مساحة ود محمد شعبان

مساحة ود

رغيف الأب

عشرون كيلومترًا, أو تزيد, هي المسافة بين قريتنا وأقرب مدينة, وبالنسبة إليّ كانت, ولاتزال, فاصلاً عاتيًا بين عالمين: أولهما رأيته, وأراه دائمًا, ولم أتعرف إليه, والآخر لم أره من قبل, ولكن خيالي حفر الكثير من ملامحه بين ثنايا روحي!

وقد علقت بأبي يومًا, عندما همّ بالذهاب إلى هذه المدينة, رفض وألححت, ولمّا ظل رافضًا بكيت, فتدخلت أمي بقوة غير معهودة:

- ماذا يحدث إذا أخذته معك?!

أشار أبي أن: تعال, فانقطع نهر الدمع, وانطلقت الزغاريد في كل خلية من الجسد الصغير الذي كنته, والذي أخذ يقهقه قفزًا بين الأرض وموضع السحاب!!

سار أبي/الملك إلى موقف السيارة الوحيدة التي تصل قريتنا بالدنيا, وتبعته كطاووس! وللأمانة خيّل إليّ يومها أنني صرت الملك وهو - أبي بشحمه ولحمه - من كان يتبعني!

وصلنا فإذا السيارة ممتلئة, لا مكان فيها لقدم واحدة, فكيف لأربع وبدنين?!

قال أبي: لا مكان لنا في السيارة... سأذهب أنا سيرًا على قدمي, عدّ أنت إلى البيت!

تعلقت بطرف سرواله الأسود من جهة السيارة, وبكيت, بكيت بأعلى صوت أستطيع ليسمع المتجمهرون في السيارة وحولها.. فوافق... وسرنا معًا إلى المدينة!

بعد مدة ومسافة تعبت, وجعت, انعطف أبي إلى ظل صخرة كبيرة وقعد, فارتمى بدني على الأرض أمامه.

أخرج أبي من عبّه رغيف خبز... قال: خذ.

قلت: لا أستطيع أن آكلها وحدي!

قسم الرغيف قسمين, اعتنى أن يكونا متساويين تمامًا, أعطاني قسمًا واحتفظ بالآخر.

تناولت حصتي, وبدأت بالتهامها, وكانت ألذ ما ذقت من خبز!

- أبي... من أين هذا الخبز الطيب? هل هو من المدينة?!

(كل بسرعة... يجب أن نصل باكرًا... لننهي أشغالنا).

بعد مدة ومسافة, تعبت وجعت, توقفنا إلى جانب بركة ماء صغيرة, سحب أبي من عبّه نصف الرغيف, وقال: (كل).

قلت له, وكنت أعني ما أقول: مستحيل أن آكل وحدي. قسم نصف الرغيف إلى قسمين, حرص أن يكونا متساويين تمامًا, أعطاني قسمًا واحتفظ بالأخير!

أكلت حصتي بنهم ومتعة, شربت وراءها من البركة الصغيرة ماء أطيب من الماء! وعدت كأنني ولدت من جديد... وانطلقنا.

عندما لاحت المدينة من بعد فرحت فرحًا مع استغاثة معدتي فتعثرت خطاي.

وقف أبي. استدار نحوي وابتسم كما لم يبتسم لي في حياتي... قال: أنت جائع?

قلت: نعم... ولكن من أين الطعام?

مد يده إلى عبّه. أخرج الباقي من الخبز, التقطته من يده بلهفة, نظر إليّ وضحك برنين عالٍ وعذب... لم أدر هل هو يضحك لي أم عليّ... قلت وأنا أقذف آخر لقمة من الخبز إلى معدتي.

أنت لا تجوع! كم أتمنى أن أصير مثلك!!

 

محمد شعبان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات