أبوالعتاهية الصغير

أبوالعتاهية الصغير

حينما وافى القدر الصديق القديم, فهد يوسف محمد المنيس الدويري, كنت في مدينة لندن للعلاج, وبعدما قرأت خبر وفاته في صحفنا, انتقلت بذاكرتي إلى الماضي, عندما كنا نعيش في حيّ واحد هو (فريج الفرج) وردّدت بيتين خطرا بالبال من قصيدة لي قلت فيها:

يا زمان الوصل يا عهد الصبا يا معيناً من سهاد وأرق
قد مشى العدّاد نحو القهقرى ومضى العمر سريعاً وانطلق

كنا زملاء صغاراً في مطلع الشباب, نتحفز للدخول في معترك الحياة, ومع اللهو واللعب كنت محبّاً للقراءة منذ الصغر, وكان زميلي الأخ فهد محبّاً للقراءة والاطلاع أيضاً. وفي عهدنا- عهد الصبا- تشحّ الصحف والمجلات, وكذلك الكتب.وإذا وقع في أيدينا شيء منها, رحنا نتداوله قراءة واطّلاعاً وبحثاً, واتفقت معه على أن نتبادل الرأي فيما بيننا عمّا نقرأ مما يقع في أيدينا من كتب أو مجلات أو صحف كتابة, يكتب لي رأيه, وأكتب له رأيي, ونرخي العنان لعقولنا الطرية أن نفكّر بحرية, تنقد أو تشيد, تذم أو تمدح, ونرسل أقلامنا تكتب كيفما اتفق على طبيعتها.

وعليك أن تلاحظ كيف تم الاتفاق بيننا على هذا النهج في عهدنا البكر على الكتابة وتبادل الآراء, ونحن نعيش في حيّ واحد, وفريج واحد, وسكنانا متقاربان, بل ونلتقي كل يوم بعد المدرسة? لكن حبّ الكتابة, وحب القراءة والاطلاع, كل ذلك دفعنا إلى أن نكتب, ونتبادل الرأي, الأمر الذي أدى بنا إلى كثرة القراءة للحصول على المادة التي تساعدنا على الكتابة وتبادل الرأي, وقد كنا في عهد ليس عندنا فيه صحافة, وليس عندنا مجلات نكتب فيها ونجرب أقلامنا وننشر آراءنا المبكّرة الطرية, لهذا تبادلنا الرأي كتابة ردحاً من الزمن, وكان ذلك في الثلاثينيات وفي الأربعينيات, حتى تجمع لدى كل منا الكثير مما كتبه له صاحبه, وفي أواخر الأربعينيات, انتقلنا نحن إلى حي آخر هو (حيّ الصالحية) الذي أكله الآن تقدم الكويت وتقدم عمرانها حسبما اقتضته طبيعة الحياة, وطبيعة الحياة التقدم والتغيّر, والتغيير.

شاعر قبل أن يكون قاصّاً

منذ عدة سنوات, قلت للأخ فهد: لدي شيء جميل لطيف سوف أهديه إليك لتتذكر به ماضينا الحلو الجميل, وأذكّرك فيه كيف كنت تكتب الشعر وتسمّي نفسك (أبو العتاهية الصغير), لكنك لم تواصل كتابة الشعر وملت إلى كتابة القصة. قلت له ذلك, فسكت وانتقل بفكره بعيداً إلى الوراء, وتذكّر الماضي, وتذكّر عهد الصبا حيث الكواهل لم تنؤ بأحمالها بعد من ثقل أعباء الحياة. وتللته من فكره وقلت له: بل كيف كنت تكتب الشعر لي, وكيف ترخي العنان لقلمك كي يخوض في الأدب وفي الشعر, بل وفي الفلسفة, وكيف كنا نكتب بحرية في كل شيء, فلا رقابة ولا رقيب, ولا منع ولا ممنوع, ولا محرّم, كل شيء حلال مادام يصبّ في صالحنا وصالح حياتنا, حيث إن كل ما كنا نكتبه لا يُتداول إلا فيما بيننا نحن الاثنين.

