العاشق المصري

العاشق المصري

هذه اللمحة من محيط الذاكرة العالية لمبدع وناقد عربي كبير، ونبيل، صارت وثيقة بعد أن غادرنا كاتبها إلى رحاب الله عقب كتابتها.

أعترف أنني وقفت حائرا أمام هذا الموضوع مدة طويلة. وتذكرت حكاية قديمة, أن ملكا من الملوك أرسل إلى كبير مؤرخي عصره, طالبا منه أن يلخص له تاريخ الإنسانية في كتاب واحد, لأن هذا الملك كان رجلا رشيدا, وكان يريد أن يستهدي بحكمة الدهور فيما يعالج من أمور الملك. بعد أن غاب المؤرخ الحكيم عشرين سنة, قدم إلى القصر ووراءه جمل محمل بعشرين مجلدا ضخما, ما إن رآها الملك حتى عرته الدهشة, وكان قد نسى ما رغب فيه يوما من الاطلاع على سير الملوك السابقين, وأخبار الدهور السالفة, فلما ذكره المؤرخ الذي أنفق أخصب سني عمره فيما كلف به من عمل, قال له الملك: ها أنت ترى ما أنا غارق فيه من شئون الحكم, ألا يمكنك أن تختصر لي هذه المجلدات كلها في مجلد واحد أو مجلدين? وليتك تعمل, فإن الوقت يمضي سريعا.

عكف المؤرخ على النظر والتحرير خمس سنوات أخرى وهو يشعر كلما حذف جزءا من مؤلفه الضخم أنه يقطع رقعة من جلده, ورجع متأبطا مجلدين كبيرين, فنظر إليه الملك بشيء من الأسف, وقليل من الخجل, فقد كان المجلدان أضخم مما تصوره, وفهم المؤرخ الإشارة فانصرف بمجلديه, وعاد بعد عامين وفي يده مجلد واحد لطيف الحجم. ولكنه وجد جلبة في القصر, وأخبروه أن الملك مريض جدا, والأطباء داخلون خارجون عليه, فهم بالانصراف, وإذا بكبار رجال الخاصة يترقبون حضوره, فربما كان لقاؤه هو آخر رغبة لمليكهم المشغوف بالحكمة.

قدم المؤرخ العظيم مجلده الصغير بيد أرعشها كبر السن, فوضعه الملك بجانب فراشه وتمتم: لا أظنني أعيش حتى أقرأه. ألا تستطيع أن تخبرني بمجمله? اقترب حتى أسمعك.

قال الحكيم: نعم يا مولاي. إنها كلمات ثلاث: ولدوا. تعذبوا. ماتوا.

إعادة التاريخ البشري

أنتم المؤرخون يا سادتي وأنتم الملوك. ولست إلا إنسانا يعيد بغبائه تاريخ البشرية. وهأنذا أدلف نحو الثمانين ويعذبني السعي لإصدار مجلة مستقلة, وأغلب الظن أني سأموت قبل أن يسمح أولو الأمر بإصدار هذه المجلة. ولكنكم لم تطلبوا مني أن اكتب هذا المقال لأتحدث عن عذابي أو عن غبائي, بل لأنكم تحسبون أني أنجزت شيئا في حياتي الطويلة هذه, وأني لو تمهلت وترويت قليلا لوجدت شيئا له قيمة أحدثكم عنه. لقد غمرتموني بعطفكم, لا أنكر, ولكنني كلما دنوت من النهاية ملكتني العصبية, وتعلقت بأفكار تحتاج إلى عمر ثان لأحقق القليل منها. وبما أن العمر واحد, فلماذا لا أنفض هذه الأفكار بين أيديكم, فقد تجدون فيها شيئا يستحق أن يلتقط, وإذا لم تجدوا فيها شيئا فستأتي ريح ما وتذروها هنا وهناك, وإذا كان فيها شيء يستحق أن يعيش من جديد فسوف يعيش في غيري. يا سادتي أنا لم أتغير عن ذلك الشاب ابن العشرين, الذي قال في نوبة من نوبات اليأس والكبرياء ـ اللذين ورثتهما عن جدي المتنبي:

يا ظالميّ إذا أودعتمو جسدي
سجن التراب ووارى أعظمي القبر
فلي على الدهر أفكار مخلدة
لا يزهق الفكر حتى يزهق الدهر
وما أبالي بأوراق مسودة
كتبت أو يزدهيني القول والشعر
ففكرة في سماء الروح عارية
تبقى ويمحو البلى ما خطه الحبر

غير أني لم أعد ذلك الصبي الساذج, فأين هي هذه الأفكار? ومخلدة أيضا? ياه! أنا طائر دائم الهجرة, وله قدرة على أن يتلون مثل الحرباء, فإذا رأيته في مكان لم تعرف أنه هو بعينه ذلك الذي رأيته في مكان آخر, وإن كان في قلبه وصميمه طائرا وحيدا وحزينا, لم يتغير قط, ولا يريد أن يسكن, ولكنه كلما حط في مكان نبا به المكان, وكلما انتقل من مكان إلى مكان نصل لونه أو انجرد ريشه وأصبح له لون آخر وريش آخر, وهو لا يزال بعيداً عن السكون الذي يبحث عنه بعد الأرض عن السماء.

