أضواء على حياة الدويري الأب

أضواء على حياة الدويري الأب

" الابن سرّ أبيه"

كان مبارك بن صباح المولود عام 1844م والمتوفى عام 1915م, والذي تولى الحكم عام 1896م هو الحاكم السابع من أسرة آل الصباح, وهو مشيد أركان هذه النهضة التي نشهد آثارها اليوم, وهو مرسي قواعد استقلال الكويت بمنأى عن سيطرة العثمانيين الذين بسطوا جناح دولتهم على معظم ما جاور الكويت من بلدان.

كان مبارك طموحاً, ويطمع بمدّ سلطانه السياسي, والتجاوز به إلى ما وراء حدوده, وقد حال أمران دون تحقيق ذلك. (أولهما), المال: فقد كانت خزينة الدولة لا تسمح بذلك, لضآلتها وقلة مواردها. و (ثانيهما), شعب قليل العدد لا يطمح بغير الأمن والاستقرار.

اتصل مبارك بالإنجليز وعقد معهم معاهدة حماية بعد مماطلة شديدة. فلقد خشيت أخيراً بريطانيا من أن تُمدّ الذراع الروسية إلى الخليج العربي بعد أن فتحت الدولة العثمانية باب المفاوضات بشأن إعطاء امتياز مدّ الخط الحديدي من البحر المتوسط إلى الخليج العربي لواحد من التجّار الروس. فوافقت بريطانيا على عقد الحماية وإعلانها في عام 1899م.

وتنفس الشيخ مبارك الصعداء, فلقد تم تأمين الاستقلال وذهبت منه الخشية من السطوة العثمانية, وأعدّ نفسه ليكون حاكماً على ما جاوره من حدود وقبائل. ففرض على الناس ضرائب لتوفير المال. فعلى كل دار تباع وتشترى ضرائب. ورفع المكوس على كل بضاعة ترد الكويت أو تغادرها, واتصل بمصر في عام 1901م لترسل إليه من رجالها ذوي الخبرة العسكرية وضباط جيشها من ينظم له جيشاً حديثاً بعتاد حديث.

وعلمت استنبول بهذا الاتصال من جواسيسها المبثوثين في العالم العربي وخاصة في الكويت بعد معاهدة الحماية, فثارت ثائرتها, فامتنعت مصر عن القيام بهذه المهمة, واعتذرت بلباقة عن عدم قدرتها تلبية رغبة الشيخ مبارك حرصاً من مصر على إبقاء العلاقات طيبة مع السلطنة, وقد ذكرت ذلك جريدة الأهرام يومئذ.

وتوفي الشيخ مبارك- رحمه الله- عام 1915, وخلفه في الحكم أكبر أنجاله الشيخ جابر لكنه لم يستقر في الحكم طويلاً. لقد توفاه الله عام 1917م ولم يمكث إلا عاماً وثلاثة أشهر تقريباً, وتولى من بعده الحكم في الكويت الشيخ سالم بن مبارك الصباح في 1917م.

كان للشيخ سالم المبارك صديقان أثيران لديه من قبل أن يتولى الحكم, نالا من الحظوة عنده قدر ما نالاه من الجفوة من الخصوم والحسّاد. (الأول) هو الشيخ أحمد الفارسي, درس في الأزهر بمصر في القرن التاسع عشر وحصل على الشهادة العالمية ثم عاد إلى الكويت, وكان من أسباب توقير الشيخ سالم له أنه سأله يوماً عن تمام بيت زهير بن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

فقال الشيخ أحمد الفارسي بحضور بديهة:

ثمانين حولا (يا أخا المجد) يسأم

فتوقف الشيخ سالم ثم قال له: ما هكذا الرواية يا شيخ!

فقال الشيخ أحمد الفارسي: نعم, هو خاطب صاحبه بما يراه وأنا أخاطب صاحبي بما يليق بصاحبي, فأعجب سالما هذا الحضور, وتوثقت العلاقة بينهما وتمكنت الصداقة. ولنا عنه- رحمه الله- حديث مستقل.

و (الثاني) هو والد فهد ويرحم الله فهداً ووالده, وندع الآن الشاعر الرصين خالد الفرج يحدّثنا عن والد فهد. يقول خالد الفرج هو: (يوسف بن محمد بن مُنيس الراشد من أعيان أهل الكويت وقد اشتهر بأخواله الدويرج. كان رحمه الله ذا فكر ثاقب وآراء سديدة, وكان صريحاً عنيفاً جعله المرحوم سالم الصباح أول حكمه مستشاراً له, فأشار عليه بتخفيض المكوس وإلغاء الضرائب, وأخذ في تنظيم الدوائر, وقضى على الاختلاسات والرشوة.

فكالوا له التهم جزافاً, وسعوا فيه لدى الإنجليز فنفي إلى بومباي سنة 1337هـ 1918م وصار إخلاصه وبالاً عليه. وتقلبت به الأحوال إلى أن مات في البصرة معدماً سنة 1362 هـ 1943 م).