وسبح الأخ قليلاً في فكره وقال: (يا معوّد لاتفضحنا), فقد أدرك أن سوف ما أفاجئه به يزيد عمره على نصف قرن أو أكثر, وواعدني بالزيارة في منزلي بالشامية, وهو المنزل الذي أقيم فيه الآن, وزارني فعلاً في الوقت المحدد, وكنت محضّراً له الهدية المفاجأة, مجموعة أوراق مما كان يكتبه لي, وفيه شعر وكتابات في الأدب وفي الاجتماع والقصة, وفي الفلسفة أيضاً, وهذا ما كنت أحتفظ به, وفلت مني البعض وضاع أثناء تنقلنا من حي إلى حي, ومن ثم أثناء انتقالي إلى مصر للعمل هناك في بيت الكويت.

تصفّح الأوراق, وتصفّح الشعر الذي كتبه لي وعليه تاريخه 26/9/1960هـ أي في 16 أكتوبر سنة 1941م بتوقيع (أبو العتاهية الصغير) وتحته (فهد اليوسف المنيس), وتنهّد وقال: استر علينا, فهذه فضيحة تدل على تقدّمنا بالسن, قلت: إن الأيام تركض ولا تتوقف, والسنين تمرّ كلمح البصر.

وما ماضي الشباب بمسترد ولا يوم يمرّ بمستعاد

ورحنا في غيبوبة نتذكر حيّنا, ونتذكر أيامنا المنفلتة, حيث الكواهل لا تحمل شيئاً من أثقال الحياة, والأجسام تخلو من عوائق الأمراض وأعبائها المزعجة.

وتذكّرنا دكّة (الدويري) التي كثيراً ما كنا نجلس عليها, ونتفلسف بالآراء الطرية, وتذكرنا (مسقّف) العبدالرزاق وروّاده, وتذكرنا لعب الجيْسي, والتيلة, والجعاب, وتذكرنا مختلف ألعابنا (هول, وياي, و (أمّها وأبوها)), والحيلة أيضاً! وهذه من الألعاب الشعبية المعروفة عندنا في الكويت.

صور من عهد الصبا

وتختلط علينا ذكريات عهد الصبا, وما ارتسم في الذاكرة من صور مختلفة لحي الفريج, ولأتراب الصبا, فهذه (الدروازة) وهذا (جاخور الشيوخ), وهذا مسجد العبدالرزاق الذي يؤم فيه الوالد المصلين, وهذا بيت العبدالرزاق أحدهما يميناً والآخر شمالاً, وهذه الحفرة يميناً, والمسقّف يساراً, إنها صور شتى مرسومة في الذاكرة يختلف فيها التاريخ ويضطرب. والتاريخ ما يضعه ويسطّره الإنسان لحياته, وللأحداث التي عاشها في خيرها وشرّها.

وكنا نحن الأولاد نقوم بواجباتنا اليومية, وللبنات واجبات يومية أخرى, هذه عليها اليوم الطبخ, وتلك عليها غسيل الأواني وتنظيف البيت, وغير تلك وهذه عليها تكسير الحطب, الكرب و (الكرم) وغير الكرب والكرم, والكرب هو جذور سعف النخيل القادم من البصرة, و (الكرم) هو الحطب المجلوب من برقضيّ في الساحل المقابل, حيث تنبت أشجار (الكرم) والقضا, وأما الأولاد, فهذا مهمته اليوم شراء الخبز من الخباز, وكذلك شراء الباجلا (الفول) للريوق, وذاك واجبه الشاوي يروح بالغنم صباحاً ويأتي بها مساء, وآخر إما يشتري للغنم الجتّ (البرسيم) أو (الجولان) الذي يأتي به الجمال من شط العرب بالبصرة.