هل أنا ناقد؟

يعرفني المذيعون عادة بأني ناقد, وقد حاورتني تلميذة قديمة لي, هي اليوم شيخة: الناقد إذا نضج استقر على مذهب معين, ونحن لا نعرف لك مذهبا معينا في النقد. فما تفسيرك لذلك؟ وكان الجواب في ذهني حاضرا: أنت يا سيدتي صاحبة مذهب في النقد, أعلنته في أول بحث كتبته, ومازلت تتمسكين به, فهل تحسبين أنك بدأت ناضجة حقا, أم أنه يكفي ليكون الناقد ناضجا أن يستقر على مذهب كما يستقر في بيت يسكنه, وهو ومقدرته: فقد يكون غرفة في بولاق, أو شقة فاخرة في الزمالك؟ ولكنني طويت المعنى في نفسي, كما أطوي أشياء كثيرة, وقلت لها كلاما آخر.

ومرة أخرى قال لي صحفي أديب: لقد حققت نصا قديما, ووضعت قصصا, ونظمت شعرا, وأنشأت دراسات, وكتبت نقدا, وترجمت كتبا. ألم يكن الأولى بك أن تقتصر على نوع واحد من هذه الأنواع, فتنال شهرة أكبر؟

وكان جوابي الذي لم أقله كالعادة: يا سيدي أنا لست بياعا. أنا أكتب ما أكتبه, وأصنع ما أصنعه, لأني أرى في وقته أنه يجب أن يكتب, ولو كان غيره رائجا في السوق.

ولم أكن قد كتبت روايتي الوحيدة (الطائر الفردوسي) وفيها يحدث البطل نفسه: (إنه العاشق المصري الذي يبحث عن توأمه, القوة الهائمة التي تبحث عن شكلها, إرادة الحياة التي تبحث عن روحها). نعم أنا ذلك الإنسان الواقف بين العدم والوجود, لأن زمني لم يقرر بعد هل أوجد أو لا أوجد. لذلك أضطرب وأتخبط, كالجنين في رحم أمه. من المبكر جدا أن يسأل أحد عن ملامحي أو صفاتي.

ربما أولد عندما أموت.

ولكن لماذا كان هذا العاشق, أو هذا الإنسان, مصريا بالذات؟

ليست المسألة تعصبا أو (شوفينية) كما يقال: ولكنها رؤية المصري, من أقدم العصور, للكون ولنفسه أيضا. رؤية تتلخص في كلمتين (البا) و(الكا). البا هي القوة المطلقة التي تملأ الوجود, ولكنها لاتتحقق إلا بقرينتها (الكا): الصورة المتشخصة التي تتحمل الأوصاف والأبعاد, هذا الاتحاد بين المطلق والجزئي بين الشامل والمحدود, هو الذي سمح للمصريين القدماء أن يملأوا عالم الآلهة بما لا يحصى من الكائنات, أو بالأحرى أن يروا في كل شيء صورة ما من صور ذلك الاتحاد. كل ما في الوجود مظهر أو ذرة أو قبس منه, تحقق كما سمحت له الظروف في شيء مادي, ومهما صغر أو حقر فهو يمثل الكون الكبير أو يرمز له. أحسب أن هذه هي الفكرة التي عبر عنها أرسططاليس بصورة مشوهة في قوله بالعلتين الأساسيتين من علله الأربع: الهيولي والصورة. وأحسبها الفكرة التي استوحاها لايبنتس وصاغها في اصطلاحه المشهور: (الموناد) أو الوحدة الروحية التي لا تقبل التجزئة وإن كثرت صفاتها ومظاهرها.

