التائبات عن قرض الشعر

التائبات عن قرض الشعر

تعتبر مجموعة «أبولو» بأجزائها الثلاثة التي اضطلع بكل مقاديرها الشاعر الدكتور أحمد زكي أبوشادي راعي جماعة «أبولو» الشعرية والتي صدرت بين عامي 1932 و1934 مرجعًا أمينا لحركة الشعر ولو في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهي قد أفسحت صدرها لمئات من القصائد، لعشرات الشعراء تفاوتت طولاً وموضوعًا، عدا الدراسات الأدبية والنقدية التي تناولت الحركة الشعرية عمومًا.

ومما يستوقف النظر ويستثير الاهتمام أن صفحات «أبولو» رحّبت بعدد غير قليل من الشاعرات، هن 15 شاعرة، منهن المعروفات مثل الشاعرة السورية ماري عجمي والعراقية رباب الكاظمي وأيضًا الشاعرة جميلة العلايلي والشاعرة سهير القلماوي. لكن أغلبيتهن بتن مجهولات، فلم تتواصل رسالتهن الشعرية بعد مرحلة «أبولو» على نحو يستقررن فيه على قاعدة راسخة تكتب لهن البقاء في دوحة الشعر على مدى العمر.

وليس من التعسف أن نحكم بأن هؤلاء الشاعرات قد تُبن عن الشعر ودنياه وأدركن في فترة مبكرة أن طريق الشعر وعر وصعب المرتقى، وأن من الحكمة الانسحاب منه والانصراف عنه اكتفاء بما أنجزنه من قصائد عنيت مجلة مرموقة بالحفاوة بها.

وأبرز التائبات عن الشعر الأديبة سهير القلماوي، التي قنعت بنشر قصيدتين لا غير في المجلد الأول من «أبولو» هما «إلى الحرب» التي ساقتها على لسان جندي أجنبي ذاهب إلى ميدان القتال مطلعها:

قد وعدت الموت أن ألقاه ليلاً
عند سفح التلّ في فصل الربيع
يوم دوّى مدفع الأعداء ليلاً
منذرًا بالموت والفتك الذريع

أما القصيدة الثانية فكان عنوانها «هي ماتت» ومطلعها:

إيه يا أختاه، يا أخت الشقاء
هل سئمتِ الحبّ ميتًا والثواء؟
هل شفيت بعد أن عزّ الشفاء
هل وجدت الموت للداء الدواء؟
أم تراه زاد بلواكِ بلاء

ويكاد يكون من المؤكد أن المآرب الأكاديمية التي حطّت على سهير القلماوي بعد ذلك هي التي توبّتها عن قرض الشعر توبة نصوحًا حيث لم يُعرف بين آثارها المنشورة بعد ذلك ديوان ولو صغير يضم نماذج من شعرها أيام الشباب.

وحظوظ شاعرات «أبولو» تتفاوت، فهناك شاعرات اقتصرن على نشر قصيدة واحدة مثل بركة محمد والآنسة ز. السنوسي والآنسة ز.يسري وسنية العقّاد وفاطمة خليل إبراهيم وزينب سليم، في حين كان لشاعرات أخريات قصائد عدة مثل بشرى السيد ياسين (ولها 4 قصائد) وزينب الروبي (ولها قصيدتان) وحكمت شبارة (ولها 3 قصائد) وإقبال بدران (ولها قصيدتان). أما جميلة العلايلي التي بقيت صامدة في دنيا الشعر بعد هذه البداية المبكرة فقد نشرت في «أبولو» 7 قصائد متفوقة على جميع أقرانها من الشاعرات.

وأعرف بحكم صداقتي الحميمة للشاعر الدكتور أحمد زكي أبو شادي أنه كان يحتفي بالشباب من الشعراء والشاعرات ويعتبر أن أي محاولة ولو بدائية تستحق منه التشجيع بل الإشادة. ولا أستبعد أن تكون هذه الروح الحانية هي التي جرّأت كل هؤلاء - الشاعرات أو مشاريع الشاعرات - على خوض هذا الميدان ولو بتجربة شعرية واحدة دون وجل. ومع انتهاء عصر «أبولو» وراعيها، آثرت الأغلبية الساحقة من هؤلاء الشاعرات الانسحاب المشرّف من ميدان الشعر.

ولئن خلت مجموعات «أبولو» من أي شعر لصفية أبو شادي، الابنة الكبرى للشاعر، فإن هذا يُعزى إلى صغر سنّها في تلك الفترة، ولكن أباها كان الدافع الرئيسي وراء نشرها لديوانهاالوحيد «الأغنية الخالدة» في فترة تالية. وهو ديوان غلبت عليه صور الخواطر الشعرية. ولئن تابت صفية أبو شادي بدورها عن نظم الشعر، فقد كانت لها فلتات قليلة من المقطوعات صوّرت فيها بعض ما مرّ بها من تجارب الحياة دون أن يضمّها ديوان منشور.