غصن طيب المنبت

مازلت أتذكر العم يوسف والد فهد, والجدل الذي حدث بينه وبين أحد الفضلاء بعد الخروج من المسجد حيث رأيته يدق على صدره ويقول لمجادله: إن كنت لا تعرفني فأنا يوسف المحمد المنيس, واحتدم بينهما الجدل إلى أن ساوى بينهما الوالد رحمهم الله جميعاً, وأزال سوء التفاهم الذي حصل بينهما, كان ذلك بعد صلاة المغرب في أحد أيام الصيف, حيث صفوف المصلين في الحوش, والصف الأول يقع طرفه في مدخل المسجد, حول الباب, والداخل إلى المسجد يخلع نعليه قبل أن يخطو خطوة ليدخل المسجد, وربما حدث الخلاف بينهما بسبب خلع النعال قبل الدخول إلى درج باب المسجد, حيث المدّة التي يصلي عليها المصلون.

ولكأني أراهما الآن أمام ناظري يتجادلان ويتعايبان, ويخطّئ كل واحد منهما الآخر.

وأكثر إقامة يوسف الدويري كانت في البصرة, ولهذا, فالزميل فهد كثيراً ما كان يتردد على البصرة, ويأتي أحياناً ومعه بعض الصحف والمجلات, أو بعض الكتب نتبادل قراءتها ونتبادل الرسائل بشأنها.

وللمرحوم فهد أفكار يؤمن بها ويدافع عنها, ونصطدم أحياناً حولها. ومع الشعر كتب في الفلسفة, ونتجادل أحياناً حول بعض المسائل, حول الفلسفة وحول الإيمان, وعدم الإيمان, ونخوض في جدال حول رسالة الإسلام العظيمة, ويشتد الجدال حول العروبة والإيمان بها طريقاً للتقدم, وحول الوحدة كطريق للخلاص من الاستعمار الغربي.

والتقينا واتفقنا ذات ليلة على عبث مدير المعارف, وشاركنا بعض الزملاء وكتبنا مناشير ضده, وضد اتجاهه الذي كنا نتصوّره يضر بالطلاب, ومن ثم يضر بالكويت, ونمّ علينا صديق منا, فقُبض علينا وعُوقبنا بالضرب وأدخلنا السجن.

محاولات.. لم تتوقف

كنا نفكر ونعمل عن إيمان, ونكتب بصدق, نبحث عن الحقيقة, ونتلمس الطريق السليم حسب عقولنا وحسب قناعاتنا, ويشاركنا الزملاء في التفكير والرأي.

وانشحذت أقلامنا, وانصقلت أفكارنا بالمراسلات وبالمشافهات, وشتان بين المشافهة والتحرير حيث تتجمع أفكارنا, وتتأمل عقولنا وتتمدد خيالاتنا, نكتب ونشطب بعض ما نكتب, ونكتب طوراً ونلغي ما نكتب, ونبيّض ما سوّدناه من أوراق, وربما ألغينا ما كتبنا وأعدنا كتابته من جديد, حتى تستوي لنا الفكرة ويكتمل الموضوع ويستقر الرأي.

وبعد لأي وجدنا أنفسنا منطلقين بالكتابة, ولا نرضى عنها بديلاً, ولا نود أن نبدي رأياً أو نتحدث شفاهة عن موضوع قرأناه, أو قصيدة ترنمنا بها, أو قصة سبحنا مع أخيلتها, وأقدمنا على المراسلة والكتابة في الصحف, ونشرنا بعض ما تمجّه أقلامنا من كتابات أو شعر أو قصص, ونشرنا في بعض صحف ومجلات العراق مثل (لواء الاستقلال), ونشرت في بعض مجلات سـوريا ولبنان مثل مجلة (أصداء) و (التمدن الإسلامي), ولا مجلات ولا صحف في الكويت حينذاك, ولا مطابع للنشر.