وأنا حين أشير إلى هذه الفلسفات, التي لا أحسن أيا منها, لا أبغي إلا أن أجد مبررا معقولا لقلقي الدائم, وبحثي المستمر عن شكل قديم أو جديد أدخل فيه. ولعله من باب التبرير أيضا, أو الزعم بأني لا آتي شيئا منكرا, قولي بأن هذه هي حالة زمني, ليست حالتي أنا وحدي, فالعالم يتغير كل يوم تقريبا, وإذا اقتصرنا على التغيرات الأساسية أو البارزة, قلنا إنه يتغير كل عشر سنين, أو على الأكثر كل عشرين سنة, ومعنى ذلك أنني عشت في ثلاثة عوالم مختلفة, فأين أضع نفسي بينها? وربما كان الناس الذين يقومون بهذا التغيير منهمكين فيه إلى الدرجة التي تجعلهم غير واعين, ولكنني أنا المصري, أو أنا العربي (لا فرق) أجدني في موقف المتفرج, أو من يجري في ذيل الركب, فإذا تأملت ما يجري من حولي, ونظرت إلى حالي, تناوشتني الشكوك, وأصبح همي همين: أن أجري حتى لا يفوتني الركب, وأن أعرف ما أنا, وأين أنا من هذه القدرة التي عمت الكون كله. اعترف أني شخصيا مشغول بالهم الثاني أكثر من الأول, وأقول لنفسي, وأنا مستمر في الجري, ربما كان الأحجى أن أترك القوم في سعيهم, أو عدوهم, وأقرر, بعد أن ألتقط أنفاسي, أن أسير في اتجاه آخر.

رغبة من الانفصال والشك

هذه الرغبة الخفية في الانفصال, والشك في جدوى ما يجري في العالم الآن, هي التي تحكمني.

أقول لنفسي: لماذا أجدني دائما مضطرا!

وأقول لنفسي: أن يكون الركب دليلي, هذا هو الضلال بعينه.

وأقول لنفسي: استمع إلى الهاجس في داخلك, حاول أن تميز نبرة الصدق من نبرة الكذب في ذلك الهاجس, ثم حاول أن تجعله كلاما, وأن تسمعه للحائرين أمثالك, ربما, ربما كان هو ما يريده الروح الأسمى لك ولبني جلدتك. أستعيذ بالله من الكبر والغرور, ولكن المرء يجب أن يكون على شيء من الحماقة حتى يلقي بنفسه في المهالك.

وأسأل نفسي: لماذا أكون أنا أحمق القبيلة؟ لماذا لم أستمع يوما إلى قول ناصح؟ لماذا ـ وقد اخترت أن أكون كاتبا ـ لم ألزم طريقا واحدا في الكتابة, على الأقل حتى لا يتهمني من ينكرون عزوفي عن طريقهم بأني كاتب بلا شخصية, أو بلا (موقف)؟

ولكن ما حيلتي إن كنت كذلك?

أنا أول من يدهش لما أصابني من تكريم لم أكن انتظره, ولم أسع إليه.

وأنا اليوم شيخ, ولم يبق حيا من لداتي إلا القليلون, ولكنني لا اختلف كثيرا عن صبي صغير.

بل إنني لأتصور أن الذي صنع شخصيتي, إن كانت لي شخصية, هو شعور صبي صغير بين أناس أكبر منه وأقوى منه.

فقد نشأت في بيت ليس فيه أطفال. ودفع بي إلى المدرسة قبل سن المدرسة, فكان من حولي دائما أكبر مني سنا.

كنت, ولا أزال, أشعر كلما تصديت لعمل أنه فوق قدرتي, وكان الإقدام عليه يتطلب مني مزيجا من الشجاعة والتسليم بأنه لابد مما ليس منه بد. ولذلك كان أي نجاح أحصل عليه مفاجأة لي, قبل أن يكون مفاجأة لأي إنسان آخر.

أول نجاح أحرزته وفوجئت به كان عندما وقف أستاذ الجغرافيا فصل 2/2 بمدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم, ليعلن نتيجة امتحان ما, فقال: أعلى درجة حصل عليها أصغر تلميذ.

وعندما بدأت أكتب رسالة الماجستير, لم أكن أصدق أني سأحصل على الماجستير. وكانت دهشتي عظيمة لما أعاد إلي أستاذي أمين الخولي القسم الأول مبديا رضاه.

يظنني الناس متواضعا لأنني لا أستصغر عملا أقدم عليه, ولا أستعظم شيئا أنجزه, ولست متواضعا في الحقيقة, فقد تعودت أن أتطلع إلى ما أظن ـ في بادئ الرأي ـ أنه يفوق قدرتي, وأن استعذب العذاب في سبيل إنجازه.

ولست أرى في ألفاظ الأضداد أصدق من هذه المادة (عذب) يراد بها العذاب مرة والعذوبة مرة أخرى, ولا في أشعار العرب أصدق من هذا البيت:

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب

وإذا كان العذاب هو خلاصة حياة الإنسان بين الميلاد والموت, كما قال ذلك المؤرخ الحكيم, فإنه عذاب عذب إذا اختار الإنسان أن يمضي حياته سعيا إلى شكل يرتضيه للقوة التي تمور في داخله, مثل بحر بلا شطآن, ولكنه عذاب صرف إذا أسلم هذه القوة للضياع أو للاستعباد.

 

شكري محمد عياد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الدكتور شكري محمد عياد