والسؤال الذي لا أملك له جوابًا هو: لماذا انحسرت أضواء الشهرة عن كل هؤلاء الشاعرات بعدما أفلحن في نشر نماذج من شعرهن إلى جوار قصائد أعلام ذلك العصر: شوقي وحافظ ومطران والعقاد وناجي وزكي مبارك وخليل شيبوب والصيرفي وصالح جودت ومختار الوكيل وأحمد الزين وشفيق معلوف والشابي؟ وهل كُتب على الشاعرة - أيا كانت موهبتها من التواضع أو التوهج - أن تنسحب من دنيا الشعر بسبب دورها الأصيل في رعاية الأسرة وتنشئة الأجيال؟ أم أن توبة الشاعرة دليل على اقتناع مبكر بأن الشعر قد يصلح لتسجيل نزوة أو موقف أو شطحة عاطفية، ولكنه لا يُرضي طموح الشاعرة في الحياة، فتوجّه نشاطها إلى ميادين أخرى؟!

ولعل مجتمع الذكورة وقف سدًا منيعًا أمام الناشئات من الشاعرات فحال دون استمرارهن في ميدان لا سبيل إلى المنافسة فيه مع الفحول من الشعراء.

وإذا كانت شاعرات «أبولو» قد انسحبن في غير جَلَبَة وهن آمنات، فإن الأديبة ناهد طه عبدالبر التي كانت تنشر آثارها في مجلة «الرسالة» ممهورة بالأحرف الأولى من اسمها (ن.ط.ع) قد اختارت الانسحاب انتحارًا، وقيل وقتها إن المجتمع الذكوري ضاق بها وبآثارها، فلم تلتمس خلاصًا إلا في هذه النهاية المفجعة.

وكنت سألت الشاعرة جميلة العلايلي عمّا أغراها بالثبات في دنيا الشعر، ولِمَ لم تقرر بدورها التوبة عن معاقرته كما فعلت صويحبات لها؟ فقالت إن الشاعرية موهبة آمرة لا يد لصاحبتها في صنعها أصلاً، وقُصاراها أن تتعهد هذه الشاعرية وتنميها وتزيد من حصيلتها، لاسيما إذا ما أدركت أن الجماعة لا تتجهّم لها ولا تحاول تثبيط همتها. صحيح أن الشهرة يسري عليها ناموس الحظوظ فتحظى شاعرة بشهرة عريضة، في حين تظل شاعرة أخرى خاملة في الظل، ولكن إيمان الشاعرة بأنها تؤدي بشعرهارسالة في الحياة هو الدافع الأكبر والأقوى لمواصلة هذه المسيرة الشعرية بحلوها ومرّها.

ولعلّ من أسباب توبة الشاعرات عن نظم الشعر أن الشعر فضّاح، بمعنى أنه يكشف عمّا خفي من مشاعر المرأة مهما حاولت كتمانها أوالتستّر عليها أو التلميح إليها بالرمز. فهي إذا عشقت، تسللت صور هذا العشق إلى أبياتها المنظومة، وإن كرهت لم تستطع إخفاء هذاالشعور. وإذا عانت من تجربة فاشلة لم تملك إلا الجهر بها في شعرها المنظوم. ولأن الشاعرة تعيش بين الناس وتريد من المجتمع أن يحترم خصوصياتها وأسرار قلبها، فكيف يتحقق لها ذلك وشعرها نفسه يفضح هذه الخصوصيات والأسرار ولا يداريها?!

وعندما نشرت الشاعرة جليلة رضا سيرة حياتها - خارج نطاق الشعر - روت حكايات صريحة عن تجارب مرّت بها وخلت منها قصائدها، وكأنما أرادت أن تؤكد أن الشاعرة هي امرأة في المقام الأول وأنها لا تستطيع أن «تسترجل» حتى ولوحاولت. فالمرأة عاطفية حتى ولو داست على عواطفها مراعاة لمواضعات الجماعة.

على أن التائبات عن قول الشعر لم يفلحن في تلقين هذا الدرس لأجيال جاءت بعدهن من الشاعرات، سواء في مصر أو في البلاد العربية، وقد عرفت منهن في مصر إلى جانب جميلة العلايلي وجليلة رضا زوجة القليني وملك عبدالعزيز وأماني فريد، وفي البلاد العربية نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وعاتكة الخزرجي وفدوى طوقان وثريا ملحس، فكن جميعهن صامدات في ميدان الشعر حتى وإن تعاظمت من حولهن فحولة كبار الشعراء من الرجال.

فالشعر شعر أيًا كان قائله، رجلاً كان أو امرأة، والقوافي لا تفرّق بين صاحبة سوار وصاحب صوت مجلجل خشن.
---------------------------
* كاتب من مصر.

 

وديع فلسطين*