فمَن الذي ألهمنا في تبادل الرأي بالكتابة? ومَن الذي دفعنا إلى مثل هذا الأمر العجيب? إنه الإلهام وحده, والحسّ الأدبي من عهد الشباب, وغرز فينا هذا الإلهام حبّ محاورة القلم, والخوض والتنقيب في بطون الكتب. وكان في ذلك العهد محمد بن سيّار مكتبة متنقلة بين الناس يبيع الكتب ويشتريها, يبيع هذا كتاباً, ويشتري من ذاك كتاباً, ومحبّو القراءة يشترون منه كتاباً وبعد قراءته يبيعونه إلىه ليشتروا بثمنه كتاباً لم يقرأوه, وتُقرأ الكتب أكثر من مرة, وتدور بين الناس, وربما حبس أحدهم كتاباً تمكنت محبته في نفسه, وخير للكتاب أن يتداوله الناس, وكل واحد يستخلص منه الرأي والعبرة, وتكدّست الكتب عند بعض الناس غير المحتاجين للمال, أما الذي لا يملك من المال شيئاً, فتجده يشتري الكتاب ويقرأه ثم يبيعه ليشتري كتاباً غيره.

إن تبادل الرسائل بيني وبين الزميل فهد, رسخ محبة الكتابة في قلبينا, ووسّع من مداركنا, وفتح أفكارنا, وأثرى معلوماتنا, وهذّب من اندفاعنا نحو الألعاب, وقلل من ميولنا إليها شيئاً فشيئاً.

ذكريات ذات شجون

ومضى رفيق الصبا والشباب, ولم يطبع ما خلفه من كتابات فكرية وأدبية وفلسفية وشعرية أيضاً, وربما لم يقتنع بها ولم يعرها اهتماماً, وأعرف ما كان يكتب ويسطّر خواطره وأفكاره, لاسيما تلك التي كان يبعثها إلي وأردّ عليها بالنقد الذي تعوّدنا أن نمارسه كل منا مع الآخر بحريّة, فهو ينقد ما آتي به من أفكار وآراء, وأنا أفعل كذلك, وما كنا ندري أن مثل هذه الكتابات المبكّرة سيكون لها قيمة أو شأن, وضاعت هباء, ولم يبق منها إلا بقيـة لا يحسب لها حساب.

وبموت المرحوم فهد, ثارت في النفس شجون وشئون, وانبعثت ذكريات, ومرّت في الخاطر أحداث ومفارقات.

كنت أحاول منذ سنوات رصد بعض ذكريات الماضي بالقلم, وتخونني الذاكرة, وتختلط علي الأيام, وتقفز في الفكر ذكريات, وتختفي ذكريات, وقد تطلّ علي ذكريات متأخرة, وتختفي ذكريات متقدمة, وتتداخل تواريخها, فأجفل وأتردد وأمتنع عن الكتابة, أتوقف عاصراً الفكر, لكن الفكر عاجز عن أن ينتظم تواريخ الذكريات.

كانت حياتنا في الكويت بسيطة, وكانت الشوارع (سكيكا) هادئة ملتوية, تتخللها بعض الحفر الكبيرة, تتجمع فيها مياه الأمطار, فلا مجار ولا مخارج للمياه, فإذا اشتدت الأمطار وهطلت بغزارة, سبّبت الكوارث, وهدمت البيوت, حتى أن بعض حوادث الأمطار الرهيبة صارت مرجعاً لبعض الناس في سجلاتهم, سجلات للوفيات, والولادة, والزواج والطلاق وغير ذلك, وكانت الكويت خلواً من مثل هذه السجلات, وكنا صغاراً نستأنس بهذه الحفر حينما تمتلئ وتفيض بمياه الأمطار, ونستأنس حينما تنحسر عنها.

وفي الربيع حينما نفتش فيها عن (القبابي) لصيد الطيور, وتطلع علينا أنواع من الدود صغيرة وكبيرة نطلق عليها أسماء اتفقنا في الكويت عليها, وهكذا نقطع الحياة بين الحفر حيناً, وفي المدرسة أحياناً, وأحياناً أخرى مع الورق والقلم نخوض في شئون الفكر وشئون الشعر, وشئون الأدب والتاريخ, وشئون الفلسفة بل والسياسة.

ومضى رفيق الصبا والشباب إلى رحاب ربّه بعد عناء وكفاح مع المرض.

فليرحم الله فقيدنا (أبو العتاهية الصغير) فهد يوسف المحمد المنيس الدويري, وتغمده بواسع رحمته ورضوانه, وألهم ذويه الصبر والسلوان.

 

عبدالله زكريا الأنصاري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات