, مهم وشديد الأهمية, لفت نظري ونحن نجوب ربوع لبنان على هذه المحاور التي ذكرت, إنها الطبيعة سخية الجمال والمتنوعة بشكل نادر, الجبال الخضر, والأنهر الصغيرة والعيون, والسهل الخصب بين الذرى المتقدة بالشمس وراء الغابات, صواعد ونوازل مغارة جعيتا الملونة مذهلة الاتساع, ونهرها الجاري في أعماق الجبل.

كنز لفطرة الروح ومسرة للعيون لم أجد في برنامج العاصمة الثقافية إلا القليل المكرس لهما, بضع ندوات بيئية وكلمة موجزة, وخلا الجدل الثقافي من أي مداخلة حقيقية ترى أن البيئة قضية ثقافية كبرى لا تقل خطورة عن قضايا الكتاب والمسرح والأوبرا. فالبيئة الفطرية الجميلة والحرية, هما ـ في ظني ـ وظن البعض ـ أهم دوافع وروافع تميز ثقافة لبنان.

حول تلك الثقافة, وفي شرفة بديعة تطل على خليج جونيه والجبل الذي تتناثر في حناياه الخضر بيوت ناصعة البياض, دعانا الكاتب اللبناني المعروف وممثل مجلة العربي في بيروت الأستاذ جهاد فاضل إلى (غداء عمل) ضم إلينا فيه الشاعر محمد علي شمس الدين والمفكر اللبناني منح الصلح. ومع طيب الطعام اللبناني ـ الذي هو ثقافة إنسانية أيضاً ـ وفي أحضان جمال خليج جونيه, انساب الحديث.

مما قاله المفكر منح الصلح في إطار موضوع العاصمة الثقافية (إن بيروت أوجدتها إلى حد بعيد الثقافة والانفتاح على العالم) وأرجع ذلك إلى مولد بيروت (التاريخية ـ الحديثة) في منتصف القرن 19 بعد أن أخرج إبراهيم باشا الوجود العثماني منها. ورأى أن (ما يصون بيروت هو وجود الحرية والديمقراطية لضمان قدرتها على التجدد. ولابد من الاعتراف أن الديمقراطية لا تدوم إلا مع روح القلق عليها والخوف من زوالها).

أما الشاعر محمد علي شمس الدين فقد حدد ثلاثة معان ينبغي الانتباه لها في شأن العاصمة الثقافية بيروت: أن تتلمس دائما ثقافة سلم أهلي, وأن تستعيد حرية الرأي والرأي المضاد ـ أي تكون مدينة نقدية, وأن تكون معاصرة من حيث اهتمامها واهتمام النخب الثقافية والسياسية فيها بالمؤسسات الثقافية الكبرى.

وبلور مضيفنا الأستاذ جهاد فاضل التأكيد على معنى الحرية فقال: (عندما يجري لجم الروح والنقد ويبدأ الكاتب أو الفنان يعد للعشرة قبل أن يكتب أو يبدع أو ينشر, فعلى كل العواصم الثقافية السلام).

رفيف

ونحن نغادر فندقنا تمهلنا قليلا, ورحنا نبحث بين العمائر المتطاولة وفي سماء الشوارع المنحدرة نحو البحر عن مصدر الغناء, إنه شريط جديد لفيروز تترقرق فيه بلحن جديد لزياد, (اشتقتلك.. ايه والله.. اشتقتلك), فكأن حفنة فراشات ملونة مسحورة بضوء النهار انطلقت تخفق في فضاءات غابة الباطون, الخرسانة, أو الأسمنت المسلح, تتقاطع مع بعضها البعض, ويدور حول بعضها البعض, لكنها لا تتباعد, كأنها تخاف أن تتلاشى إن انفردت في هذه الدنيا المختلفة.

وهل كانت كل أصوات الفرقاء التي أصغينا إليها في مجادلة (بيروت عاصمة ثقافية للعالم العربي (1999)).. هل كانت شيئا غير ذلك؟

لقد أصغيت لشريط فيروز الجديد دون انقطاع ودون شبع من صوتها واللحن فيما بعد, أعجوبة أن ينجو صوت هذه السيدة من اجتياح السنين, وأعجوبة أن تستطيع التحول إلى فراشة تخفق بألحان زياد, كأن زمنا يحتضن زمنا آخر وينبض به.

أما جوهر الأغنيات ذاتها: (سلم لي عليه, واشتقتلك, وكان غير شكل الزيتون), فإنها مقاربة أخرى لما كنا نبحث عن إجابة له.

فثمة إدراك في الأغنيات بتغير العالم, وثمة حنين لما كان, لكن المثير والخطير في زياد وأمه, التي انضمت إليه, هو الإقرار بحقيقة أن لا سبيل لإرجاع الزمن, ولا معنى لترك الحنين يتأكلنا, فلنغن ساخرين من فرط حنيننا, سخرية رقيقة حلوة.. تعيننا على الاستمرار في غابة مدن الباطون الجديدة. فالثقافة كما عرفناها: الكتاب, واللوحة, والمسرحية, واللحن الراسخ, كل هذا يواجه الطوفان, ولو كان بالإمكان رؤية موجات البث الرقمي لأبصرنا بالفعل طوفاناً!!

 

 

محمد المخزنجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





بيروت عاصمة ثقافية





فراشات في غابة الباطون





بقايا سنوات الحرب المريرة تذكرنا بالجنون والقسوة فنحتفي بثقافة السلام





ميدان رياض الصلح والدار الكبيرة نموذجان لإرادة الانبعاث العمراني في لبنان اليوم





المتحف الوطني جهد خارق أنهضه من الحطام





متحف نيقولا سرسق .. صرح أهدته الأرستقراطية النبيلة لمجد الثقافة





من معروضات متحف الذاكرة الوطنية كنز روحي





بهاء من الحفر الدقيق والأنيق على الخشب يحتضن مقتنيات المتحف





على مسرح الأونيسكو... إنشاد رقيق وأنيق لقوى الأمن اللبنانية





الصافي ... لا يزال بقوة يشدو





حالة لبنانية خاصة: مؤسسة عسكرية في رحاب الثقافة تحتفل بعيدها





حفريات وسط بيروت: 17 حضارة إنسانية تصرخ من تحت الرماد





اسكندر نجار مسئول ملف العاصمة الثقافية أولوية كالإعمار والخبز





محمد ماضي مدير عام الثقافة: لا وصاية على المثقفين





في مقهى الـ سيتي كافيه معرض للفن وملتقى للمثقفين





السيد حسن: لمسة ثقافية في مقهى





قصر بيت الدين تحفة معمارية وساحة لعرض فنون العالم





تيتو بونتي إيقاعات في مهرجان بيت الدين





من أمريكا اللاتينية جاءت لتغني في صيف لبنان





الطبيعة في لبنان تطبع فنانيه بقدرات تلوينية عالية.. لوحة لوهيب بتديني





د. زينات البيطار: بينالي بيروت حدث فني كبير





وللأطفال نصيب في فعاليات العاصمة الثقافية





منح الصلح: لبنان صنعته الثقافة





محمد علي شمس الدين: ثقافة السلم الأهلي أولاً





جهاد فاضل: على كل العواصم الثقافية السلام