هذه كلمة خالد الفرج جاءت لتوجز حياة ووفاة والد فهد الدويري أو (الدويرج) تصغير (دارج). والجيم ينطقها الكويتيون (ياء) في (الدويرج) (1).

ولخالد الفرج قصيدة بعنوان (نصيحة) بعثها إليه يقول فيها:

يا يوسف بن مُنْيس
قد صرت كالكابوس
خذ في المرونة درساً
من بعد هذا اليبوس
إنهب من الناس واضحك
يأتوك فوق الرءوس
وقد يعافون زادا
من كف وجه عبوس
يا ناصحا قد رموه
بالغش والتدليس
ماذا تفيد النوايا
في خافيات النفوس
خفّضت عنهم رسوما
من باهظات المكوس
وصرت خير رقيب
لكل لص خسيس
ضميره وتقاه
والدين كيس الفلوس
لما أتمّ الخطايا
رماك بالتنجيس
كالحلم إذ فسّروه
يجيء بالمعكوس
لو كنت عند سواهم
لصرت كالقديس

تضح لنا ملامح والد فهد النفسية والعملية من قراءة هذه القصيدة. ويتبين لنا منها أن والد فهد وهو يوسف الدويري شخص لا يهادن ولا يلين في الحق. كان حريصاً على الناس, مشفقاً عليهم. سعى لتخفيض الضرائب عنهم وتخفيف المكوس. وكان حريصاً على أموال الدولة ومواردها, حريصاً على تنظيم شئون الموجود من المؤسسات يومئذ. ونعلم أنه جاد كل الجد إلى درجة اليبوس وعبوس الوجه, حاد المزاج, متصلب الرأي فيما يراه حقّاً, مما أثار عليه الخصوم وهم كثر. فكالوا له الشتائم والتهم, وأسقطوا عليه ما في أنفسهم من ظلمات وظلم. لقد أخفقت ضمائرهم عن حمل الأمانة فألصقوا شوائبهم وأنشبوا مخالبهم فيه. لقد صار كابوساً, وصار جاسوس ضمير لا جاسوس أمير. فسعوا به إلى الإنجليز يتهمونه بمعاداتهم ويرمونه بما هم به أولى. ويحدّثنا التاريخ عن والد فهد كثيراً, وسنمضي معه بعد وقت يسير. ولئن بعدت قليلاً أو كثيراً بالحديث عن فهد كما يبدو ظاهراً,إلا أنه ابتعاد مقصود. فلقد فصلت حياته تفصيلاً موجزاً أمره في كتابي أدباء الكويت ومطيلاً في كتابي المستقل عنه تحت عنوان (شيخ القصّاصين الكويتيين فهد الدويري.. حياته وآثاره) فهو ابتعاد مقصود لكي أفسح المجال أمام من يريد دراسة فهد- رحمه الله- من خلال عطائه.

لكيلا أكرر كلماتي في الحديث عن حياة فهد- رحمه الله- مرة أخرى فما في حياة فهد الخاصة لديّ من جديد ولا مزيد, راجياً أن أرى من خلال ما يكتب عنه مزيداً.

لذا رحلت إلى والده, وفي حياة والده متسع ومجان لم تطرق عندي من قبل. وفيها لمن سيقرأ تاريخ تلك الحقبة من التاريـخ بعين ثاقبة وعقل نهـم مجـال من الحركة ومجال من الاضطراب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. إنها كلمات موجـزة عن فترة من فترات التاريخ غامضـة شـيئاً ما, ولعلها بحـاجة إلى تفصيل.لقد بدأ الشيخ سالم يتعامل مع الانجليز مكرها أو طائعاً. ولكنها الحقيقة, وبدا الناس ما بين مؤيد له ومنكر عليه. ولبريطانيا اليد الطولى في شئون الخليج, والكلمة النافذة والحرب العالمية الأولى يصلاها الجميع, والرأي للاقوى سلاحاً.

حياكة المؤامرة

قد حشدت بريطانيا مجموعة من الدول العربية في مؤتمر عقد في الكويت عام 1916م في أواخر حكم الشيخ جابر المبارك- رحمه الله- تأييداً للشريف حسين, وللقضية العربية كما تدّعي, ومات الشيخ جابر. من هنا على خليفته إتمام المسيرة, فوجد خصوم يوسف الدويري الوسيلة لتدميره وللإطاحة بسلطانه ونفوذه. ولن يعدموا الوسيلة أبداً.

