تغيّر الزمان, وتغيّرت البلاد والعباد, لا نقول إلى الأسوأ أو إلى الأفضل, فلكل زمان رؤية خاصة, ومعايير القياس تختلف باختلاف موقع الراصد لزمانه, فثمة من يرى أن هذا الزمان أفضل بمعايير الرفاه واليسر المعيشي الواسع, وسهولة انسياب مفردات الحياة ومتطلباتها, وثمة من يرى أن ذلك لا يساوي شيئاً في مقابل نبض الذكريات وأيام زمانه الجميلة.
ومما لاشك فيه أن الزمن ينمو, فيما تتراجع أعمار البشر, ولو تصوّرنا أننا نعيش في ظلال شجرة وارفة اتسعت ظلالها من تراكمات جهود البشر وإضافات إعمارهم, فإن ثمة لحظات في عمر الأمم تبدو كنبتات خضراء تجاهد في الطلوع والبزوغ, لها بهاء البراعم وفيها رقة أعوادها.
تلك أزمان البدايات في أعـمار الشـعوب والأمم, وقد لا نخطئ كثيراً إذا احتسبنا الفترة قبيل منتصف هذا القرن الذي نودع, هي عمر البدايات لمعالم المعاصرة في الكويت, وهي الفترة التي شهدت تفتح جيل من روّاد الإبداع والثقافة والوطنية في هذا البلد الصغير, الكبير بصفاء تطلعاته الحضارية, ذلك الجيل الذي تفتحت رؤاه على أحداث ما بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية, ونهوض الدعوات القومية في البلاد العربية. ومن فرسان هذا الجيل, كان فهد الدويري الذي تأثر بتيار حركة النهضة العربية والدعوات ضد الإنجليز في كل البلاد العربية, وكان موقف الإنجليز من والده المناهض لهم قد شكّل بدايات تفكيره الوطني في تلك الفترة.
إن العربي تخصص له هذا الملف, بأقلام أصدقائه, بعضهم من شركاء طفولته ومرحلة شبابه الأولى, ومنهم رفاق طريق وحياة, وبعضهم تتلمذوا على كتاباته وإبداعاته الفنية, هذا الملف ليس فقط من قبيل الوفاء تجاه رائد مخلص في فنون الكتابة وطرائق التفكير, خاصة وفاء من عرفوه مثلي, إنساناً ومثقفاً نبيلاً في الحالين, بل لأننا في حاجة ماسة الآن الى الالتفات إلى الوراء قليلاً باتجاه ذلك الزمن الجميل وفرسانه, نستلهم منهم إحياء لقيم الاحتفاء بالثقافة, والإخلاص لها, والدأب فيها, حتى نصحح بعضاً من اندفاعات زمننا المادي الصارم, لدرجة (الجلافة) والذي لا يقيم وزناً كبيراً للروح الإنسانية بكل تجليّاتها الجمالية, واحتياجاتها الأساسية في مواجهة الروح المادية التدميرية للإنسان في داخلنا. وعندما ننظر إلى فهد الدويري كواحد من أبناء ذلك الزمن, وفرسانه, يتوهج حنيننا كثيراً إلى ذلك الزمن الجميل المحلق في ساحة الثقافة والإبداع, والاندفاع وراء البحث عن كل أسباب الترقي والتحضّر الإنساني.
من المؤكد أن الثقافة اختلفت أبعادها ورؤاها, والإبداع تطورت تقنياته ومفاهيمه, لكننا عندما ننظر إلى فهد الدويري في إطار زمنه وبيئته نشعر بالإكبار لهذا الرائد من روّاد الأدب, والإبداع الفني, حيث الثقافة لديه والمعرفة شرط من شروط الحياة, وكان جيله من الروّاد يتنفسون بارتياح كلما عثروا على كتاب أو فكرة جديدة, في زمن ضنين الإمكانات, معزول بحكم رقة حال البيئة آنذاك, وبحكم الظروف التي كانت سائدة في المنطقة, لقد كان زمناً جميلاً حقّاً, وكان فهد الدويري أحد فرسانه, وها نحن نتذاكره وفاء لقيمه, وحنيناً إلى زمن يعلي في نفوسنا شأن الثقافة في أيامنا هذه.
ولا يُفهم من حديثي هذا أن راحلنا قد توقف بعيداً عن زماننا, واختبأ في زمانه بعيداً عن مجرى الأحداث في وطنه, نعم لقد ابتعد عن النشر والكتابة, لكنه بقي ممارساً في قلب أحداث وطنه مشاركاً في مسيرة تطوّره ونهضته, وعندما زلزلت الأرض بالحدث العظيم, وسحقت جنازير الدبابات العراقية كرامة العرب, واهتزت قيم الثقافة العربية في أغسطس 90, تفجّرت نفس فهد, وانسابت جراحه على الورق, فسطّرت لنا عمله المهم (ريح الشمال) الذي يعتبر من الأعمال المهمة القليلة التي أبدعها أدباء الكويت تأثّراً بهذه المحنة.