لقد انتشرت في الكويت الإشاعات ضد بريطانيا, وحرص الموالون للعثمانيين على تثبيتها وترسيخها في أذهان الناس, وكانت الحرب العالمية على أشدّها, فخشيت بريطانيا زعزعة الثقة بها في تصديق هذه الإشاعات مما يعزز موقف العثمانيين والألمان في الحرب, فاغتنم أعداء يوسف الفرص, وكتبوا للمعتمد السياسي البريطاني في الكويت والدوائر البريطانية في البصرة أن يوسف الدويري هو وراء تلك الإشاعات ورأس مروّجيها فأبرق (كوكس) من البصرة برقية إلى المعتمد السياسي البريطاني في الكويت ليبلغ الشيخ سالماً عن موقف يوسف الدويري المعادي للحكومة البريطانية ويأمره بإبعاده فوراً عن الكويت إلى الهند.واستدعي المعتمد السياسي الشيخ سالم وأبلغه الأمر, وعبثاً حاول الشيخ سالم نفي التهمة والدفاع عن يوسف لكنه لم يفلح. وانتهت الزيارة ولم يجد الشيخ سالم بدّاً من إبلاغ صديقه بالأمر وضرورة تنفيذه, فالتمس يوسف من الشيخ سالم الشفاعة له لدى المعتمد ليبعد إلى الزبير أو الإحساء أو البحرين أو أي جهة عربية أخرى ما عدا الهند.

وافق الشيخ سالم, وكتب إلى المعتمد السياسي وأرفق مع كتابه رسالة يوسف الدويري التي قال فيها إنه سامع ومطيع للأمر على الصورة التي يرضاها الشيخ والمعتمد لكنه يتساءل: ما هو القصور الذي هو ثابت حتى يجازى بالنفي عن وطنه وعائلته. فإن من شأن أهل العدل والإنصاف أن يحققوا في كل قضية, وأن يردعوا أصحاب النوايا السيئة وأصحاب الغايات الرديئة ولا بيّنة تُدينه.

تسلم المعتمد الكتاب والرسالة, وأبرق إلى السيد بيرسي كوكس في البصرة برجاء الشيخ سالم وشفاعته في يوسف لكن كوكس لم يوافق على هذا الاسترحام وهذا الرجاء, وأمر بإبعاد يوسف الدويري عن الكويت إلى الهند بأسرع وقت. وفي 29 من شهر أغسطس عام 1918م أبعد يوسف الدويري عن الكويت فأرسل إلى البصرة ومنها إلى بومباي في الهند, حيث وضع تحت الإقامة الجبرية وخصص له راتب شهري, وبقي في منفاه سنتـين ولولا أن الحرب العالمـية انتـهت للبث في سجنه إلى أن يأذن الله له أو يلـحق بالرفيق الأعلى.

من المنفى إلى الإفلاس

وأعيد إلى الكويت من منفاه في أغسطس من عام 1920م, لقد نفي على شكل متعسّف, لم يعط فيه خياراً ولا فرصة لتدبير شئونه, فهو تاجر ثري واسع الثراء, وجاءه الأمر بغتة لم يجد فيه متسّعاً, فأوكل أمر تجارته إلى المرحوم (أحمد العبدالجليل) وحين عاد من منفاه وجد أن السيد (أحمد عبدالجليل) قد أفلس تماماً. والقدر أحياناً لا يرحم. ومما زاد الأمر سوءاً والطين بلة أن تتزامن هذه الأحداث مع حرب الجهراء التي وقعت في 10/10/1920م.وعلم الشيخ سالم بما آل إليه حال صاحبه, فوعده خيراً بعد أن تستتب الأمور وتتهيأ الفرص.لقد وعده أن يعيد إليه كلّ الذي خسره, ولكن القدر كان بالمرصاد فتوفي سالم في 23 فبراير عام 1921م وولد صاحبنا (فهد) بعد وفاته أو قبلها بأيام فكان شؤماً على والده- كما يقول- ورحل والده إلى البصرة ليرفع دعوى ضد (كوكس) الحاكم البريطاني للعراق.ومن هذه الكلمات التي أسهبنا فيها بالحديث عن سيرة يوسف الدويري والد صاحبنا فهد بن يوسف الدويري يدرك القارئ جيداً أنه كان أمراً مراداً ومطلوباً,لا معادا ولا مكروراً, فهذا الدور الاجتماعي الذي قام به الأب والذي نفي بسببه قد أتمّه الابن فهد على صفحات مجلة كاظمة ومجلة البعثة ومجلة الرائد. ولم يكن من الصدف أن يذيل فهد الدويري قصصه المبكّرة ومقالاته الرائدة في مجالها بأسماء تحمل في طياتها معنى الإصلاح والحكمة والثورة على الواقع الميت, نستشف استعارته لأسماء مثل أبي ذر وعجوز وقصّاص وأذن.لقد كتب فهد- رحمه الله- عن دوائر الدولة منتقداً, وكتب بلسان حال المستضعفين مرشداً, حمل هموم الناس, فعبّر عنها راسماً خطوط طريق غير معوج.هكذا كان الابن, وهكذا كان الأب, ورحم الله الرجلين أبّاً وابنا.

 

خالد سعود الزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات